يوميات الموسترا (6): “لوبو” والعذاب الإنساني
أمير العمري- فينيسيا
من أهم ما عرض في مسابقة الدورة الـ80 من مهرجان فينيسيا السينمائي، الفيلم الإيطالي “لوبو” (من الإنتاج المشترك مع سويسرا)، وهو أفضل أفلام المخرج الإيطالي جورجيو ديريتي (والفيلم الإيطالي الرابع في المسابقة).
ورغم طوله المفرط (نحو ثلاث ساعات) إلا أنه لا يفقد القدرة على تحقيق المتعة، وخصوصا مع ذلك الأداء البديع من جانب الممثل الألماني “فرانز روغوفسكي” في الدور الرئيسي، وهو الممثل الذي برز خلال السنوات الأخيرة وأصبح من أهم الممثلين الأوروبيين، وسبق أن تألق في فيلم “ديسكو بوي” Disco boy أو “ولد الديسكو” الذي عرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي.
وإذا كان من الممكن النظر إلى “لوبو” باعتباره فيلما من أفلام الرحلة أو الطريق، حيث يمتد السرد فيه من الريف السويسري إلى زيورخ، ثم إلى لوغانو، وإلى بحيرة ماغيوري، يمكن أيضا اعتباره فيلما من أفلام “دراسة الشخصية”، فهو يتابع من البداية حتى النهاية، التحولات الدرامية الكبيرة التي تطرأ خلال عشرين سنة من المعاناة، على شخصية رجل ينتقل من القاع إلى القمة، ويخوض في محنة ممتدة، هدفه الوحيد استعادة أبنائه الذين انتزعوا منه رغما عنه في ظرف تاريخي معين، وبموجب سياسة منهجية للتفرقة بين الأعراق والأجناس كانت متبعة حتى وقت قريب في الدولة السويسرية.
وخلال تلك الرحلة لا يغيب روغوفسكي قط عن الصورة، فهو الذي يحمل الفيلم على كتفيه، بمساعدة مجموعة من الممثلين والممثلات على أرفع مستوى، واستعادة دقيقة مدهشة لأجواء الفترة التي يمر عبرها الفيلم، من عام 1939 إلى 1959.
يستند سيناريو الفيلم الذي كتبه ديريتي بالاشتراك مع فريدو فالا، على رواية “الزارع” Il Seminatore الصادرة عام 2004، للكاتب الإيطالي ماريو كافاتوري، وهي تستند بدورها على حقائق تاريخية، وإن كانت شخصياتها من وحي الخيال.
الحقيقة التاريخية التي تستند إليها الرواية، والفيلم، هي سياسة الاضطهاد العرقي التي كانت سائدة وتمارس في سويسرا (وبعض بلدان وسط أوروبا) تجاه أقلية عرقية كان ينظر إليها باعتبارها جماعات غجرية، عرفت بـ”الينيش” Yenish وكان أفرادها ينتقلون من مكان إلى آخر، ويقيمون في عربات تجرها الخيول، إلى أن استقروا على هامش المدن.
وكانت السلطات ترى أن أطفالهم يمكن أن ينشأوا لصوصا ومجرمين، لذلك صدر قانون يقضي بحرمانهم من أطفالهم وفصلهم عنوة عنهم، وإدخال هؤلاء الأطفال مدارس تشرف عليها الدولة، وبذلك تقطع أي صلة لهم بثقافتهم الأصلية، وتقصيهم، ليس فقط عن آبائهم، بل وعن بعضهم البعض أيضا، بحيث يتم القضاء على أي صلة لهم بالماضي، ثم يتم عرضهم للتبني. وكثيرا ما كانوا يتعرضون للاستغلال البشع من جانب الأسر التي تتبناهم، ومنهم، كما نعرف من خلال هذا الفيلم، من كان يهرب أو ينتحر. وقد استمرت تلك السياسة تمارس في سويسرا من 1926 إلى حين صدور قرار بوقف العمل بها عام 1973 بعد ضغوط شديدة واحتجاجات كثيرة من جانب جماعات حقوق الإنسان. وهو ما نعرفه في نهاية الفيلم.
