يوميات فينيسيا-10: “حوت” أرونوفسكي!
أمير العمري
لا أعرف لماذا يربط الكثير من النقاد وهواة السينما المخرج الأمريكي دارين أرونوفسكي (ياله من اسم مميز!) وبين فيلمه الذي ذاع صيته “البجعة السوداء” Black Swan الذي افتتح مهرجان فينيسيا السينمائي في 2010، وكأن أرونوفسكي لم يصنع غير ذلك الفيلم الشكلاني المركب، بينما أرى شخصيا، أن فيلمه الأهم- وأتجرأ وأقول الأفضل كثيرا أيضا- هو فيلمه السابق مباشرة على “البجعة”، أي فيلم “المصارع” The Wrestler (2008).
كان “المصارع” كما كتبت وقتها، فيلم “تعليقا حزينا على ما يحدث للفرد في مجتمع لا مكان فيه إلا للقوي الذي يمكنه أن يبيع جسده من أجل إسعاد الآخرين.. تماما مثل راقصة التعري التي نراها في الفيلم، التي يقلقها كثيرا أنها أوشكت أيضا على فقدان قيمتها في السوق كسلعة، لكنه أيضا فيلم عن الحياة عندما تستبد بنا وتدفعنا إلى الاختيار الصعب: إما أن نحياها محرومين من السعادة التي ننشدها ونتطلع إليها ونحن قرب نهاية الطريق، أو نعجل بالنهاية ونحن مازلنا نتمتع بصورة البطولة والنصر.. حتى لو كانت هذه الصورة زائفة”. وكان عملا سينمائيا نابضا بالحركة والحياة، مليئا بالمشاهد الموحية، التي تنقل لنا فلسفة ارونوفسكي في سلاسة وبساطة وجمال.
هناك أواصر صلة ما بين فيلم “المصارع” وفيلم “الحوت” The Whale وهو العمل الجديد لأرونوفسكي الذي شارك في مسابقة مهرجان فينيسيا. فنحن في “الحوت” أمام بطل وحيد أيضا، تجاوز منتصف العمر، يحاول أن يحقق السعادة لمن حوله أو يعوضهم عما حرمهم منه، والمقصود ابنته الوحيدة المراهقة صاحبة السبعة عشر ربيعا، بينما يعيش أيامه الأخيرة، وكما كان المصارع ينتحر ببطء فوق حلبة الملاكة، فالحوت، ينتحر أيضا عن طريق الافراط في التهام كل أنواع الطعام الرديء، ورفض الذاهب إلى المستشفى رغم ما يصيبه من نوبات قاتلة.
“الحوت”- والتسمية ذات علاقة مركبة في الفيلم، هو شارلي (يقوم بالدور في أداء عظيم الممثل براندون فرايزر)، مدرس اللغة الانجليزية الذي يدرس لطلابه عن بعد، أي من داخل شقته الصغيرة الكئيبة الواقعة في الطابق الأرضي وعبر جهاز الكومبيوتر المحمول، الكتابة الإبداعية. وهو يعاني من مرض السمنة الشديدة فوزنه تجاوز المائتي كيلوجرام، ولم يعد يمكنه الوقوف أو السير، كما أنه يصاب بنوبات قلبية، كما نرى في أحد المشاهد لكنه ينجو منه، لا يتناول سوى الطعام السريع الرديء المليء بالدهون.
يتردد عليه ثلاثة أشخاص. المرأة التي تعني بشأنه وتحضر له الطعام وتساعده على التماسك، وصلتها به يشوبها الحزن الذي يملا سماء حياته، ثم شاب يهبط عليه فجأة، يريد أن يدعوه إلى الإيمان المسيحي والتوبة وطلب الغفران قبل أن يلقى مصيره بالموت، وأخيرا ابنته الشابة التي تحمل له الكثير من المرارة كونه هجرها ووالدتها وهي صغيرة، بعد أن وقع في غرام طالب من طلابه وارتبط معه بعلاقة جنسية وعاطفية، لكن الشاب الذي كان يدرس أيضا اللاهوت المسيحي، لم يقدر، كما سنعرف في مرحلة متقدمة بعض الشيء من الفيلم، على تحمل التناقض والألم والشعور بالذنب فأخذ حياته بيده.
