هوامش وملاحظات من مهرجان الرباط لسينما المؤلف
من دون جمهور لا توجد مهرجانات سينمائية، فالمهرجان حالة احتفالية، بالفن السينمائي.. حالة لا تكتمل إلا بوجود ملحوظ وقوي للجمهور، فمن أجل الجمهور يصنع السينمائيون الأفلام أو يبدعونها (لمن يتأففون من كلمة “يصنع”!). وفي مهرجان الرباط لسينما المؤلف جمهور حاضر وموجود في كل العروض، وهو ليس كالجمهور الغوغائي الذي نراه في بلاد أخرى تخلفت سينمائيا بفعل انفصال الثقافة عن السينما، وإقبال أعداد متزايدة من فاقدي التعامل مع الثقافة على مهنة الإخراج السينمائي باعتبارها مهنة “همبكة وحداقة” كما سبق أن قال رشدي أباظة في وصف السينما، أي أنه فن يعتمد على المسلياتية والحكواتية والمضحكاتية والمهرجين على نحو ما كان سائدا تاريخيا في زمن الملوك والأمراء منذ الدولة العباسية وفيما بعد!
الجمهور هنا يحضر ويلتزم بالأدب والانضباط، يستمع وينصت ويتببع الفيلم في هدوء واهتمام، فلا نستمع كل دقيقة وأخرى لأصوات أجهزة التليفون المحمول أو الهمهمات والصرخات والضحكات العابثة حتى أمام فيلم يعرض مثلا لمأساة، وهو ما ينم عن ذوق سقيم وقيم مفقودة. والأمر الجيد أيضا أن مناقشات الأفلام تعقب عرضها مباشرة داخل نفس القاعات التي تعرض فيها الأفلام.
تعرض معظم أفلام المهرجان في ثلاث قاعات أو بالأحرى، دور عرض سينمائي، أولها مسرح محمد الخامس وهو كما يتضح من إسمه، مسرح مخصص أساسا لعرض المسرحيات يمكن تحويله إلى دار لعرض الأفلام، وهو الذي يستضيف حفلي الافتتاح والختام نظرا لاتساعه واحتوائه على عدد كبير نسبيا من المقاعد ولكني أرى أنه أصبح الآن في حاجة إلى الكثير من العمل لاستعادة بهائه القديم وتحويله إلى دار للمسرح والسينما تليق بعاصمة المغرب.
وعلى العكس من الحالة المتدهورة نسبيا لمسرح محمد الخامس، نجحت السلطات في استعادة رونق وشموخ دارين للعرض من أقدم دور السينما في الرباط هما “الفن السابع”، و”النهضة”.. وكم أود لو يصدر المركز السينمائي المغربي كتابا مصورا يعرض بالتفصيل لتاريخ أهم دور السينما التاريخية القديمة التي لاتزال موجودة في المغرب ومنها بالطبع دار أبنيدا ودار اسبانيول في مدينة تطوان وهما من أقدم وأجمل دور العرض في العالم، وقد ظلا يحافظان على طابعهما المعماري وتم ترميمهما واستعادتهما الى ما كانا عليه قبل افتتاحهما في أوائل وثلاثينيات القرن الماضي بالاستعانة بالتصميمات الأصلية الاسبانية وبمشاركة الخبراء الإسبان. لكن يظل للمغرب فضل الاصرار على الابقاء على هذه الدور وعدم تركها فريسة للتقسيم إلى قاعات صغيرة على غرار ما يمكن أن نطلق عليه “إغتيال دور السينما” الذي يحدث بشكل منظم منذ ثلاثة عقود في أوروبا وغيرها، وتحويلها إلى مجرد “علب” صغيرة لعرض الأفلام بعد تدمير عمارتها وتصميماتها التي كانت يضفي احتراما على فن السينما وتجعله فنا لا يقل أهمية عن المسرح والأوبرا ودور الموسيقى والباليه والمتاحف المخصصة لعرض روائع الفن التشكيلي.