اما “لوبو” فهو حاوي، يعمل مع أبنائه الثلاثة وزوجته في تسلية أهالي القرية التي يقيم فيها في الريف السويسري، مقابل الحصول على بعض المال لإعاشة العائلة ومنها أيضا الجد العجوز. وذات يوم ينقلب حال لوبو وحال أسرته تماما، فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية، يتم تجنيده ودفعه الى منطقة حدودية، في إطار الحشد العسكري العام تحسبا لهجوم ألماني قد يقع على سويسرا. وينفصل لوبو بالتالي عن أفراد أسرته، ولكن سرعان ما يصله خبر قيام السلطات بانتزاع أبنائه الثلاثة، وأخذهم بعيدا، ووفاة زوجته بينما كانت تقاومهم بعد أن اصطدمت رأسها بالعربة الخشبية. وتتاح فرصة أمام لوبو للهرب الى فرنسا مع ابن شقيقه الذي دبر له جواز سفر مزور، لكنه يرفض مصرا على البقاء لاستعادة أبنائه.
ما سيحدث بعد ذلك أن القدر يسوق في طريقه رجلا يهوديا مجرياً، يركب سيارة جديدة، يطلب أن يساعده لوبو في نقل بعض المقتنيات عبر الحدود، لكن لوبو يطمع في الغنيمة، فيقتل الرجل ويستولي على السيارة والمقتنيات الثمينة التي ستكفل له ثروة ضخمة وصعودا سريعا في أوساط الطبقة الأرستقراطية بعد أن ينتقل إلى زيورخ، وهناك يقيم علاقات نسائية متعددة مع نساء من تلك الطبقة، ومنهن امرأة متزوجة من مدير مصرف، تحمل منه، لكنه لا يأبه وسرعان ما ينتقل إلى مدينة أخرى، وكأنه ينتقم من الطبقة التي أذلته وحرمته من أبنائه.
لوبو أصبح الآن يرتدي أفخر الثياب، ويقيم في أفخم الفنادق، منتحلا شخصية الرجل المجري الذي قتله، يتجول ويقدم نفسه باعتباره تاجرا للحلي الذهبية والمجوهرات. لكن يظل هدفه الدائم هو البحث عن أبنائه الثلاثة، لذلك فهو يتقرب من المشرفين على تلك المدارس التي يتم الحاق أبناء “الينيش” فيها، يتبرع بكثير من المال لها، ويتسلل ليفتش في الدفاتر والأوراق هنا وهناك، وينتقل من مدينة إلى أخرى، لعله يعثر على أي أثر يدله إلى أبنائه ولكن من دون جدوى.
تلوح له أخيرا فرصة للاستقرار، بعد أن يقع في حب (مارجريتا) الإيطالية التي تعمل خادمة في أحد الفنادق في الجانب الإيطالي من سويسرا، لديها ولد من زوج غادرها إلى أمريكا، وهي تحمل في طفل من لوبو الذي يريد أن يتزوجها ويشترى بيتا يعده لحياته الجديدة، إلا أن أمره ينكشف، ونعرف أن المقتنيات التي كان اليهودي المجري يقوم بتهريبها داخل سويسرا، هي مقتنيات عائلات يهودية مجرية كان الألمان قد قاموا بنقل أفرادها إل معسكرات الاعتقال.
شخصية لوبو شخصية مركبة، ورغم أنه مارس القتل والسرقة وانتحال الشخصية إلا أن فيه أيضا الكثير من الجوانب التي تجعلك تتعاطف معه، فهو أب مخلص أصبح ضحية لسياسة التفرقة العنصرية والعرقية، ففقد زوجته وأبناءه، وحرم من العيش الحر، وأصبح حبيسا في دور ليس دوره ولا يشعر فيه بالسعادة، وعندما يلتقي بالمرأة التي يحبها ويمكنها أن تصبح تعويضا له عن أسرته المفقودة، لا تكتمل سعادته، بل يتعين عليه أن يدفع ثمن خطاياه. رغم أنه ليس الخاطيء الوحيد هنا، فهو شخصية فيها الكثير من الملامح التراجيدية، التي يلعب القدر دورا كبيرا في تحديد مصيرها.