انتحار الشخص الذي أحبه بجنون، دفع شارلي إلى الاكتئاب فاندفع في التهام الطعام وأغلق الباب على نفسه في تلك الشقة المبعثرة الأثاث، التي تشبه المقبرة. وهو يريد الآن عمل مصالحة مع ابنته، وأن يغادر الحياة بعد ان يكون قد كفر عن ذنبه تجاهها، لكن التصالح ليس سهلا. إنه يطالب طلابه أيضا بالابتعاد عن الكتابة التقليدية، والتعبير من خلال الكتابة الصادقة التي تنبع من القلب والتي تعبر عن ضمير الكاتب، مهما كانت قاسية، دون أي تزويق أو افتعال، وهو لا يفتأ يقرا قطعة تصف العلاقة المعقدة بين الكابتن “أهاب” والحوت في رواية “موبي ديك”، سنعرف فيما بعد، قرب النهاية، من الذي كتب تلك القطعة التي يعتز بها شارلي كثيرا ويعتبرها تحفة نادرة، في حين أن هذا الشعور لا يصل إلينا.. والمشكلة أن الفيلم يفترض أن مشاهديه يجب أن يكونوا، ليس فقط قرأوا الرواية، بل ومازالوا يذكرون أحداثها وتفاصيلها ومغزاها الفلسفي!
الفيلم مقتبس عن مسرحية الكاتب صامويل هنتر، ولابد أن تكون تلك الشخصية المركبة التي تتمزق بين الإيمان والشك، وبين الماضي والحاضر، مع الرغبة في تدمير الذات، قد أغرت أرونوفسكي، كما أغرته أيضا فكرة تحدي المكان الواحد بالتصوير المتنوع الزوايا، وإتاحة المجال لتقديم دراما نفسية، اجتماعية، ذات طابع ديني رمزي، عن رجل اختار أن يدفن نفسه داخل شقة أصبحت أقرب إلى مقبرة، يتعذب ويعذب المحيطين به، إلا أنه يتشبث أيضا رغم كل شيء ببصيص من الأمل، يريد أن يبثه في ابنته في النهاية.
مشكلة مثل هذا النوع من الأفلام، ذلك الطابع الاستاتيكي الجامد الذي يعتمد على التصوير داخل ديكور واحد مغلق، مع استخدام حجم الشاشة الصغيرة (المنسوب الأكاديمي الذي يجعل الشاشة كصندوق مغلق ضيق) للإيحاء بجو الاختناق كما لو كانت شقة الرجل هي السجن أو المقبرة، لا ينجح في تجاوز الفكرة الواحدة التي تتكرر طول الوقت، ليظل الفيلم يدور حول نفسه دون أي اختراق للدراما، أو تطور في الحبكة. ويأتي كل ما يريد الفيلم قوله في شكل أقرب إلى مونولوج طويل على لسان شارلي.
يعكس الفيلم ولع أرونوفسكي كعادته بالإشارات الرمزية (راجع فيلمه الشهير “أم” Mother) والحركة المحدودة للغاية من خلال شخصيات تدخل وتخرج كما لو كانت تتحرك على خشبة المسرح، والأكثر إرهاقا، اعتماد الدراما على الحوار الذي لا يكاد يتوقف لحظة واحدة، وهو حوار يجنح إلى المبالغات العاطفية واستدرار الدموع، الأمر الذي يجعل من مشاهدة الفيلم والخروج من قاعة العرض في النهاية، مهمة ثقيلة.
لا ينقذ الفيلم ويبقي عليه حيا سوى الأداء الممتاز المتميز كثيرا للممثل براندون فرايزر الذي يعود في هذا الفيلم بقوة، ليؤكد موهبته الكبيرة وقدرته على التقمص، بعد أن تعمد زيادة وزنه كثيرا، كما كان يرتدي ملابس معينة صنعت خصيصا له بحيث تمنح الإحساس بالبدانة المفرطة وثقل الحركة. ولا شك أن أداء فرايزر هنا يقربه كثيرا من المنافسة بقوة على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل. رغم أن الفيلم نفسه، لا أتوقع له أن يترك أثرا كبيرا.