“وجدة”.. إشراقة أمل تعلو على نبرة القهر

“وجدة .. غيرى جذمتك المبهدلة هذه، إلبسى جذمة سودة عادية زى باقى البنات”.

كلمات تتفوه بها الأستاذة حصة لتلميذتها، فى تعنت وشىء من التحقير، وبنبرة صوت مثقلة عن آخرها بالتعالى، تتخللها رغبة عارمة فى هدم كل إرادة تملكها الصغيرة، والإطاحة بلمسة الإختلاف التى ينغلق عليها صدرها، تحت مسميات عدة من الغرور وإرضاء الذات على اعتبار أنها المستأثر بالطريق الوحيد للفضيلة والعفة ومكارم الأخلاق.

جملة الحوار السابقة، تختزل الكثير من الحديث حول طبيعة شخصية وجدة، الفتاة الصغيرة، التى ينبع من داخلها بالفطرة صوتا خاصا يميزها عن الخانعين من حولها، وذات الجملة تعتبر فى حد ذاتها وشاية جيدة عن هذه الأستاذة، التى تعتبر نفسها مربية أجيال أمينة، تصب جل إهتمامها فى توجيه وتربية النشأ على كل ماهو ظاهر.

حذاء وجدة “المبهدل” الذى لا ينول شرف صبغة اللون الأسود، فى معناه البعيد يُخبر عن بساطتها فى التعبير عن نفسها، والتعامل مع متطلباتها بمنتهى الهدوء، دون أن تبالى بكونها تبغى ما يخالف الآخرين من الأساس، وبغير أن تهاب تُهمة الإختلاف، أو تسعى وراء إحساس التباهى بالتمرد والثورية. وجدة تحس فتفعل وكفى. ترتاح لإرتداء هذا الحذاء دون غيره ولا تضع إلى جانب شعورها أية حسابات أخرى.

وجدة

خلقت المخرجة السعودية هيفاء المنصور هنا شخصية تعافر فى مغالبة أوضاعها، وداخلها يمتلأ إشراقا وتصالحا مع الحياة، فوجدة دوما مبتسمة، قوية وجريئة، تستمع لصوت إرادتها، وتصاحب الحُلم أكثر من أى شىء، تحب والديها بشكل حميمى لا يقف عند وقع الغريزة، دلالة على ما تضمره فى قلبها من طاقة وقدرة حقيقية على الحب، وبتفاصيل بسيطة وقوية عبرت المخرجة عن هذا المعنى أكثر من مرة، فنجد وجدة وهى تُهادى والدتها من دون سبب، وتكتب لها ورقة صغيرة تعبر فيها عن حبها، ومرة أخرى نجدها تظل محتفظة بالحجر الصغير الذى أهداها إياه والدها طوال الفيلم، ففى وقت استماتت فيه الأستاذة حصة على توبيخها ومصادرة ما فى حقيبتها، انشغلت هى بأن تلتقط الحجر من بين حاجياتها المُبعثرة فوق المكتب قبل أن يضيع، كما أبقت عليه بين يديها فى لحظات مسابقة القرآن الكريم.

وكما تملك هذه الطاقة الفعلية تجاه الحب، فهى أيضا تملكها إزاء حُلمها وانتماءاتها، فمن قبل رغبتها فى اقتناء الدراجة التى طالما تمنتها، نراها فى أول مشاهد الفيلم وهى تضع الإكسسوارات التى تصنعها بيديها فى حقيبتها، ومن ثم تبيعها لزميلاتها فى المدرسة، فهى من البداية تخلق لنفسها عالما من صنع يديها، تُحقق فيه خصوصيتها ولو بأبسط الأشياء، أما عن خطواتها تجاه رغبتها فى اقتناء الدراجة، فكانت أكثر كثافة وإصرار، ساهم فيها ما تملكه من ثقة وذكاء.

وجدة صبورة، لا تجعل مشاعر القهر تتمكن منها بسهولة، فحينما كان يُقابل طلبها اقتناء الدراجة بالرفض من قِبل والدتها، لم يُعكر ذلك من صفو هدوءها أو يفت من ناحية أخرى فى عزمها، تماما كما تصرفت حينما وجدت أحد الأطفال وهو يتحدث مع صاحب محل الألعاب بشأن الدراجة التى ترغب فى شرائها، فنراها بكل بساطة، تذهب إلى الرجل وتتعاهد معه على أن يحجز لها الدراجة فى مقابل شريط كاسيت صنعته له مخصوص، فينصاع الرجل لبراءتها وعفويتها وتشبثها بحلمها عن طيب خاطر.

تفاصيل كثيرة صاغتها هيفاء المنصور فى تلك الشخصية الثرية، والتى يمكن تلخيصها فى عنوان واحد بـ “الإيجابية”، هى دوما إيجابية، حتى أمام تصرفات سائق والدتها الغير لائقة، فنجدها فى المشاهد الأولى تتصدى له عندما يُنهر والدتها على التأخير، فتصمت الأم بينما تغالبه وجدة وتنفى عن أمها ما يرميها به، إلى حين ما تُسكتها الأم فى عتاب وكأنها تتطاول على الرجل. وهذا بالضبط ما يميز وجدة عن الآخرين على مستوى أشمل، هى تُفكر ولا تقبل البديهيات فى ضرورة أن تصمت ولا يعلو صوت دفاعها عن نفسها، ولا تعبأ بما يقولون عن كون ركوب الدراجة ليس للبنات المؤدبات المحترمات، ولا تختبأ كما علموها لأن ثمة بعض الرجال على السطح المقابل وقد يرونها وهى تلعب فى ساحة المدرسة.

