يوميات فينيسيا-1: “ستيلا دالاس” عرض ما قبل الافتتاح

لقطة من داخل قاعة دارسينا يوم عرض ما قبل الافتتاح والمقاعد ممتلئة عن آخرها لقطة من داخل قاعة دارسينا يوم عرض ما قبل الافتتاح والمقاعد ممتلئة عن آخرها

أمير العمري

لو كان الأمر يقتصر فقط على مشاهدة الفيلم الذي يعرض في اليوم الذي يسبق الافتتاح الرسمي لمهرجان فينيسيا، طبقا للتقليد البديع الذي يتبعه المهرجان العريق منذ سنوات، ويميزه عن غيره من المهرجانات، بعرض إحدى تحف السينما الصامتة بمصاحبة أوركسترا تقدم عزفاً موسيقياً حيا يصاحب الفيلم، لكان هذا وحده، سببا كافيا عندي للذهاب إلى فينيسيا. أو أن هذا على الأقل شعوري الشخصي باعتباري من عشاق الكلاسيكيات السينمائية، وأرى أنها أصل وأساس (الفن) السينمائي. وقد وضعت كلمة (الفن) بين قوسين لأنني أعنيها، وأقصد التأكيد على أن الأفلام الروائية كانت تٌعامل عند ظهورها في أوائل القرن العشرين، باعتبارها أعمالا فنية تماثل أعمال الفن الرفيع.

أتاح لنا مهرجان فينيسيا خلال السنوات الأخيرة مشاهدة نماذج من التعبيرية الألمانية وغيرها من الكلاسيكيات، بعد أن تكون هذه الأفلام قد خضعت لعمليات الترميم والإنقاذ والتنقية ثم تحويلها إلى نسخ رقمية عالية النقاء 4k. وهي جهود تشارك فيها مؤسسات عديدة من بينها معامل مدينة السينما في روما.

هذا العام عرض قبل يوم الافتتاح في الثلاثين من أغسطس، الفيلم الأمريكي الكلاسيكي الصامت “ستيلا دالاس” Stella dallas الذي أخرجه هنري كنج وعرض عروضا عامة عام 1925. ويعود الفضل في ترميم وطباعة هذه النسخة الرائعة إلى متحف الفن الحديث في نيويورك بالتعاون مع مؤسسة الفيلم التي يشرف عليها المخرج الكبير مارتن سكورسيزي.

الأوركسترا المصاحبة للعرض قبل بدء الفيلم

عرض الفيلم في مسرح “دارسينا” الكبير في جزيرة الليدو، الذي يستوعب نحو 1500 متفرج، وامتلأت مقاعده عن آخرها ليلة هذا العرض الاحتفالي الذي أحيته بالطبع وكانت من معالمه الأساسية، أوركسترا مكونة من 13 عازفا، يستخدمون الآلات الوترية والنحاسية، الناي إلى جانب التشيللو، والبوق، بالإضافة الى قائدها والى العازف الرئيسي على البيانو. وهي فرقة الأمريكية المتعددة الأعراق، وطبيعي أن قائد الفرقة يعرف بشكل دقيق المواقف المختلفة من الفيلم، ومتى يشير بالانتقال الى النغمة التالية علما بأن الموسيقى المصاحبة للعرض تستمر من بداية الفيلم الى نهايته من دون أي توقف، فهي تحل بديلا عن الحوار في معظم الأجزاء. ورغم ظهور بعض عبارات الحوار مكتوبة على الشاشة، إلا أن العبء الأكبر يقع على عاتق الموسيقى في التعبير عن المشاعر ونقلها لنا مباشرة. ولم المح في أي لحظة من لحظات هذ العرض البديع، أي ارتباك أو فوات للتطابق بين الصوت والصورة، أو بين الموسيقى والمواقف المختلفة.

الفيلم نموذج دال على حضور المرأة في صناعة السينما من البدايات الأولى، فقد كتبت له السيناريو الكاتبة “فرانسيس ماريون” مستندة إلى رواية المؤلفة “أوليفيا هيجنز براوتي”، وفي قلب الفيلم أي بطلته، امرأة هي شخصية “ستيلا” التي قامت بدورها “بيللي بينيت”، بينما قامت بدور ابنتها “لوريل” في مراحلها العمرية الثلاث من الطفولة الى الشباب ببراعة كاملة، الممثلة الشابة “لويس موران”.

ويروي الفيلم قصة ذا طابع ميلودرامي، عن فتاة (ستيلا) تنتمي للطبقة الفقيرة، تطمع في الزواج من رجل ثري، فتنجح في إغواء المهندس المحترم “ستيفن دالاس” (يقوم بدوره رونالد كولمان)، وتتزوجه ويعيش الاثنان معا حياة سعيدة وينجبان طفلة هي “لوريل”، لكن الأم “ستيلا” لا يمكنها التخلي عن حياة التصعلك والتدني فهي تتشبث بصداقتها مع رجل من محترفي سباق الخيل، لكنه أصبح الأن مدمنا للخمر، غريب الأطوار، يفرض نغسه عليها ولا يبدي أي احترام لها أو لابنتها، ومع ذلك فهي لا تريد أن تتخلى عنه، رغم ميله للمشاغبة والمشاكسة، وتنهار علاقتها بزوجها بعد أن ترفض أن تذهب معه الى نيويورك بعد أن حصل على ترقية كبيرة من الشركة التي يعمل لها، وتفضل البقاء بالقرب من صديقها المشاغب السكير “إد مان”.

