وعود النص وقلق المعالجة السينمائية في فيلم “الشحات”
I– التباس الثورة وإشكال العرفان في رواية “الشحاذ”
اختار عمر الحمزاوي، خلافا لسعيد مهران في ” اللص والكلاب “، طريق العرفان، بعد مكابدة نفسانية ووجودية قاسية .لقد عالج عمر الحمزاوي التنكر للمثال الثوري بالاستغراق في الحياة البورجوازية من خلال مراكمة الأموال والترقي الاجتماعي من جهة والعطف على عائلة رفيق الدرب المنسي في السجن: عثمان خليل، من جهة أخرى .واطمأن إلى اختياره ،إلى أن داهمه خدر شبه كلي ،فصله وجدانيا وعاطفيا واجتماعيا عن محيطه ،ودفع به إلى التماس العلاج الشافي لعلته النفسانية –الفكرية المركبة .بدأ بالطب( استشارة الدكتور حامد صبري) وغاص في لذات الجسد والاحتفاء بالغريزة ( حب وعشق المغنية مارجريت و الراقصة وردة و الراقصة منى ..) قبل أن يؤوب إلى العرفان (لحظة النشوة الكبرى في الخلاء والتوحد والانقطاع عن الناس) ويستيقظ من ذهوله الوجودي بعد إصابته بطلق ناري أثناء مطاردة قوات الأمن لعثمان خليل.
لقد بحث عمر الحمزاوي عن معنى يرتق فتوق الدلالات المخرومة، وعن نجاة تنقذ النفس الظمأى إلى اليقين من عبء الأوهام والمواضعات المقررة والغفلة المعممة ومن خمود الحس الوجودي. أراد عمر الحمزاوي، التحرر من اعتلال الذات والآخر، وهشاشة المعايير الاجتماعية والمواضعات الثقافية، بالبحث عن المعنى الكلي مثل صابر الرحيمي في ” الطريق ” وبطل قصة ” زعبلاوي “‘ في مجموعة “دنيا الله ” وعثمان بيومي في رواية «حضرة المحترم”.
(واعتكف في حجرته طول الليل يقرأ ويتأمل حتى يجيء الفجر فيمضي إلى الشرفة وينظر إلى الأفق يتساءل أين الرحمة أين. وها هي ترانيم فارس والهند والعرب المليئة بالأسرار. ولكن أين السعادة أين! ولم تشعر بالكآبة وأنت بين هذه الجدران الرحيمة؟) (1)
ولم يفلح الشعر والثورة والحب (حب الفتاة المسيحية/كاميليا فؤاد) في طور الشباب والثروة والجنس والإيمان بالعلم في طور الكهولة في استنقاذ عمر الحمزاوي من القلق الوجودي العاصف. ولئن ارتضى مصطفى المنياوي الفن الجماهيري مسلكا تعويضيا بعد انفراد العلم برسم الحدود والمسارات والمصائر، وقبل الدكتور حامد صبري التطبيب مسلكا لخدمة الإنسانية واستمسك عثمان خليل بالثورة الشاملة والدائمة، فإن عصف الأسئلة الميتافيزيقية لا يقبل-في وعي عمر الحمزاوي-إلا بالمعنى الكلي واليقين الكامل.
وقد اطمأن بعد تيه طويل في مدارات الجنس والمتع الحسية ومداورة الأسئلة الوجودية والتماس النشوة في الخلوات، إلى العرفان؛ إلا أنه سيكتشف أن الاستغراق في متاهات العرفان، لا يحرر كليا من الارتباط والتعلق بالناس والعلاقات والأشياء وأطياف الذاكرة. تصطدم رغبة عمر الحمزاوي في التوحد والانقطاع والتخلي والوصول، بجبروت الذاكرة (استئناف عثمان خليل العمل الثوري وانفراد وجوه الماضي بتشكيل أحلامه) وقدرة التاريخ على التشكل وصياغة حقائق جديدة (زواج عثمان خليل ببثينة الشاعرة-العالمة الواعدة).
وكما لم يهنأ بالثورة والوضع الاجتماعي البورجوازي المريح، واستكان ظرفيا إلى لغة الجسد ومتع الجنس، وتلظى دائما بنيران الأسئلة الحارقة عن المعنى والجدوى والحقيقة، فإنه لم يهنأ حتى لما اهتدى إلى سلك العرفان، بلذات التوحد (انبعاث فكرة الثورة من رمادها وزواج عثمان خليل ببثينة الجامعة بين العلم والشعر وحملها بمولود مرتقب)، فعاش التمزق الوجداني والحيرة الفكرية في الحالتين.
(-وتنهدت في إعياء وفتحت عيني في الظلام. ماذا يعني الحلم إلا أنني لم أبرأ بعد من نداء الحياة؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي ثم تعبث بمنامي الأهواء ؟!.) (2)
ولئن كانت الأحلام الطريق الملكي إلى الغيب والماوراء في تجارب كبار العرفانيين والعرفاء في الشرق والغرب على السواء، فإن أحلام عمر الحمزاوي تعيده، مكرها، إلى واقعه وتشي لا بقدرته على الوصول، بل بحتمية العودة إلى الذات والعالم المنسي وإعادة استئناف تجارب الحياة العادية. ومهما استغرق في التوحد، فإنه سيكتشف قدرة الواقع على التجدد وصلابة حقائقه ومتانة روابطه (تحقق التكامل بين الحب والثورة والعلم في اقتران عثمان خليل ببثينة.).
والواقع أنه مر بثلاثة أطوار نفسانية –فكرية:
1-طور الاعتلال والتيه الوجودي.
ان الاعتلال النفساني والفكري قبل تحقق النقلة، قاسم مشترك بين العرفاء؛ ويذكرنا تيه عمر الحمزاوي وخمود إرادته بأزمات كبار العرفانيين.