السيناريو

لم يتوقف السيناريو عند للخط الخاص بإحساس وجدة وحلمها، وإنما أبدع فى صياغة أجواء موازية خدمت ودعمت الطابع الدرامى، وأضفت عليه مزيدا من الحيوية والحقيقية، فنجد العالم المحيط بوجدة هو الآخر له تفاصيله الخاصة، بداية من المدرسة وحتى المنزل، ففى المنزل نجد التوتر الواضح بين علاقة الأم والأب على الرغم من الحب الذى يكنه كل منهما للآخر، والتهديد المقبض بكون الأب على مشارف الزواج من إمرأة أخرى، خضوعا لرغبة أمه التى ترتبط وبشكل غير مباشر بعدم إنجابه للذكور مع المرأة التى يحبها، لم يفصح السناريو عن التفاصيل، أو حتى يتطرق إلى ما فى داخل صدر الأب، ومدى حقيقة نفيه الدائمة لتنفيذ ما تُخطط له أمه، وإنما نقل الواقعة بعيني وجدة، مسربا إلى المتفرج شعورها المبهم المرتعش صوب ما يحدث، حتى فى آخر مشهد حينما تيقظت ولم تجد والدتها على الفراش ومن ثم التقت بها على السطح تُشاهد عُرس الوالد فى صمت وحسرة، لكن المُشاهد مثله مثل الصغيرة على غير علم بأن الأب بالفعل اتخذ قرارا بالزواج، وبحسن استغلال كل هذه الشحنة من القلق طوال الفيلم، والتى تفجرت فى تلك اللحظة بالذات مع إتمام العُرس، تزداد قيمة اللقطة الموازية التى تخبر فيها الأم الصغيرة بأنها أحضرت لها الدراجة وحققت لها حلمها، فى ايحاء ملهم بأنها آثرت ايجابية ابنتها وإقدامها على العالم بخطوات ثابتة، بعدما شعرت بخزى سلبية ذاتها وشأنها الضئيل أمام حضور وطغيان ذكورة زوجها.

أما فى المدرسة، فنجد هذا العالم المُنغلق، الذى تم التعبير عنه جيدا فى شخصية الأستاذة حصة على وجه الخصوص، وهى تزاول تأنيبها القاسى الجاف النبرة للبنات على صوتهن العورة، وتتوعد لوجدة بمكانا للتذنيب تحت أشعة الشمس الحارقة إن لم تأتى بغطاء لرأسها. وتشتبه فى بنتين ضبطتهما وراء الفناء بإرتكاب “إثم” على حد قولها، وبالرغم من عدم حصولها على أى دليل يؤكد خيالاتها المريضة، إلا أنها تُعلن عن ارتكاب البنتين لهذا الفعل فى الطابور الصباحى موضحة أسمائهن.

هذا إلى جانب رفقة وجدة الجميلة مع عبدالله الولد الصغير الذى يساير تركيبة شخصيتها، ويساهم ولو بقدر ضئيل فى ارضاء البراح الذى تتطلع إليه، فيصاحبها من وقت لآخر، ويترك لها دراجته لتتدرب عليها، ويساندها وقتما أرادت أن تذهب إلى منزل سائق والدتها لتوبيخه، ويحضها على الفوز بمسابقة القرآن الكريم كما أرادت لتحصل على نقود الدراجة، ومن ثم فى النهاية يخبرها فى جلد ” انتى عارفة انى راح اتجوزك لما نكبر”، علاقة جميلة وعفوية أتقن السناريو غزلها، فبدت ضرورية لكى تمنح وجدة شيئا من السلام الذى تتمتع به روحها بشكل ملفت.

ملحوظات عن الصورة

لقطات بعيدة داومت على جمع كل من وجدة وعبد الله معا، مُبينة الفضاء من حولهما، وكأن العالم يخلو إلا منهما، فى دلالة على مدى التواءم الذى يشعر به كل منهما مع الآخر، ويساعدهما على الإحتفاظ بذلك الجانب المشرق الذى يمتلكونه.

اللقطة القريبة من حذاء وجدة فى أول الفيلم، وتبيان اختلافه مع الأحذية السوداء لزميلاتها، كان الإفتتاحية المناسبة للإخبار عن شخصيتها .

لقطة أخرى، ترصد صورة مرسومة بعناية لدراجة فى كراسة وجدة، تستند إليها وهى تسجل اسمها فى مسابقة القرآن الكريم، دون أن تركز عليها الكاميرا، أو تلفت نظر عين المُشاهد لها، وإنما تركتها ممتزجة بتكوين الصورة كاملا، لتعبر فى تلقائية عن انشغالها بالتفكير فى الدراجة إلى حد رسمها لها بهذه العناية.

آخر كلمتين:

وجدة تجربة سعودية متميزة، ابتعدت عن نبرة القهر فى المعالجة، وأضافت إلى التناول أبعادا أخرى من الثراء تفصيلا وإجمالا.

Visited 78 times, 1 visit(s) today