وثائقي “الطبيب الأخير”: صمود الإنسانية أمام طغيان الحرب
نهى غنام
تبدو لحظة اعتقال الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان في غزة والمصورة بواسطة موبايل، تبدو وكأنها خبر عابر في نشرة أخبار يومية، الى أن تتبعها لقطات قريبة جداً extreme close up shot لعيني رجل وامرأة، ثم مجموعة من اللقطات الواسعة Long shotلآثار الدمار التي حلت في أماكن متفرقة من غزة وتحديداً في غرف الولادة في المستشفى الذي تعرض الى أكثر من قصف وحصار على مدار الحرب في غزة.
ويأتي هذا الوصف مصحوبا بموسيقى تلقي بالغموض والحزن والترقب في أذن المشاهد، ترافقها أصوات الغزيين المنبثقة من كل مكان، وتروي حكاياتهم مع الإبادة والتهجير، ثم تفضي سردية هذا المشهد المتكامل من اللقطات الى مسرح الدمار الذي عُلق وسطه زي الطبيب الأبيض وحيد تلوح به الريح معلنة بداية الفيلم الوثائقي الطبيب الأخير إخراج إبراهيم ناصر وإنتاج قناة الجزيرة وقد عرض مؤخراً على منصتها 360.
يبزغ بياض لباس الطبيب الناصع وسط ظلمة الدمار بإضاءة موزعة بشكل جيد، وقادرة على تعزيز دور الكاميرا، التي سترافق الدكتور حسام أبو صفية أثناء ممارسة مهامه كمدير للمستشفى لمدة عام ونصف، منذ 7 أكتوبر وحتى اعتقاله بتاريخ السابع والعشرين من ديسمبر 2024.
ينخرط المُشاهد في أجواء الحرب على غزة من خلال نسق سردي متتابع لرواية د.حسام حول مكانة مستشفى كمال عدوان، ونوعية الخدمات التي اعتاد أن يقدمها للغزيين بكفاءة ومهنية مشهود لها، بعد القصف الذي دخل من نوافذ الغرفة التي يجلس فيها د. حسام وتمكن صوته من السيطرة على صوت الراوي والمؤثرات الصوتية الأخرى في الفيلم.
قطع صوت القصف مرة أخرى استرسال الطبيب في حديثه، فتوقف لوهلة خطفت فيها الكاميرا لقطة قريبة جداً extreme close up shot لعينيه الخائفتين والشاهدتين على أهوال الحرب في غزة، وقد تكرر ذلك أكثر من مرة على مدى المقابلة معه، التي اعتبرت عنصراً مهما من مكونات مادة الفيلم الوثائقي بالإضافة الى المقاطع الأرشيفية والحية لمجريات الحرب.

وفي الوقت الذي وصف فيه الطبيب تجربته مع أحداث الحرب وتوثيقها دعم المخرج عمق شخصيته بشهادة أنس الشريف الصحفي في قناة الجزيرة وجاره في مخيم جباليا، ومقابلة زوجة الطبيب ـألبينا أبو صفية، التي سردت قصتها الشخصية كأي مواطن غزي دمرت الحرب حياته وشتت عائلته، وذلك في مسار زمني مختلف عن مسار شهادة زوجها، حيث تحدثت بعد اعتقاله، في حين روت شهادة الطبيب معاناة اهل القطاع من الحرب قبل اعتقاله، وقد تنوعت اللقطات الواسعة والقريبة والقريبة جدا وزواياها، بطريقة استطاعت أن تخلق تفاعل من المشاهد يضعه في مكان الشاهد المشارك على جرائم الإبادة والتهجير.
ومن اهم الحقائق التي كشفها الفيلم الوثائقي وأثبتت بشاعة ممارسات آلة الإبادة التي نفذها الاحتلال ضد الفلسطينيين، ما جاء على لسان د. حسام حصار مستشفى كمال عدوان لمدة 100 يوم بقي فيها الطبيب محبوساً مع مئات الجرحى الذين وصلوا بإصابات غريبة جداً وبأجساد مكسوة بطبقة من البارود بلا رؤوس في الغالب، بالإضافة الى منع دخول الادوية واستنفاذ مخزونها وسطة قتل الكوادر الطبية واعتقالها ونزوح الأطباء الاجباري الى الجنوب.
اما عن أصعب الأوقات التي عاشها الطبيب فهي لحظة المفاضلة بين الحالات التي يجب ابقاؤها على قيد الحياة، وتخطي بعضها الملقى على أرضية المشفى، مما أدى الى استشهادها ودفنها في ساحته، بالإضافة الى ادخال الكلاب على الأطباء والمصابين، ونهشهم بعد ضربهم وتعذيبهم على أسرة المشفى.

ويلاحظ أن الشخصيات التي تروي الأحداث نمت بصورة تلقائية، ارتبطت بسرد قصص أهل القطاع الموجعة، ومن ذلك وصول الطبيب وزوجته الى لحظة بكيا فيها معاً، رغم اختلاف المسار الزمني لحديثهما بسبب استشهاد ابنهما في قصف على المنزل، فصلى الطبيب صلاة الجنازة على ولده باكياً ومنهكاً في ساحة المستشفى، لتظهر بعد هذا الحدث نبرة الياس والحزن في كلامه ويتغير إيقاع الفيلم الى المزيد من هاوية الحزن والكآبة التي خيمت على اهل القطاع، ومثله مثل غيره فقد الطبيب بيته وابنه ومشفاه ايضاً.
ظهر الطبيب في لقطته الأخيرة كما في الأولى داخلا الى دبابة الاحتلال التي أمرته بالتوجه نحوها بعد أن اعتقل الجنود الكادر الطبي كاملاً ومن وقتها لم يعرف عنه اهله وشعبه سوى بضع معلومات غير سارة، بعد أن سطر آية من الصمود في وجه آلة الإبادة وهو الان واحدا من 362 طبيبا وممرضا أُخفوا قسرا في السجون الإسرائيلية، بعد ان قتل الاحتلال 1071 من الكوادر الطبية حسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، وهذا ما أخفاه الفيلم الذي ركز على الجوانب العاطفية واكتفى بشهادة ضيوفه التي وثقت لهول الإبادة.

