ويحدثونك عن صناعة للسينما.. قل بل تجارة وورشة “تحت السلم”!

محاولة لرصد أحوال السينما المصرية

بقلم: أحمد رزق الله

حاولت كثيراً فهم تلك الدهشة التي تصل لحد الصدمة التي تصيب الكثير من متابعي أحوال السينما المصرية في كل موسم سينمائي مع النجاح الجماهيري الكبير الذي تحققه الأفلام التجارية التي ينتجها السبكي ومَن على شاكلته.

 نفس ردود الفعل المبالغ فيها ونفس التعليقات المحفوظة كل مرة كما لو كان هذا بالأمر الجديد وغير المتوقع. وحدهم القائمون على صناعة السينما بمصر هم من أتصورهم غير متفاجئين مما يحدث. فهم على علم بأن الأوضاع المسيطرة على صناعة السينما في مصر لا تسمح سوى لهذه النوعية من الأفلام المشوهة بالظهور وتحقيق إيرادات بينما تنحصر فرص نجاح الأفلام الجادة التي تحترم عقلية مشاهديها على ضربة حظ أو خطة تسويقية كبيرة تقف خلفها مؤسسات سينمائية ضخمة.

الأوضاع التي تؤدي إلى نجاح الخلطة التجارية للسبكي لها عدة أبعاد تم مناقشتها مراراً، بدءاً بالأبعاد الاجتماعية (فعشوائية الحياة في مصر من الطبيعي أن تؤدي إلى إعجاب البسطاء بهذه الأفلام العشوائية التي هي إنعكاس لحياتنا جميعاً) والأبعاد الاقتصادية (أي مواطن مطحون ومشغول ستة أيام في الأسبوع بالجري وراء لقمة عيشه من المؤكد أنه لن يسعد كثيراً بمشاهدة فيلم يدفعه إلى التفكير والتأمل وإنما أقصى ما يتمناه هو أن يقضي ساعتين أمام فيلم يفصله عن عالمه ويعطي لعقله أجازة في سبيل الخلطة السحرية من إفيهات مبتذلة ورقصة حلوة وشوية أكشن) والأبعاد النفسية (ففاقد الشئ يبحث عنه في السينما وجانب كبير من جمهور السبكي فاقد في بيته لما أنعم الله به على دينا أو أو فاقد لجبروت وبلطجة محمد رمضان).

غير أن العنصر والبعد الرئيسي قليلاً ما يتم إلقاء الضوء عليه عند تحليل أسباب نجاح تلك الأفلام -في مقابل ندرة الأفلام الجادة وضعف الإقبال عليها- وهو البعد السينمائي نفسه الذي يجب إعطاؤه الأولوية عند النظر إلى عمل يفترض أنه يندرج تحت مُسمّى صناعة السينما.

ولكن هل تملك مصر حقاً صناعة للسينما؟ من المفترض أن تكون إجابة السؤال بالإيجاب نظراً لكون السينما المصرية واحدة من الأعرق في العالم (بدأ إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في مصر في العشرينات من القرن الماضي) بالإضافة إلى كونها الأغزر إنتاجاً على نطاق المنطقة العربية حيث تراوح عدد الأفلام المصرية في الخمس سنوات قبل الثورة بين 30 و50 فيلماً مما يجعل مصر رائدة الإنتاج في المنطقة بفارق واسع عن المغرب وتونس واللتان نادراً ما تجاوز إنتاج أي منهما العشرين فيلماً (كما تأتي مصر في المرتبة الثانية إنتاجاً في القارة الأفريقية بعد السينما النيجيرية).

غير أن هذه الصورة لا تتفق مع واقع الأمر الذي يشير إلى أن السينما في مصر لا ترتقي إلى مصاف الصناعة وإنما تميل أكثر إلى كونها تجارة..أو قد يكون الوصف الأدق لها هو أن السينما في مصر شبه صناعة يتم إدارتها بفكر تجاري على يد حفنة أغلبهم لا يملك أي فكر إداري.

فأي صناعة محترمة –خاصةً في الدول النامية- سيكون مصيرها الفشل والعشوائية إن اختُزلت في مجرد عملية إنتاج تليها عملية بيع وشراء في سوق شبه حر، وذلك في غياب تام لأي إطار قانوني مرن ومتطوّر مع الزمنوآليات تنظيم ومراقبة (وليست رقابة) لضمان المنافسة العادلة وتكافؤ الفرص بين جميع أطراف اللعبة، بالإضافة إلى ضعف أدوات الدعم والتحفيز لصغار المنتجين والموهوبين ذوي الأفكار غير التقليدية التي ترفض التقيّد بأساليب الإنتاج المكررّة. هذا كلام عن الصناعة بصفة عامة وليس عن السينما ولكن عند الربط بين السينما في مصر وبين هذه المباديء البسيطة سنكتشف أن “هوليوود الشرق” لا تمتلك أي صناعة للسينما بل تمتلك ورشة تحت السلّم.