(…فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطبيبا لقلوب المختلفين إلي فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج.) (3)
2-طور الاستئناس بالعرفان
وقد اختار المجاهدة سبيلا، بعد مراهنة خاسرة على جدوى وفعالية الحب والجنس والمتع الحسية، وغب انتشاء كشفي في الخلاء. ومن المحقق، أن المجاهدة هي النهج المعرفي –السلوكي الممكن، لمن رفض نهج البرهان وبحث عن حقيقة تتجاوز الحقائق التوافقية.
(…فإن الصوفية لم يحرضوا على تحصيل العلوم ودراستها وتحصيل ما صنفه المصنفون في البحث عن حقائق الأمور، بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكل الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك فاضت عليه الرحمة وانكشف له سر الملكوت وظهرت له الحقائق؛ وليس عليه إلا الاستعداد بالتصفية المجردة، وإحضار النية مع الإرادة الصادقة والتعطش التام.) (4)
3-طور تجديد الارتباط بالحياة.
لقد أعاد عمر الحمزاوي الارتباط بالحياة من خلال محتوى الأحلام، المشبعة – خلافا للمتوقع-بوجوه وذكريات الماضي المنسي –ومن خلال اقتحام عثمان خليل المتشبث بالفعل (الحب والثورة) لخلوته بعد مطاردته من قبل البوليس.
وقد عبر نجيب محفوظ عن انجذابه إلى فكرة السمو الروحي لدى الصوفية وإطراحه فكرة رفض الدنيا والعالم بالكلية.
(جذبتني في الصوفية فكرة السمو الروحي، وفي المقابل لم أقتنع بفكرة رفض الدنيا، فلا أتصور مذهبا دينيا يرفض الدنيا أبدا.) (5)
II– التأويل السينمائي لرواية الشحاذ
فيلم الشحات (1973)
هل تمكن المخرج حسام الدين مصطفى من أفلمة رواية “الشحاذ” والإفصاح بصريا عن محتوياتها ومضامينها الفكرية؟ هل تمكن من ترجمة عالمها الدلالي المحفوف بالإشكاليات الفكرية، خلافا” للطريق” المشبعة بالرموز وبالإشارات البعيدة، ترجمة بصرية غنية وموحية؟ هل تمكن من تطوير أدواته في قراءة وتأويل وإيجاد الصيغ البصرية للأفكار المجردة والأحاسيس المعقدة والعلاقات الملتبسة في “الشحاذ” بعد أفلمة ” الطريق ” 1964 و “السمان والخريف ” 1967؟ هل تمكن السيناريست أحمد عباس صالح من بلورة معالجة سينمائية، متماسكة ومتناسقة مع منحى ومنظور الرواية؟
1- قراءة وتأويل الرواية
احترم السيناريست أحمد عباس صالح، المجرى والمسار الدرامي للرواية؛ ولم يعمد إلى تقديم تعديلات جوهرية في رسم الأحداث وبناء الشخصيات وإغناء العالم الدلالي للرواية والإشكاليات الحافة به أو إضافات نوعية قمينة بتغيير مجرى الأحداث أو مسار الوقائع. إلا أن غياب التعديلات والإضافات الجوهرية، في البناء ومنحى الأحداث، لا ينفي الاعتماد على بعض التحويرات المؤثرة في صياغة إشكالية ومنظور الرواية.
2- إعادة ترتيب الأولويات
لم تكن كل الترتيبات والتعديلات الجزئية المستحدثة موفقة بالنظر إلى افتقارها إلى التماسك والتناسق .فقد اختيرت واقعة التفجير ،كواقعة افتتاحية للسرد الفيلمي ،خلافا للرواية ،المرتكزة إلى حادثة زيارة الطبيب وتأمل منظر اللوحة الباعثة على الدهشة والتـأمل والإشفاق على الذات .ومن المستغرب أن تختلف المجموعة الثورية العازمة على تنفيذ عملية تفجير ضد أحد الخونة ،حول الأولويات ،وأن ينبئ كل فرد باختياره النظري والفكري الأخير ( اختار مصطفى المنياوي / بدر الدين جمجوم الأدب والدكتور حامد صبري / حسن شفيق، العلم ،وعثمان خليل / أحمد مظهر وعمر الحمزاوي / محمود مرسي الثورة والسياسة )،علما أن المقام مقام عمل وإقدام لا مقام نظر ومطارحة.
3- البورجوازي المأزوم واللوحة الكاشفة
انشغل عمر الحمزاوي بتأمل لوحة معبرة في قاعة الانتظار في عيادة الدكتور حامد صبري، واستغرق في استكشاف وفك رموزها ومغاليقها.
(سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادا خشبيا ويتطلع إلى الأفق عارضا جانب وجهه الأيسر وفي عينيه شبه بسمة غامضة.) (6)
ليس انشداده إلى منظر طفل يمتطي جوادا خشبيا ويتطلع إلى الأفق ويرسم ابتسامة غامضة على شفتيه، اعتباطيا؛ بل هو أمارة تشكيلية دالة على قلق وجودي محتدم، وبحث صارم عن علامات ورموز بصرية لمعاناة لا تقل غموضا عن بسمة الطفل الغامضة.
(.. لم يزل الطفل ممتطيا جواده الخشبي متطلعا إلى الأفق. وهذه البسمة الغامضة في عينيه أهي للأفق؟ وما زال الأفق منطبقا على الأرض، فماذا يرى الشعاع الذي يجري ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلة بلا جواب فأين طبيبها؟) (7)
ألغى السيناريست أحمد عباس صالح هذه التأمل الاستبطاني الكاشف عن مسار السرد الدرامي وعن تركيب وإشكالية الشخصية الرئيسية. وقد آثر افتتاح الفيلم، بمشهد استعداد رفاق عمر الحمزاوي/محمود مرسي في طورهم الثوري، لتنفيذ عملية اغتيال.