في أحد المشاهد البديعة، يودع لوبو (الذي اتخذ أسماء عديدة لنفسه وانتحل أكثر من شخصية)، رفيقته مارجريتا وابنها أنطونيو اللذين يعودان إلى البلدة التي يقيمان فيها عبر الحدود بينما يظل هو في الأراضي الإيطالية.. وعلى شاطيء البحيرة يجلس بجوار شحاذ يحمل آلة الأوكورديون. يطلب أن يستعيرها منه، يثبتها على صدره ويدور في أرجاء المكان، وهو يعزف الموسيقى الشجية الراقصة المرحة التي كان يعزفها في الماضي عندما كان يعمل حاويا.. وهو مشهد يعكس رغبته في التحرر من الدور الذي تقمصه طويلا، بل إنه يسر لمارجريتا ذات مرة، بأنه ليس رجلا ثريا كما يبدو بل هو مجرد حاو، لكنها لا تصدقه بل تظنه يمزح!
يعاني الجزء الأخير من الفيلم، من بعض الاضطراب في السرد والإطالة والاستطرادات، فلوبو يخرج من السجن بعد أن قضى عشر سنوات، ويعود لكي يعرف أن مارجريتا ماتت جراء المرض الذي أصابها، وتركت الولد الذي أنجبته منه في رعاية ابنها أنطونيو الذي يعمل في مؤسسة خيرية رياضية، ثم يكتشف أن المشرف على المؤسسة، رجل منحرف جنسيا مصاب بالبيدوفيليا، يستغل شقيقه الصغير، كما يكتشف لوبو أن رسائله الى مارجريتا لم تصل إليها قط بعد أن قام أنطونيو بحرقها، ويرفض أنطونيو رفضا قاطعا أي صلة مع لوبو الذي يعتبره لصا وقاتلا.. وكلها تفاصيل تمر سريعا، وفي سياق يجعل الفيلم يبدو أقرب إلى مسلسلات التليفزيون. وينتهي الفيلم بفضح الانتهاكات الإنسانية التي تعرض لها أبناء “الينيش” بموجب قانون التفرقة، وتواطؤ وعنصرية النظام القضائي قبل أن تتغير الأوضاع بالطبع في زمن آخر.
ويظل أداء روغوفسكي، يأسرنا، في دور “لوبو” منتقلا في شخصيته، متلونا في أدائه، مسيطرا على جميع المشاهد التي يظهر فيها، بألمه وحزنه الشخصي العميق، ومأساته التي تعكس مأساة أهله الذين تعرضوا لأبشع أنواع التصفية لدرجة أنهم أصبحوا مهددين بالاندثار.
ومن أكثر عوامل الجاذبية في الفيلم الى جانب الأداء، التصوير البديع الذي قام به مدير التصوير الإيطالي بنجامين ماير الذي يتمكن من تصوير الطبيعة السويسرية سواء في الجبال التي تغطيها الثلوج في المنطقة الخلوية قرب الحدود، أو الفضاء المفتوح في ساحات المدن الصغيرة البديعة، مع استخدام الإضاءة الخافتة في المشاهد الداخلية، والألوان الداكنة، بحيث تنسجم بشكل مدهش مع الديكورات التي تطابق تفاصيل الفترة.
صور ديريتي مناظر فيلمه في نحو 100 موقع، واستخدم 100 ممثل وممثلة في الأدوار الرئيسية والصغيرة، وأكثر من 1300 من الكومبارس من مناطق مختلفة، ودار التصوير في فصول السنة المختلفة، وجاء الفيلم تحفة بصرية رغم أي اضطراب في البناء العام في الجزء الأخير.