يوميات كان 76 (2) الارتباك لايزال قائما!
أمير العمري- كان
نحن هنا في أكبر مهرجان سينمائي على وجه كوكب الأرض (كم هو ضئيل كوكبنا هذا وسط هذا الكون الشاسع!). ومع الدورة الـ76 من عمر هذا المهرجان الذي انطلق لأول مرة عام 1946 ثم توقف خلال سنوات الحرب قبل عودته متباهيا دائما بأنه “المهرجان الأكثر استقطابا لأهل الصناعة والفن”.
لا بأس.. فقد نجح مهرجان كان، أول وأكثر ما نجح، في جعل قرية مجهولة للصيادين في جنوب غرب فرنسا على ساحل البحر المتوسط، تصبح أغلى بقعة من نوعها على ظهر الأرض خلال أيام المهرجان الذي كان في الأصل أسبوعين ثم تقلص الى 12 يوما ، فأسعار الشقق والفنادق والمطاعم ومحلات البضائع، تتضاعف وتضاعفت أكثر وأكثر هذا العام بعد زوال وباء كوفيد- 19، بشكل رسمي، فالجشع الرأسمالي يفترض أن كل من يطأ بقدميه شاطيء “الكروازيت”، لابد ن يكون من منتجي هوليوود الأثرياء ذوي الكروش المتضخمة المليئة بالدولارات، أو ربما هناك من يعتقد أن الصحف التي أفلست ولم تعد تجد الإعلانات وتحولت إلى مواقع تكافح من أجل البقاء، يمكن أن تدفع نفقات كاملة وتغدق على من ترسلهم لتغطية هذا الحدث السينمائي.
طبعا هناك من المستجدين (من غير أبناء العالم العربي) أصحاب الحظ السعيد الذين التحقوا مؤخرا بالعمل في مؤسسات سينمائية نفطية أو نالوا مواقع “المبرمجين” في المهرجانات الخليجية المستحدثة، لا بحكم مواهبهم وقدراتهم وتاريخهم وحصيلتهم المعرفية، بل فقط، لأن القائمين على مثل هذه المهرجانات، يرضون عنهم لكونهم يقدمون لهم “خدمات خاصة” لهم. هؤلاء بعد أن كانوا يتسولون بطاقة صحفية، أصبحنا نراهم يجلسون في مقاعد الدرجة الأولى في الطائرات، ويقيمون في فنادق مثل كارلتون وماجستيك، التي ينزل فيهما كبار نجوم السينما في العالم. فالكفيل يدفع، ويدفع بسخاء وغباء أيضا!
لا بأس على الإطلاق من إطلاق المبرمجين الذين انتشروا في “كان” وغيره كالوباء، فمقاولو الأفلام هؤلاء، يزعمون أنهم يختارون الأفلام التي تعرض في المهرجانات في حين أن معظمهم لا يشاهد الأفلام ولكنه يقرأ ما يكتبه النقاد عنها، ومن الممكن بالتالي، الحصول عليها عن طريق البريد الالكتروني، علما بأن الكثير من الأفلام التي يشاهدونها تصدمهم مناظرها الجريئة التي لن ترضي قط رقابة المجتمعات “الإسلامية” العفيفة!
مرة ثانية تتصاعد شكاوى الكثيرين هنا من عقم نظام حجز التذاكر الذي فرض علينا في “كان” من العام الماضي، لدخول العروض المخصصة للصحفيين والنقاد بعد أن كنا ندخلها في زمن ما قبل الكوفيد- 19، بالبطاقات فقط. والآن أصبح يتعين علينا الاستيقاظ قبل السابعة صباحا لحجز بطاقات الأفلام التي سنشاهدها اليوم الذي يقع بعد 4 أيام، دون أن يفهم أحد ولماذا لا يمكننا حجز بطاقات الأيام الأربعة مرة واحدة، وهل هي وسيلة سادية مبتكرة لتعذيب الصحفيين والنقاد ومنهم من قضى أكثر من خمسين سنة في تغطية هذا المهرجان حتى اكتسب ما اكتسبه من سمعة في العالم.
أما البرمجة التي كانت مضرب المثل في الماضي، في دقتها، فقد أصبحت أيضا مختلة تماما من منذ العام الماضي، بعد أن أصبحت أفلام المسابقة التي أتينا لمشاهدتها أساسا قبل غيرها، لكونها أفلاما جديدة تتنافس على أهم جائزة في العالم، تُعرض في أوقات متأخرة من المساء فقط.