4- مشهد النشوة /التجلي
لم يحتفظ السيناريست بمشهد النشوة/ التجلي في الصحراء رغم أهميته البالغة. فقد توغل عمر الحمزاوي في دروب العرفان، وتخطى تخوم البرهان، ورام الانقطاع الكلي عن العلائق والروابط.
(وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة. وكل جارحة رنمت وكل حاسة سكرت واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب. وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة. وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد. ولكنه ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب. لا شيء. لا أسأل صحة ولا سلاما ولا أمانا ولا جاها ولا عمرا.) (8)
كانت تجربة الكشف /التجلي في الصحراء بعد الانقطاع عن تجربة الحب/ الجنس ومحبة الجسد، فاتحة التحولات في حياة عمر الحمزاوي؛ وهي التي أقنعته بإمكان التجوهر وتحقيق النقلة واختيار العزلة. إنها تجربة تأسيسية، لا يمكن من دون الكشف عنها والإفصاح عن مدلولها، فهم دواعي اقتناع عمر الكلي بنهج العرفان. والحال أن المعالجة السينمائية لم تأخذ بعين الاعتبار هذا الحادث الكاشف والهام.
وترجع أهمية هذا الحادث، في الحقيقة، إلى ما يلي.
– وقوع النشوة/التجلي في خلاء شهد سابقا علاقات عمر الحمزاوي بعشيقاته (مارجريت ووردة ومنى …)؛
– وقوع النشوة /التجلي في وقت اشتداد المخاض على زينب؛
-تشوق عمر وتلهفه بعد هذه التجربة على النشوة / التجلي والانقطاع الكلي إلى طريق العرفان.
من الطبيعي، إذن، أن ينأى عن نهج عثمان خليل، الثوري سياسيا واجتماعيا، والوضعاني ، منهجيا وعلميا .و رغم مثالية عثمان خليل الثورية ،فإن جمعه بين الوضعانية ،فكرا ونظرا ، والثورة ، سياسة واجتماعا ،لا يحقق المراد، مادام لا يجيب –حسب عمر الحمزاوي – بحصافة وبرهافة وجودية ، عن أسئلة العبث والموت والملل والقلق والهشاشة والمعنى .
ففيما عاش لحظة التجلي في الخلاء، فقد لازم عثمان خليل حدود وضعانية صارمة، تكتفي برصد العلائق والكيفيات دون أن تجيب عن أسئلة الكنه والمعنى.
(لم يشهد الفجر في الصحراء. لم يشعر بالنشوة التي تحقق اليقين بلا حاجة إلى دليل. لم تطرح الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب.) (9)
يتطلع عمر الحمزاوي إلى وضع وجودي ومرتبة معرفية أعلى من مرتبة العلم التجريبي؛ ولذلك فهو وإن أعجب بمثالية عثمان خليل وأخلاقه الثورية العالية (تكتمه عن أسماء المتورطين معه في حادث التفجير)، فإنه يرفض دوغمائيته الوضعانية.
(وتساءل عمر:
-ولكن ألا يسعفنا القلب إن فاتنا أن نكون من العلماء؟
-القلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة، والحق أني اقترب من فهمك، فأنت تتطلع إلى نشوة، وربما إلى ما يسمى بالحقيقة المطلقة، ولكنك لا تملك وسيلة ناجحة للبحث فتلوذ بالقلب كصخرة نجاة أخيرة، ولكنه مجرد صخرة، وسوف تتقهقر بك إلى ما وراء التاريخ، وبذلك يضيع عمرك هدرا، حتى عمري الذي ضاع وراء الأسوار لم يضع هدرا، ولكن عمرك أنت سيضيع هدرا، ولن تبلغ أي حقيقة جديرة بهذا الاسم إلا بالعقل والعلم والعمل.) (10)
لا ينتبه عثمان خليل، إلى الرهانات الثاوية خلف تمسك عمر الحمزاوي بوضع معرفي –فكري أسمى من البرهان والعلم التجريبي والوضعانية المنهجية، والمرجعيات المتحكمة في نظرته المتمايزة، منهجا ورؤية، عن نظرته.
(…قالوا: للقلب معنيان:
أحدهما اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهذا القلب يكون للبهائم أيضا بل للميت أيضا.
وثانيهما لطيفة ربانية روحانية، لها تعلق بالقلب الجسماني كتعلق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات، وهي حقيقة الإنسان.) (11)
5- الرجة الوجودية
وكما حذف مشهد النشوة /التجلي الهام، بنائيا ودلاليا، حذفت واقعة المحادثة، الكاشفة عن أعطاب عمر الحمزاوي وإحساسه بالاعتلال الوجودي وعقم الأشياء والتباس الغايات.
فقد تملكه إحساس حارق بالهشاشة الكيانية وبغرابة الأفعال والسلوكيات، غب محادثة عادية مع زبون / متقاض،لا يهتم من فرط اقتناعه بوضع وجودي معطى ومصير محدد مسبقا ،بالمآلات والمعاني بقدر ما يهتم بالوسائل والإجراءات.
(… وقلت له (تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدا) فهز رأسه في استهانة وقال:( المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها)) (12)
كانت جملة المتقاضي، بمثابة رجة هزت كيان عمر الحمزاوي، ودفعت به إلى استشكال وضعه وفكره وموقعه الطبقي، وإلى البحث عن كنه ومعنى الحياة.