غرفة صناعة السينما

بالبحث عن الكيان المسئول عن تطوير “صناعة” السينما في مصر يتبيّن أن الجهة المنوطة بهذا هي “غرفة صناعة السينما” التي أُنشئت عام 1972 بهدف واضح وهو “رعاية مصالح أعضائها والنهوض بالصناعة ورقيها وتقدمها” كما جاء بصفحتها الفقيرة على الموقع الإلكتروني لاتحاد الصناعات المصرية (فالغرفة المسؤولة عن تطوير الصناعة لم تطوّر من نفسها بعد وتساير الزمن بإنشاء موقع خاص بها).

وبنظرة على تشكيل مجلس إدارة الغرفة للسنوات 2010-2013 نجد أن الأغلبية الساحقة لأعضائه الخمسة عشر هم أصحاب شركات الإنتاج السينمائي الكبرى في مصر (بالإضافة إلى عدد قليل من الشركات التي توقفت عن الإنتاج أو التي لا وجود لها سوى على الورق، وهم أنفسهم المسيطرون على دور العرض في مصر وبالتالي المتحكمون في عملية التوزيع السينمائي.

هذا التشكيل يفسّر لمَ لا يسمع أحد صوتاً لهذه الغرفة سوى في الأمور التي تمس مصالحهم الشخصية كمنتجين وموزعين مثل قرارات الحكومة كل بضعة سنين بزيادة ضريبة الملاهي (والتي تؤدي إلى زيادة سعر تذكرة السينما وبالتالي تضع إيراداتهم في خطر) أو القرار الذي اتخذ بفرض رسوم ضريبية على واجهة السينمات.

هنا فقط تنتفض الغرفة ويطلق أعضاؤها تصريحات التهديد والوعيد تجاه الحكومة التي “تريد هدم صناعة السينما”. فطالما أن الحكومة قد اتخذت قرارات تضرهم أصبحت عدواً ولكن طالما أن الدولة قد تركتهم في حالهم فلا يوجد أي داع لاتخاذ أي إجراءات أو قوانين تحمي صناعة السينما المصرية وتدفعها للأمام..بل يمكن فقط اتخاذ قرارات أخرى تخدم مصلحتهم هم مثل قرار منع عرض الأفلام الأجنبية في مواسم الأعياد حتى يستطيعوا كمنتجين لمّ أكبر غلّة من الموسم وبالطبع صرفها في استثمارات أخرى تدر عليهم مكاسب أكبر دون أي عائد حقيقي لتطوير السينما المصرية ولتشجيع المنتجين الصغار الذين يسبحون ضد هذا التيار التجاري البحت ولا ينالون من الدلع جانباً نظراً لكونهم غير أعضاء بالغرفة وليسوا من الكيانات المؤسسية الكبيرة.

إن التغيير الإيجابي الوحيد الذي حدث في صناعة السينما في مصر خلال العقد الماضي هو ذو طابع استثماري بحت ويتمثّل في الزيادة الواضحة لعدد دور العرض السينمائي والذي وصل إلى حوالي 550 شاشة (حسب إحصائية للبرنامج الأوروبيEuromed Audiovisual III-  وذلك قبل الافتتاح الأخير لعدد كبير من الشاشات بمحافظة 6 أكتوبر) وهو أضعاف عدد الشاشات بالدول العربية الأخرى (حوالي 90 شاشة بلبنان و75 بالمغرب و35 بسوريا). دور العرض بالتأكيد عنصر هام وضروري لتطوّر صناعة السينما في أي دولة، ولطالما اشتكى المنتجون في الماضي من قلة دور السينما في مصر وهو ما يحول دون إنتاج أفلام لقلة العائد منها. غير أن التوزيع الجغرافي لهذه الشاشاتيؤكد الطابع الاستثماري لهذا التوسع واضعاً دعم الصناعة في قاع الأولويات، فمناطق مثل مدينة نصر والشيخ زايد ووسط البلد أصبحت تضم عدداً مهولاً من الشاشات أكثر من طاقتها مع وجود خطط أخرى للتوسع هناك، بينما لا يفكر أحد في بناء مجمع سينمائي في مناطق مثل حلوان أو المطرية أو غيرها ممن تندر وجود شاشات بها.