أمس وقع حدث لم يسبق له مثيل في هذا المهرجان من قبل، فالمعتاد أن تفتح الأبواب للدخول قبل نصف ساعة من موعد العرض، وقد يتأخر دخول الصحفيين والنقاد بضع دقائق، أما مساء أمس، فقد توجه مئات الصحفيين لمشاهدة الفيلم الفرنسي الذي كان يفترض أن يبدأ في الساعة العاشرة والنصف مساء، واصطفت الصفوف من التاسعة والنصف تحت المطر، إلا أن الأبواب لم تفتح سوى بعد الحادية عشرة مساء، ولم يبدأ الفيلم الا في الحادية عشرة و15 دقيقة لينتهي في الواحدة و15 دقيقة!!
أما السبب فهو أن القاعة كانت مشغولة بعرض فيلم افتتاح تظاهرة “نظرة ما”. والواضح أن السيد تييري فريمو، مدير المهرجان، أخذ كعادته يصول ويجول ويقدم فريق العاملين في الفيلم واحدا واحدا، ولكن بدلا من أن يستغرق هذا التقديم والقاء المخرج وبعض الممثلين كلمات قصيرة، استغرق الأمر وقتا طويلا كما وصل فريق الفيلم أصلا متأخرا أكثر من نصف ساعة عن الموعد المقرر لهم، وهو ما يتحمل مسؤوليته مدير المهرجان الذي لم يكلف نفسه النزول بعد كل هذه المحنة، لكي يقدم اعتذارا لمئات النقاد والصحفيين الذي تحملوا في صبر وصمدوا وهم يحملون مظلاتهم تحت المطر لأكثر من ساعة أو ساعة ونصف، ومنهم الكثيرون من كبار السن. لكن هذا هو منطق القائمين على مهرجان كان الذين يشعرون بكل الصلف الفرنسي الاستعلائي، أنهم يقدمون لنا خدمة لا تقدر بثمن!
في دورة عام 1986 من مهرجان فينسيا السينمائي، وكانت أول دورة لي في هذا المهرجان العريق، (أي منذ 37 سنة) كانت مناقشات الأفلام تقام في نفس قاعة العروض الصحفية بعد عرض الفيلم مباشرة. وكان الذي يدير المناقشات، أشهر مذيع في التليفزيون الإيطالي وقتها. وكان يسمح بخمس دقائق أو أكثر، للمصورين لكي يلتقطوا الصور لفريق الفيلم ونجومه بعد صعودهم إلى المنصة وبعد ذلك يحظر تماما التصوير وتبدأ المناقشة.
وما حدث أن الصحفية المصرية حُسن شاه، وأظن أنها كانت في ذلك الوقت ترأس تحرير مجلة الكواكب الفنية العريقة، دخلت القاعة بعد أن كانت المناقشة قد بدأت. وبمنتهي البراءة، اقتربت من المنصة بل وصعدت درجتين أو ثلاث درجات لكي تلتقط صورة (كان نظرها ضعيفا للغاية)، فانبرى لها المذيع الإيطالي المرموق الذي كان يهابه الجميع، ونهرها بالقول إن وقت التصوير قد انتهى. ضجت القاعة بالضحك وارتبكت السيدة حسن شاه وتراجعت وهي تشعر بالحرج الشديد، وكانت قد تقدمت في العمر. ولاحظ الرجل ارتباكها وشعورها بالحرج، فأبدى اعتذاره لها ورجاها أن تستكمل ما أرادت، وأن تلتقط من الصور ما تشاء، وأضاف (وكان كل الكلام مترجما): لدينا كل الوقت. سننتظرك.. فلولا الصحافة ما كان هذا المهرجان. لقد كنتم معنا باستمرار، ولا يسعنا سوى رد جزء يسير من أفضالكم علينا!
صفق الجميع، وتشجعت الصحفية المصرية المخضرمة، ونزلت عليها كلمات الرجل بردا وسلاما، وانتهى الأمر بكل حصافة ولباقة.
في كان لا أحد يعتذر ولا أحد يقر بالخطأ. وحتى الآن لم ينشر المهرجان سبب تأخر العرض أو يعتذر عما سببه من عذاب للجميع ليلة أمس، ثم كان العذاب الأكبر والأكثر قسوة متمثلا في ذلك الاختيار الرديء جدا للفيلم الفرنسي المفتعل (العودة) الذي شاهدناه أمس، وهو أحد الأفلام الفرنسية في المسابقة الرسمية، ولكن الفيلم بما له وعليه، موضوع آخر ليس محله هنا الآن!