6- إعادة صياغة الشخصيات
عمر الحمزاوي
احتفظت المعالجة السينمائية المقدمة على التفاصيل الكبرى لعمر الحمزاوي/ محمود مرسي. ورسمت على غرار الرواية مساره المتعرج بعد استفحال أزمته الفكرية / الوجودية، وتقلبه بين البدائل (الطب العضوي والجنس والقراءة والتأمل) قبل أن يركن إلى العرفان والعزلة والانقطاع عن العلائق.
(وعندما اعترضتنا دورة فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة، وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفورد إلى الباكار حتى استقر أخيرا في الكاديلاك، ثم أوشك أن يغرق في مستنقع من المواد الدهنية.) (13)
لقد تطلع غب إحساسه بالخمود التام والانفصال النفساني والوجداني عن عالمه القديم، إلى النشوة الكبرى (التجلي أو الكشف.).
(…وآمنت ساعتها بأن الحركة أو النشوة هي مطلبي، لا العمل ولا الأسرة ولا الثراء .. هي هذه النشوة العجيبة الغامضة ..كأنها النصر الدائم وسط الهزائم المتلاحقة .. وهي التي سحقت الشك والخمول والمرارة .. ) (14)
ولئن احتفظ السيناريست بمسار عمر الحمزاوي و حرص على رصد أطوار تحوله ،فإنه لم يبرز بالدقة اللازمة دواعي حيرته وتيهه وبحثه الدائم عن المعنى الكلي .وبدلا من أن تكون مشاهد التلذذ بالحب والجنس والخمر والاستثارة الحسية ،موصولة بسياقات ومساقات وبواعث الأزمة وبالمآل الفكري / العرفاني اللاحق، أضحت مشاهد احتفالية أو أبيقورية .ولم تسهم الإضافات المقدمة ( الاحتفال المزدوج بعيد ميلاده ، وزيارته لعثمان خليل / أحمد مظهر في السجن وإشرافه على الغرق بشاطئ الإسكندرية … إلخ)،في إبراز التناقضات الوجدانية والتوتر الفكري الملازم لعمر الحمزاوي ،بعد إحساسه الممض بعابرية الأشياء وحتمية الموت وإبهام المعنى والتباس الجدوى.
مصطفى المنياوي
من المحقق أن المعالجة المقدمة، أفقرت شخصية مصطفى المنياوي / بدر الدين جمجوم، إذ حصرتها في دور المساند والداعم المخلص لعمر الحمزاوي/ محمود مرسي في رحلته الفكرية والحياتية المأساوية. والحال أن مصطفى المنياوي مثقف ثوري آثر التكيف مع الواقع السياسي -الاجتماعي، وتقبل هيمنة الكشوف العلمية على اللوامع والإشارات الأدبية، وتخلى عن الفن الطليعي بدعوى التكيف مع متطلبات سوق تجارية لا تقبل على الإنتاجات الفنية والجمالية العالية.
اختار مصطفى المنياوي ، إذن ،التسلية والفن الجماهيري ، سبيلا بعد أن انفرد العلم بساحة الكشف.
(-هي رسالتي في الحياة، التسلية، والجمع تسليات، قديما كان للفن معنى حتى أزاحه العلم من الطريق فأفقده كل معنى .. ) (15)
لقد انحاز مصطفى المنياوي إلى الفن الجماهيري والتسلية، بعد اقتناعه التام بعدم جدوى الفن الطليعي في عصر العلم. وفيما اطمأن إلى الوضع المعرفي والعلمي والفكري المقرر بعد ظفر العلم بالريادة، فإن عمر الحمزاوي لا يطمأن إلى وضع فكري، لا يقدم إجابات مقنعة عن الكلي، أي عن معنى مسيرة الإنسان ومصيره.
ليس مصطفى المنياوي، مجرد صديق مخلص ورفيق سابق في دروب الثورة والحلم بالاشتراكية، بل هو كذلك رفيق رحلة الإدراك والفهم والاستكشاف.
لقد اقتنع مصطفى المنياوي بعرضية الفن في مجتمع العلم، ووطن النفس على التسلية، بعد أن خان المبدأ، وغرق في الانتفاع ونثريات الصحافة الفنية والاستمتاع بمباهج العصر.
(.. لا تخلو حركة هروبية من فشل، ولكن صدقني أن العلم لم يبق شيئا للفن، ستجد في العلم لذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة، صدقني أنه لم يبق للفن إلا التسلية، وسينتهي يوما بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل في شهر العسل.) (16)
لقد سلم مصطفى المنياوي، بتفوق العلم ودونية الفن، واندمج في المحيط الاجتماعي والسياسي بعد أن تخلى على تطلعاته الثورية الطوباوية السابقة.
((-مات القانون قبل الفن، الحق أن مفهوم الفن قد تغير ونحن لا ندري، عهد الفن قد مضى وانقضى، وفن عصرنا هو التسلية والتهريج، هذا هو الفن الممكن في زمن العلم، ويجب أن نتخلى عن جميع الميادين عدا السيرك.) (17)
لقد انتقل مصطفى المنياوي من الثورة الشاملة إلى الفن الطليعي، لينتهي بعد إخفاقات فكرية وسياسية وتنظيمية إلى الرضوخ لقواعد ومعايير التداول الفني في زمنه، أي إلى قبول أولوية الفن الجماهيري.
لقد سلم بالإخفاق الكلي (إخفاق الفنان أمام العالم والثوري أمام السياسي)، وخضع، كليا، للمعايير والمواضعات الاجتماعية والثقافية المهيمنة. أما عمر الحمزاوي، فقد تخطى الإخفاق إلى مساءلة التجربة واستشكال مرتكزاتها والتوق إلى حقيقة أقوى وأعلى وأسمى من حقائق العلم والثورة والوضع الطبقي المريح.