وأين المحافظات الفقيرة من شاشات السينما؟ ألا تستحق أن يكون بها دور عرض آدمية بدلاً من تلك المتهالكة –إن وجدت- أم أن الفقراء ممن لا يستطيعون دفع 30 جنيهاً ثمناً للتذكرة ومن يعجزون عن شراء الفشار ذي العشرين جنيه من بوفيه السينما لا يستحقون مشاهدة فيلم في مكان محترم؟

الغريب أنه في ظل ولولة القائمين على صناعة السينما خوفاً من محاربة التيار الإسلامي للفنون لم يكلفوا خاطرهم بذل مجهود لنشر السينما بالمحافظات ووسط الفئات الأكثر فقراً ليصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من حياة هؤلاء بحيث لا يجرؤ أي تيار متشدد على نزعه منهم وتغيير نمط حياتهم دون مقاومة (فقط الأفلام القديمة نجحت في غرس هذه الثقافة بفضل إذاعتها في التليفزيون).

لكنهم انشغلوا بدلاً من ذلك بافتتاح المجمعات السينمائية الضخمة الملحقة بالمولات التجارية والتي تضمن لهم أكبر دخل من فئة معينة من الناس، ولا مانع أيضاً من جني المزيد من الأرباح بإدخال الشاشات الـIMAX   لتكون مصر واحدة من أربع دول عربية فقط لديها هذا النوع من دور العرض وكله استثمار في استثمار.

أمثلة

ولكن غير الشاشات هل حدث أي تطوير لصناعة السينما في مصر طوال الفترة الماضية؟ أبداً فهي من سيء إلى أسوء وذلك تحت إشراف الغرفة التي لا تقوم بأي من المهام الأصلية المسؤولة عنها بالمشاركة مع وزارة الثقافة بصفتها المظلّة الأكبر للسينما في مصر. وتلك بعض الأمثلة لتدهور الصناعة:

* أين القائمون على السينما في مصر من سرقة الأفلام العربية والأجنبية بمنتهى الوقاحةعلى قنوات النايل سات المختلفة دون أن يتم تطبيق أي عقوبات عليها؟ ما الذي يشجّع شركات الإنتاج المحترمة على صنع فيلم عالي التكلفة وهم يعرفون أنه سيتم سرقته عيني عينك مما يحرمهم من بيع الحقوق الحصرية لعرضه التليفزيوني وسيقلل من عوائد تحويله إلىDVD؟ أليس في هذا تعارض مع ميثاق الغرفة الذي ينص على أنها أُنشئت بهدف “رعاية مصالح أعضائها”؟

*  وفي نفس نطاق حماية الملكية الفكرية، لم أسمع شخصياً عن أي تحرّك حقيقي تجاه عمليات القرصنة وتسريب الأفلام على الانترنت، فهل تم القبض على أي ممن يصورون هذه الأفلام من داخل قاعات العرض أو هل تم إغلاق أي من المواقع التي تسرّب هذه الأفلام؟ أقصى ما فعلوه هو وضعهم تحذير قبل بدء عرض الفيلم بمنع التصوير، ومؤخراً رصد مكافأة لمن يبلغ عن رؤيته لمن يصوّر الفيلم (عقلية اللجان الشعبية!) فهل عجز القانون المصري عن حماية الملكية الفكرية؟ وإذا كان القانون مقيداً فأين الغرفة من الضغط لتعديل القانون وتمكينهم من تحجيم هذه المأساة؟

 * أين خطة جذب الأفلام الأجنبية لتصوير أحداثها بالاستديوهات المصرية بدلاً من الذهاب إلى المغرب والأردن التي أصبحت استوديوهاتها عاملاً مشتركاً في جميع الأفلام الأجنبية التي تقع في أحداثها فيالشرق الأوسط (بما فيها مصر نفسها)؟ نحن اكتفينا بالحل العقيم الذي يتمثل في بناء استديوهات ومدينة إنتاج إعلامي ضخمة كلفتنا الكثير ولكن لم نكلّف خاطرنا بتعديل القوانين والإجراءات الجمركية الطاردة لأي منتج أجنبي يفكر في التصوير بمصر، رغم أن العائد من هذا الأمر كفيل بدفع الصناعة خطوات إلى الأمام سواء العائد المادي أو الخبرة الفنية التي يكتسبها الفنيون والعاملون المصريون المشاركون في هذه التجارب العالمية.