لوريل ترفض وجود هذا الرجل في حياة أمها، فهي مرتبطة عاطفيا بوالدها الذي استجاب لوالدتها وتركها في رعايتها. وتمضي سنوات، وتكبر لوريل وتتفوق في دراستها، ولكن أمها أصبحت تمثل عائقا اجتماعيا أمامها فهي لا تستطيع اللحاق بالطبقة الاجتماعية الأرقى بسبب سلوكيات أمها المتدنية، لكن لوريل لا تتخلى أبدا عن أمها رغم المواقف الحرجة التي تضعها فيها أمام صديقاتها، ورغم ان خطيبها تخلى عنها بسببها. وأخيرا تدرك ستيلا ما سببته من مشاكل لابنتها فتوافق على الطلاق بعد ان كانت ترفضه بشدة، لكي تتيح الفرصة لزوجها للزواج من حبيبته القديمة من نفس طبقته، “هيلين” التي أصبحت أرملة لديها ثلاثة أبناء. ثم تذهب وتقنع هيلين بقبول لوريل كإبنة لها بديلة عنها.

لا أريد أن أكشف تفاصيل الفيلم النهائية وهو بالمناسبة متوفر على قناة يوتيوب ولكن في نسخة أخرى ليست بالطبع هي النسخة الحديثة الرائعة التي عرضت في فينيسيا، كما أن موسيقاه ليست نفس الموسيقى التي كتبها خصيصا بتكليف من متحف الفن الحديث، المؤلف الموسيقي الإنجليزي المتخصص في موسيقى الأفلام الصامتة “ستيفن هورن”. وهو شخصية جديرة بمتابعة أعمالها الموسيقية وهي متعددة ومدهشة فعلا.

إخراج هنري كنج مبهر، يجعلك لا تصدق أن هذا الحس البديع بحياة الطبقة العاملة، وحياة التشرد والبطالة، وتصوير الفروق الطبقية في المجتمع الأمريكي، والصدق في تصوير التفاصيل، والاتقان في كل مشهد من توزيع الإضاءة إلى حركة الكاميرا، إلى الانتقال بين الداخل والخارج، واستخدام الفلاش باك كثيرا في سياق السرد، كل هذا كان يمتلكه وينفذه بكل هذه البراعة في السينما عام 1924. ولابد أنك ستدهش أيضا لبراعة التمثيل وسيطرة كنج على الأداء التمثيلي، وتفوق مجموعة الممثلين جميعا الذين يظهر بينهم أيضا “دوجلاس سيرك” الصغير.

حقق هذا الفيلم في زمنه، نجاحا تجاريا هائلا رغم أن انتاجه تكلف 700 ألف دولار وهو رقم ضخم بمقاييس الفترة، مما أدى إلى إعادة إنتاجه عام 1937، في فيلم جديد، ناطق هذه المرة، من إخراج كنج فيدور، قامت ببطولته باربره ستانويك وحصلت على أوسكار أفضل ممثلة عن دورها فيه، ثم في فيلم آخر عام 1990 من إخراج جون إيرمان.

والطريف أن صامويل جولدوين الذي أنتج الفيلم الأول قال إنه اختبر 77 ممثلة قبل أن يقع اختياره على بيللي بينيت، وهو الذي سيعود وينتج طبعة 1937، وعاد ابنه صامويل جولدوين الإبن، لكي ينتج نسخة 1990.

ومن الطريف أن مجلة فاريتي نشرت تقييما مقتضبا للفيلم في ديسمبر 1924 وصفت فيه الفيلم بأنه “فيلم أم” عظيم، وقالت أن “هنري كنج يروي قصته بسلاسة ومباشرة من دون تعقيدات درامية”. ومع نجاح الممثلة بيللي بينيت في دور الأم، قامت بعد ذلك بدور الأم في أفلام كثيرة.

متعة مشاهدة الأفلام مع الموسيقى وسط جمهور من النخبة التي تحترم العرض، متعة لا تضاهيها متعة أخرى. وكان مهرجان لندن السينمائي هو أول من ابتكر هذا النوع من العروض. وأتذكر أنني شاهدت في الثمانينيات في قاعة كوين اليزابيث خول، عرضا رائعا بمصاحبة أوركسترا أمستردام، لفيلم “نوسفيراتو” الكلاسيكي الصامت لإدوارد مورناو، وعرضا آخر لفيلم “المدمرة بوتمكين” لايزنشتاين.

طوبي للسينما ولمن يقدرون الكلاسيكيات.

Visited 16 times, 1 visit(s) today