وبدل إبراز هذه الفروق في الاستجابة والتفاعل مع وضعية فكرية –ثقافية – وجودية معقدة، فقد اختار السيناريست أحمد عباس صالح، إفقار هذه الشخصية المثقفة وتحويلها إلى ظل باهت لعمر الحمزاوي/ محمود مرسي ورفيق له في متاهات المراقص والملاهي (باريس الجديدة وكابري) ومحاور غير كفء ثقافيا (الحديث عن لغة الجسد مثلا ….).
عثمان خليل
لم تحاول المعالجة السينمائية المقدمة في الفيلم إغناء شخصية عثمان خليل /أحمد مظهر دراميا ،وإخراجها من مدارات اليقين والتفاؤل الثوري وإدماج البعد التراجيدي في مساراتها حتى تكون أكثر إيحاء و أقدر على الإقناع .لقد أخفى نجيب محفوظ مفعول الزمان في الثوري ،وأثر مفاعيل التاريخ في جسد النظرية ،حتى يزيد من منسوب التوتر الدرامي في شخصية عمر الحمزاوي ،ويضاعف من حيرتها الناتجة عن واقع بورجوازي رتيب تؤثثه الرتابة والغفلة الوجودية ،وذاكرة نابضة بذكرى خيانة المبدأ ،ومستقبل تطرقه البنت العاشقة للشعر(بثينة ) والثوري الآتي من بعيد بتفاؤل طوباوي مجلجل.
لم تخصب المعالجة المقدمة شخصية عثمان خليل /أحمد مظهر، فبقيت مجردة محدودة الحمولة الدرامية. والحال أن كل الظروف والشروط متوافرة (تراجع الرفاق عن مبادئهم الثورية والاشتراكية واستغراق بعضهم في التسلية والترفيه أو في الضياع والتيه وإجراءات ثورة يوليو وتأثير التاريخ في مجرى الأفكار والنظريات الاجتماعية الكبرى إقليميا وعالميا ونقد الوضعانية والعلموية …إلخ)، لتشحن هذه الشخصية المجردة الهائمة في طوبى التفاؤل الثوري، بقوام ومادة درامية جديرة بعصر القلق الكياني والفكري العاصف، أي بالقرن العشرين.
كان من المطلوب إغناء هذه الشخصية الفقيرة دراميا بإضافة تفاصيل ودقائق موحية بالتفاعل والتكيف والاستجابة، دون الإخلال بالبناء الدرامي والمنظور الكلي للرواية.
ولم تفلح الإضافات المقدمة (ترحيب عثمان خليل /أحمد مظهر بعمر الحمزاوي/محمود مرسي ومصطفى المنياوي/بدر الدين جمجوم في السجن وإبراز مكانته لدى إدارة السجن وطلبه تقديم القهوة للزائرين)، في إغناء حضورها الدرامي ولا في الاتساق مع منحى هذه الشخصية كما صاغه السيناريست. إذ من المفترض أن يعبر الثوري الأبدي عن موقفه المضاد لمظاهر وتجليات القوة ولو بالرمز والإشارة.
وبدلا من إغناء هذه الشخصية وإخراجها من طوباويتها ومن تفاؤلها الثوري غير المسوغ بعد توالي الإخفاقات والإحباطات والتراجعات ،عملت المعالجة المقدمة على تكريس تجريديتها من خلال الاحتفاء بحماستها وصفاء أفقها النظري وتطلعها للعمل الميداني .وقد كرس أداء أحمد مظهر هذه التجريدية في مشاهد احتفالية ( إبراز مكانته لدى السجناء ولدى إدارة السجن واحتفاؤه غير القابل للنقاش بالوضعانية وإخلاصه غير المشروط للمبدإ وتفاؤله بثورية ومعرفة وتفاني الجيل الجديد و اطمئنانه إلى فهمه البراني لأزمة عمر الحمزاوي/ محمود مرسي ) لا تنير عتمة ،ولا تمد الحالة أو الموقف الدرامي بأي مدد أو زخم درامي أو تراجيدي.
زينب
لم يحتفظ السيناريست أحمد عباس صالح بكثير من التفاصيل والدقائق والسمات الخاصة بشخصية زينب، رغم أهميتها الدلالية والرمزية البالغة.
لقد جسدت زينب البدينة، مظهرا، والمطمئنة، اجتماعيا، والغافلة عن التباس الأشياء وعن هشاشة العلائق والروابط وجوديا، المثال النموذجي للاعتلال الوجودي في نظر عمر الحمزاوي بعد اعتلاله الكياني.
(وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس. واكتظت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ، وضاعت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما، أما ابتسامتها فما زالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية.) (18)
إن استكانة زينب المطلقة للحب (اقتران الحب في حالتها بتغيير المعتقد والانقطاع الكلي عن الأهل) ولهناءة وضعها الاجتماعي، تستثير حنق عمر الحمزاوي، النزاع -بعد توالي إخفاقاته الفكرية و إحساسه الممض بهشاشة وضعه الوجودي – إلى القلق واستشكال عالم تخترمه المفارقات والهشاشة والفوات الوشيك والحتمي.
وحين أظهرت قلقها من التأميم القادم، استهان بقلقها وذهل لبدانتها. إن التأميم والمصادرة هما أقصى شر تتوقعه، في وقت تتفكك فيه روابط عمر الحمزاوي بالثروة والعائلة والوضع الطبقي والمكانة الاجتماعية الرفيعة.
(فقاطعتها:
-بالله خبريني كيف سمنت إذن لهذا الحد؟!
فهتفت بي:
- كنت في شبابك مثلهم لا تتكلم إلا عن الاشتراكية، وهي مازالت في دمك!) (19)
لم تحتفل المعالجة المقدمة، بثراء التفاصيل الجسدية والنفسية والثقافية الخاصة بهذه الشخصية، والمفسرة–جزئيا بالطبع-لانفصال عمر الحمزاوي عنها كليا.