 * بجانب المشاركات الهزيلة والنادرة للسينما المصرية في أسواق الفيلم التي تقام على هامش المهرجانات السينمائية، هل كان لغرفة صناعة السينما المسؤولة عن ترويج الفيلم المصري أي محاولات جادة أخرى لتصل سينمانا إلى الغرب؟ لم يكن للغرفة على ما أعلم أي دور في المرات النادرة التي عرض بها فيلم مصري عروضاً تجارية بالخارج، فأفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله تُعرض في فرنسا لوجود منتج فرنسي مشارك يكون المسؤول عن عملية التوزيع الخارجي. وعندما عُرضت أفلام شركة “جود نيوز” بالخارج (مثل عمارة يعقوبيان) كان وراء ذلك مؤسسة ضخمة تدفع الملايين لتسويق أفلامها، وحتى النجاح الكبير الذي حققه فيلم “678” مؤخراً في دور العرض الفرنسية لم يكن وليد جهود القائمين على الصناعة وإنما شطارة من الشركة المنتجة وشركة توزيع فرنسية محترمة (شركة  Pyramide) )  ويكفي أن أشير إلى مدى صعوبة العثور علىDVD لفيلم مصري يحمل ترجمة أجنبية لإعطائه لأي من الأصدقاء الأجانب ممن لديهم الفضول لمشاهدة فيلم مصري حيث لا يوجد أي ضوابط لسوق الـDVD في مصر (المسيطر عليه شركة السبكي أيضاً) ولا شيء يفرض وجود ترجمة على الأفلام مما يزيد من محلية الفيلم المصري (المحزن أن الموزعين الخليجيين للأفلام المصرية حريصون على طبع ترجمة إنجليزية على نسخ الـDVD  لأفلامنا التي تُباع في أسواقهم!

 * أين الدور التنظيمي والمراقبي على سوق السينما؟ هل هناك أي إجراءات تتخذ في حالات الاحتكار؟ فالمعروف أن الغرفة وقفت دور المتفرّج عند تصعيد قضية احتكار توزيع الأفلام في السوق السينمائي إلى جهاز حماية المنافسة ومنع المنافسات الاحتكارية كما لو كان لا شأن لها بتنظيم الصناعة (ولكن كيف لا تتفرّج وأعضاء الغرفة هم أنفسهم محتكرو السوق؟).

وماذا كان الموقف أو الإجراء المُتّخذ عند تسبب مؤسسة سينمائية كبيرة في مضاعفة أسعار نجوم التمثيل دون أي داعKوما تبعه من خروج مفاجيء للشركة من السوق رغم عشرات المشروعات المعلنة لها مما تسبّبفيقطع عيش عدد كبير من العاملين بهذه الشركات؟ هل هناك ضوابط للإنتاج في سوق السينما المصري أم أنه ممكن أن يكون مرتعاً لمن يريد أن يغسل أمواله أو لمن حقق أرباحاً من المخدرات ويريد إنتاج أفلام فرفشة؟

لن أتحدث عن غياب دور القائمين على السينما في مصر في دعم السينمائيين الشباب أو في الدفاع عن أصحاب الأعمال التي تقمعها الرقابة أو حتى في تغيير التشريعات المتعلقة بمنح التصاريح للتصوير في الشوارع والأماكن العامة، فقدر السينمائيين الشباب أن يناضلوا من أجل توصيل فكرهم وأن يساعدوا بعضهم بعضاً من أجل تقديم سينما تُحترم بدلاً -أو جنباً إلى جنب- السطحية التي تقدّم في الأفلام الأخرى (فبنظرة سريعة نجد أن

أغلب التجارب السينمائية الجريئة والمختلفة في السنوات الماضية كانت على يد شركات إنتاج أصحابها من شباب السينمائيين، أو تجارب إنتاج مشترك، أو نتاج عدد محدود جداً من المؤسسات الكبيرة التي لازالت تحرص على صنع أفلام محترمة للشباب وللقامات السينمائية مثل الشركة العربية ومصر العالمية). فالأمل في النهاية في يد هؤلاء الشباب أما الكبار ممن نصبّوا أنفسهم رعاة لصناعة السينما فهم مجموعة من الفاشلين حوّلوا هذه الصناعة إلى تجارة مفتقدة حتى لأبسط القواعد التنظيمية لكي يستطيعوا الاحتفاظ بمكاسبهم المتحققة.. ولكنهم لا يدركون أن سلبيتهم تلك كفيلة بأن تكتب نهاية السينما في مصر لو اقتصر إنتاجها على تلك الأفلام السطحية مما يجعلها صيداً سهلاً في أيدي التيارات المتشددة التي ستستغل هذا الهبوط السينمائي كذريعة لتحجيم السينما بداعي الحفاظ على الأخلاق والقيم في المجتمع، ووقتها لن يجد السينمائيون أي دعم لصد هذه الهجمة..ولنينفعهم 1000 عبده موتة.

Visited 55 times, 1 visit(s) today