الأفلام التي تشارك هنا في المسابقة الرسمية هي 14 فيلما منها 6 أفلام عربية، فيلمان من المغرب هما “هم الكلاب” لهشام العسري، و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” لحكيم بلعباس. وفيلم من فلسطين هو “5 كاميرات محطمة” لعماد برناط وجي دافيدي (وقد خلا كتالوج المهرجان من إسم المخرج الثاني (الإسرائيلي) رغم كونه إسرائيليا من المناهضين للسياسات الإسرائيلية الصهيونية ورغم تضامنه الكامل مع القضية الفلسطينية ودوره الرئيسي في صنع الفيلم. وكان هذا الفيلم- الذي رشح لجائزة الأوسكار- قد رفض عرضه في مصر ودول عربية أخرى بسبب هيمنة البارانويا السياسية لدى أغلبية المثقفين اليساريين والقوميين باتجاه كل من يحمل جنسية إسرائيل بما في ذلك الكثير من المثقفين الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الخط الأخضر ويحملون رغما عنهم الجنسية الاسرائيلية، فالهوية الثقافية لا علاقة لها بالجنسية أو بالتجنس ولا بالدين الموروث أو الأصل أو اللون أو العرق، بل بالموقف الفكري وبالانتماء الثقافي. وكم من العرب الصهاينة أشد تطرفا من الصهاينة اليهود ممن يصولون ويجولون حولنا، وكم من الأمريكيين والأوروبيين ممن يناصرون قضية الشعب الفلسطيني والقضايا العربية ويتخذون موقفا سياسيا صلبا ويتظاهرون وينشطون بشكل عملي ملموس ضد سياسات بلادهم، فنقول لهم: شكرا.. ثم إذا اكتشفنا أن بينهم يهوديا نرفضه ونتحفظ عليه، رغم إدعاء الكثير من المثقفين العرب وأشباه المثقفين أيضا، أنهم علمانيون وتقدميون وضد الخطاب المتأسلم الرجعي، ولكنهم ليسوا في الحقيقة سوى قطعان من الشوفونيين المغرقين في التعصب الوطني والعرقي، وكلهم بالطبع، يستخدمون نفس التعبيرات التي تحذرنا من ذلك “السم المدسوس في العسل” وكأننا في حاجة إلى تلك النصائح التي كانت النظم الشمولية القومية العربية تستهجمها في الإعلام للضحك على ذقون شعوبها.
لا نود أن نغرق كثيرا في هذا الموضوع الإشكالي الذي يحتاج إلى صفحات وصفحات لا نثق في إمكانية أن تغير كثيرا مما هو قائم من الواقع الثقافي المتخلف، وما يستتبعه من تخلف سياسي بالضرورة: في الخطاب والموقف والنهج، وهو موقف يتأرجح عادة بين تأييد الشيء ونقضيه!
فيلمان من المغرب وفيلم من فلسطين، وفيلم من مصر هو “هرج ومرج” نادين خان، وفيلم من تونس هو “عشية الخميس” لمحمد دمق، وفيلم من سورية هو “العاشق” لعبد اللطيف عبد الحميد.
و”العاشق” هو الفيلم الذي منعت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي عرضه في الدورة الأخيرة (دورة 2012) بسبب اعتراضات بعض جماعات المعارضة السورية أو ما يسمى كذلك، من المقيمين في مصر، الذين اتهموا الفيلم بأنه من الأفلام “الرسمية” التي تمثل النظام. وهو ما يعكس جهلا مزدوجا (أي من تلك الجماعات ومن القائمين على المهرجان!)، فالفيلم في الحقيقة يعبر- عن رفض مخرجه (المتهم أيضا بأنه من أبناء النظام) لثقافة النظام، ثقافة وتعاليم حزب البعث الذي يحكم سورية منذ أكثر من أربعين عاما وسخريته الشديدة الواضحة منها، بل وينتهي الفيلم بهتافات جماعية تردد أن الشعب السوري واحد، في رسالة واضحة تقول إنه لا فرق بين العلوي والسني والمسيحي والدرزي (هناك أنماط تعبر عن هذه الطوائف في الفيلم نفسه تتعايش بشكل طبيعي) وإن كان الفيلم نفسه يستحق وقفة نقدية خاصة.
طبيعي أن السياسة هي الموضوع الذي يسيطر على أغلبية الأفلام العربية، فالفيلم التونسي يصور أجواء مجتمع ما قبل انفجار الثورة العربية الأولى ضد الديكتاتورية لكنه لا يصل إلى تصوير الثورة أو ما بعدها. والفيلم المصري كذلك يصور مجتمع الهامشيين من خلال رؤية “ما وراء واقعية” إذا جاز التعبير، أي تستند إلى الواقع ولكنها تحوله إلى صورة خيالية في سياق فني كاريكاتوري ساخر، والفيلم المغربي “هم الكلاب” يستوحي موضوعه من انتفاضة 1981 التي لم تكتمل بل قمعت بشدة، مع إشارات معاصرة إلى احتمال أن يلحق “الغضب العربي” بالمغرب.
وربما يكون قسم البانوراما المخصصة للأفلام المغربية الحديثة من أهم الأقسام في المهرجان، فنحن نأتي إلى هنا راغبين في التعرف على أحدث الاتجاهات في سينما المغرب ولدينا تشكيلة جيدة من ستة أفلام حديثة هي “الموشومة” لحسن زيتون، و”زيرو” لنور الدين لخماري، و”البراق” لمحمد مفتكر، و”أياد خشنة” لمحمد العسلي، و”نساء في المرايا” لسعد شرايبي، وأخيرا “خويا” لكمال المحوطي.
ستكون لنا وقفة أيضا مع بعض هذه الأفلام لاكتشاف مناطق القوة والصعف فيها في مقال قادم.