لا يبرز السيناريو بدقة، دوافع تأفف وانفصال عمر الحمزاوي عن زينب وعالمها القيمي. فهي تمثل في منظوره الرتابة والتدبير والتنظيم والطمأنينة الخادعة والغفلة عن الحقائق الوجدانية العليا؛ ولذلك كان رفض حبها القوي وتدبيرها المحكم وعالمها المنغلق شرطا لتحقيق النقلة الوجودية المرتجاة.
(…ولا عزاء فيما بلغناه من ثراء ونجاح فالعفن قد دفن كل شيء. وحبست الروح في برطمان قذر كأنها جنين مجهض. واختنق القلب بالبلادة والرواسب الدسمة. وذبلت أزهار الحياة فجفت وتهاوت على الأرض ثم انتهت إلى مستقرها الأخير في مستودعات الزبالة.) (20)
لم يبرز السيناريست كل المكنونات والأبعاد الدرامية لشخصية زينب؛ فمهما أخلصت، فإنها تجازى بالتمرد، ومهما أحسنت التدبير، فإنها تلقى التنكر وتصير في وعي ووجدان عمر جزءا من نظام معرفي/فكري واجتماعي متجاوز.
(..هي تترنم بأهازيج الغرام و أنا أبكم ، هي تطارد و أنا شارد اللب ،هي تحب و أنا كاره ، هي حبلى و أنا عقيم ، هي حساسة حذرة و أنا بليد .. ) (21)
والواقع أن زينب تكاد تكون صوفية في موقفها من الحب وتفانيها في خدمة المحبوب وفي المراهنة على الحب (تغيير المعتقد والانفصال عن الروابط الأهلية والملية). كما أنها مكنت عمر -بفضل كفاءاتها التدبيرية العالية -من مراكمة الثروات وتأثيل الأموال. لم يستثمر السيناريست هذه الممكنات، واكتفى برسم صورة نمطية للأنثى المهجورة والحائرة والعاجزة (زينب / مريم فخر الدين) عن فهم محنة وتحولات زوجها الفكرية ورغبته في هجر عالم صاغه حب مخروم وتدبير منحصر في الوسائل دون الغايات وعلاقات تأسر الكائن وتمنعه من تحقيق وعوده الوجودية.
وفيما تشربت زينب قيم ونظم طبقتها الاجتماعية واعتبرت الحب الإنساني منتهى الآمال، فإن عمر الحمزاوي، يطمح –مثل كل العرفاء -إلى الكشف والتجلي والفناء.
(وقيل: الصوفي هو الذي صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر، والحرير والوبر.) (22)
بثنية
ولئن مالت المعالجة السينمائية، إلى اختزال الرصيد الدرامي لكثير من الشخصيات لاعتبارات منهجية –فكرية وإنتاجية وتداولية (الإكثار من مشاهد الرقص والانتشاء بالخمر [الويسكي والشامبانيا] في الملاهي والقبلات في السيارة والاعتماد على” سنيد” كوميدي (مصطفى المنياوي /بدر الدين جمجوم) للبطل و إضافة مشاهد الاحتفال المزدوج بعيد ميلاد عمر الحمزاوي …. ) ، فإنها رسمت صورة متزنة ،دراميا ،لبثينة /نيللي، الجامعة عكس أبيها ،بين الشعر و محبة العلم ، بين الحب ( حب عثمان خليل / أحمد مظهر والثورة ،بين وعود الماضي(الأمل القائم رغم كل الإكراهات والتراجعات) وآمال المستقبل(الحمل بابن الثوري المطارد).
وردة
التمس عمر الحمزاوي السلوى والمواساة في حب وردة الراقصة المثقفة المحبة للشعر (مسرحيات أحمد شوقي وشعر الغزل)؛ وفيما يلتمس من نشوة الحب العزاء والطمأنينة والسعادة، فإن الراقصة تسعى إلى تضميد جروحها (علاقتها المنقطعة بعائلاتها وفشلها في التمثيل ودونية وضعها الاجتماعي) من خلال التفاني في الحب والعشق. فكما تتعالى عن شرطها الدوني اجتماعيا بنشدان الخلاص في الحب، فإنه يتعالى عن قلقه الكياني وما يسميه بالحياة الكاذبة، بالانتشاء بالحب.
ورغم ثقافتها واقتناعها المأساوي بعابرية الأشياء والعلاقات، فإنها تتطلع إلى الحب المنقذ من التيه والضياع النفساني والاجتماعي.
(-ما أعز أمنية في حياتك؟
-الحب.
فتمادى في عبثه البريء متسائلا:
-هل فكرت يوما في معنى الحياة؟
-لا معنى لها إلا الحب. ) (23)
ويكاد البعد الثقافي يغيب عن شخصية الراقصة وردة/ شويكار، كما قدمت في الفيلم. فقد حذفت كل الكثافة الدرامية للشخصية ولم تستثمر مكنوناتها الدرامية العالية ( التمرد والاستقلالية ومحبة الفن والشعر والرضوخ لمعايير ومواضعات الملهى والتوق إلى حب مخلص تحف به الهشاشة من كل ناحية وتقبل جبري للهزائم الناتجة عن الإخلاص في الحب ).ولئن أغفلت المعالجة السينمائية الثراء الدرامي لوردة ،وأغفلت الإشكاليات النفسانية والاجتماعية والثقافية الحافة بارتباط عمر الحمزاوي بها ،فإنها اعتنت بالمظاهر الاحتفالية (الرقص والاحتفال والسهر والحفلات والمقتنيات والأزياء ) ،تجاوبا مع معايير وتقاليد التقبل والتلقي ومع الذائقة الشعبية في الغالب.
ظن عمر الحمزاوي المفتون بهذه الراقصة المضارعة له في الطول (توافر شرط الندية) والثقافة (توافر شرط الفهم وإدراك معاني الأشعار)، أنه سيجد في حبها الترياق الشافي من سقمه الوجودي؛ فاكتشف أن توافر شرطي الندية والفهم، لا يحقق القصد، إن بقي الإدراك لصيق وضع وجودي محدود السعة والامتداد، ووثيق الارتباط بتعبيرات فنية لا تتصادى مع المتعالي والغائب.
كان من الصعب، إيجاد صيغ بصرية مركبة، لنقل التعقيد الوجداني والفكري، الملازم لهذه الشخصية المترعة بزخم درامي كبير.
(فاستطال تماديه وهو يسأل:
-عزيزتي ألا يقلقك أن نعبث والعالم من حولنا يجد؟
وهي تضحك عاليا:
-ألا ترى أننا نجد والعالم من حولنا يعبث؟) (24)
– الموسيقى التصويرية III
كان من المرتقب أن تمتح موسيقى فيلم يرسم المسارات السرية لوعي ووجدان مسكونين بنداءات العرفان، من الموسيقات والأنغام والطبوع العرفانية. فالموسيقى العرفانية الشرقية (الشرق الأوسط والشرق الأقصى) بالتعيين، أكثر كشفا عن المواجيد وعن توترات الفكر والوجدان في لحظات الاختلاج والتيه والتوهج الكبرى.
(وها هي ترانيم فارس والهند والعرب المليئة بالأسرار. ولكن أين السعادة أين!) (25)
كانت موسيقى اندريا رايدر، كالعادة، رصينة وممتعة، إلا أنها لا تترجم نغميا وإيقاعيا، لواعج النفس واصطخاب الفكر، ولحظات التصادم الكبرى بين مكنونات الذاكرة الراسخة وتطلعات النفس الحارقة.
كان من المفروض الامتياح من سجلات موسيقية مختلفة، واختيار السجل المناسب لكل حالة نفسانية (لحظات الحب والعشق والتلذذ والتوهج ولحظات التمزق والتوتر والضياع ولحظات الخدر والشرود والذهول) أو لكل وضعية معرفية –فكرية (وضعية الاقتناع بالتحرر عبر تحرير الجسد ووضعية التحرر من خطاب العقل وتفضيل خطاب العرفان). يقتضي التأويل النغمي والإيقاعي لوضعيات مغرقة أحيانا في الالتباس والتوق والنشوة (مشهد مغادرة المنزل والاتجاه إلى الخلوة ومشهد الأحلام والذهول عن العالم أثناء مطاردة ومحاصرة عثمان خليل ومشهد قراءة كتاب التصوف)، استلهام السجل الموسيقي العرفاني (العربي -الإسلامي أو الفارسي أو التركي أو الهندي.). كان من المفترض تصويف وروحنة الموسيقى التصويرية، حتى تعبر بكل كثافتها وشحناتها وقدراتها النغمية والإيقاعية عن الأحوال والمواجيد. وكان من الممكن الالتجاء، في هذا السياق، إلى التوليد أي التلحين بالتفريع أو إلى التجديد أي التلحين بالأصالة.
IV– التركيب
من المحقق أن أفلمة رواية فكرية مثل ” الشحاذ “ليست باليسيرة، بالنظر إلى صعوبة إيجاد صيغ بصرية وأساليب تعبيرية قادرة على ترجمة وتأويل مسارات الشخصيات والكشف عن الخفايا والظلال والمسكوت عنه. ورغم تجريديتها وتوغلها في تحليل المشاعر و ورصدها لحالات وأطوار معرفية –وجودية مختلفة وانشغالها بعوالم النشوة/ التجلي /الذهول الوجودي ،فإنها تحبل بإمكانات تأويلية كثيرة .كان من الممكن تطوير بعض المكنونات قصد إغناء الرصيد الدرامي لبعض الشخصيات ( انفصال زينب الكلي عن محيطها الثقافي والاجتماعي القديم وحبها الآيل إلى الفشل بعد عقدين من الحياة المشتركة الهانئة مع زوجها /إحساس عثمان خليل بالإخفاق وعدم تجاوب ضحايا الاستغلال مع الخطاب الثوري الاشتراكي /إبراز دوافع اختيار مصطفى المنياوي ،المثقف الثوري السابق للفن الجماهيري وما يمكن أن يحف بذلك الاختيار من تردد وتوتر و مجابهة مع الذات ومع الواقع السياسي والثقافي/إبراز الحمولة الدرامية بله التراجيدية العالية لوردة الحالمة بتحرير الجسد بالرقص والنفس بالحب المثالي …).
وعوض تطوير هذه الممكنات التأويلية ،ارتضت المعالجة السينمائية ورؤية المخرج ،التفصيل والإضافة حيث يجب الإيجاز(مشاهد الرقص والاحتفال والمغامرات الغرامية ) والإيجاز حيث يجب التفصيل والإضافة والتفريع ( الأبعاد الخفية لعلاقة عمر الحمزاوي بزينب/كاميليا فؤاد تلميذة الراهبات / دوافع ميل بثينة إلى الشعر والانهمام بجمال العالم وارتباطها اللاحق بعثمان خليل/ دوافع انخراط عثمان خليل في الفعل الثوري بعد خروجه من السجن وإشرافه على مكتب عمر الحمزاوي رغم كل التحولات والنقلات والقطائع والمستجدات في الأعيان والأذهان/إبراز مأساوية وعي مصطفى المنياوي المحجوب في الفيلم بحجب كوميدية غير سميكة …. إلخ).
وبما أن المعالجة السينمائية المقدمة، وضعت العرضي-المرحلي في موقع البؤرة (البذخ البورجوازي والاحتفالية والتلذذ الحسي والحوارات التقريرية.)، وأحالت الجوهري إلى التخوم، فإنها أحدثت نقلة جوهرية في الفهم والتأويل تحولت بمقتضاها الإشكالية الفكرية إلى إشكالية شبه أخلاقية. وقد أشار الناقد والمخرج هاشم النحاس، إلى هذه النقلة غير المنتظرة من مخرج خبر العالم الرمزي لنجيب محفوظ حين أفلم روايتي ” الطريق ” و ” السمان والخريف”.
(وتحولت بذلك المشكلة الفكرية في الرواية إلى مشكلة أخلاقية في الفيلم الذي لم يترفع عن استغلال المشاهد الجنسية المثيرة كالعادة.) (26)
وهذا مسلك معتاد، فرضته اعتبارات كثيرة:
1-منهجية –فكرية: يتم بمقتضى هذا الاعتبار تأويل النصوص الروائية أو الأدبية الرمزية أو المجازية أو الفكرية تأويلا مختزلا (تأويل “ملحمة الحرافيش” و”الطريق” و”ثرثرة فوق النيل” مثلا)؛ كما لا ترصد مؤشرات الترميز ولا تملأ البياضات ولا يستنطق المسكوت عنه، بل ينأى السيناريست –عمدا-عن أي اشتباك تأويلي مع معطيات نصية قابلة للتخصيب والتفريع والتشبيك.
2-تداولية: تراعى حسب هذا الاعتبار المعايير المقررة والسمات والثيمات والأساليب التعبيرية المكرسة (المشاهد الاحتفالية والأيروسية واعتماد “سنيد” كوميدي للبطل وتغييب الإشكاليات الفكرية وحصر تجارب الحب في أبعاد رومانسية مختزلة بمعزل عن كل الإشكاليات الفكرية والوجودية المطروحة، واستثمار الرصيد الرمزي للممثل دون إدارته إدارة محكمة أثناء أداء الأدوار المركبة خاصة، والتنميط في الأداء التمثيلي (دور مريم فخر الدين في “الشحات” مثلا) والبعد عن التجريب وتطوير اللغة السينمائية …إلخ).
3-تقنية –أدائية: تراعى حسب هذا الاعتبار، الكفاءات التقنية والأدائية المتاحة ولا يلتفت إلى التجديد التقني لكلفته الإنتاجية العالية.
يقتضي إيجاد المعادلات البصرية القوية والشاعرية، لنص رمزي أو كنائي أو فكري تحقق مجموعة من الشروط:
1-تأويل خصب للنص الروائي وفضائه الدلالي، وتعميق درامي لمساراته الفرعية وملء لبياضاته وتحقيق للتوازن بين الشخصيات (إعادة النظر في “السنيد” الكوميدي مثلا) بحيث تتبارى من أجل تأجيج الصراع الدرامي وإبراز درامية أو تراجيدية الوضعية أو الحالة المعالجة.
2-ترجمة نغمية –إيقاعية متنوعة السجلات (الموسيقات والمواويل والأهازيج الشعبية والموشحات والمقامات والطبوع العرفانية والموسيقى الكلاسيكية …إلخ) وموظفة توظيفا ملائما للسياق الدرامي ونوعية الرهانات والإشكاليات والوضعيات المعالجة.
3-لغة سينمائية معبرة وكاشفة عن المكنون وموحية باعثة على التأمل والتفكير والتدبر. وهذا يستلزم إعادة النظر في طرق توظيف الفضاءات (الخلاء والصحراء والحقول والبساتين) وتحويلها إلى محركات سمعية –بصرية مساهمة في مسار السرد السينمائي (توظيف الطبيعة في فيلم “باران” و”شجرة الصفصاف” لمجيد مجيدي و” عن إيلي ” لأصغر فرهادي مثلا) والانفتاح على عوالم التشكيل.
4-أداء تمثلي يجمع بين قوة التعبير ورهافة الإيحاء بدون مبالغات انفعالية أو خمود أدائي ناتج عن التمرس بأنماط تمثيلية مرسخة والتطبع بتقنيات أدائية قارة. لا يمكن الإفصاح، عن الانفعالات المركبة، بكثافة أدائية عالية، دون معرفة وثيقة بالعالم الفكري والوجودي والتكوين النفساني لشخصيات قلقلة وإشكالية بامتياز مثل صابر الرحيمي في “الطريق ” وعيسى الدباغ في ” السمان والخريف” وأنيس زكي في “ثرثرة فوق النيل ” و “عمر الحمزاوي ” في “الشحاذ”.
الهوامش:
(1) نجيب محفوظ، الشحاذ، مكتبة مصر، ص. 129.
(2) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص. 160.
(3) أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، ومعه كيمياء السعادة والقواعد العشر، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب ،2011،ص.ص.68-69.
(4) أبو حامد الغزالي، ميزان العمل، تقديم وتعليق وشرح: علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال ،بيروت ،لبنان ، الطبعة الأولى 1995،ص.55.
(5) رجاء النقاش، صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 2011.ص.311.
(6) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.5.
(7) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.14.
(8) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص. 120.
(9) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.146.
(10) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.146.
(11) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، وضع حواشيه: أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، الطبعة الأولى 1998، المجلد الثالث، ص.496.
(12) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.45-46.
(13) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.24.
(14) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.56-57.
(15) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.21.
(16) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.21.
(17) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.40.
(18) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص. 15.
(19) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص27-28.
(20) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.90.
(21) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.50.
(22) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، المجلد الثالث، ص.50.
(23) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.83.
(24) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.83.
(25) نجيب محفوظ، الشحاذ، ص.129.
(26) هاشم النحاس، نجيب محفوظ وتأثيره في السينما المصرية، الوحدة، العدد 60، سبتمبر 1989، ص.162.
كاتب من أغادير –المغرب