هذا ليس ديكورا: فيلم “الجامع” لداود أولاد السيد

ا يمكن الاقتراب من فيلم المخرج  داوود أولاد السيد “الجامع” (2010) دون الإشارة إلى فيلمه ما قبل الأخير “في انتظار بازوليني” (2008) ذلك أن هنالك شخصيات تنتقل من الفيلم الثاني إلى الفيلم الأول ووقائع لا تستقيم دلالاتها إلا في إطار العملين معا.

يتمحور فيلم “الجامع” حول محنة من نوع خاص عانى من ويلاتها موحا الفلاح البسيط الذي وجد نفسه إزاء وضع يمكن بسهولة نعته بالسوريالي إذ أن الفريق العامل بفيلم “في انتظار بازوليني” قد عمد، بعد انتهاء التصوير، إلى هدم جميع ديكورات الفيلم المذكور باستثناء ديكور الجامع الذي تحول بقدرة قادر إلى مسجد حقيقي يؤمه الناس لإقامة الصلاة والتفقه في أمور الدين.

وقد طرق موحا، المقهور والمغلوب على أمره، مختلف الأبواب لاسترجاع أرضه التي بني عليها ديكور الجامع واشتكى ورطته إلى الفقهاء والإداريين وأهل البلدة وإلى المخرج داود أولاد السيد نفسه، وراسل جهات رسمية عدة لكنه ووجه بلامبالاة رهيبة وبسخرية مبطنة، إذ أن أحد الفقهاء مثلا اعتبر أنه إنسان محظوظ ستأتيه الحسنات من حيث لا يتوقع، في حين نصحه أحد المسؤولين بأن يحاول الحصول على رخصة لهدم الديكور موضوع النزاع.

داود أولاد السيد

ولم يكن موحا وحيدا بشكل كامل في معركته الدونكيشوتية هاته، بل عثر على حليف سانده هو سلام الفقيه الشاب المعزول، الذي يعيش لوحده بضريح بالمقبرة بسبب مواقفه الشجاعة وصراحته الجارحة، والذي قبل المشاركة في عملية هدم الجامع اقتناعا منه بأن “الله لا يقبل الظلم”، غير أن العملية لم تكلل بالنجاح، بل إن الجامع، بالإضافة إلى وظيفته المعروفة، أصبح معلمة يزورها السياح الأجانب ويستقبلهم فقيه متصابي، تعرفنا عليه في فيلم “في انتظار بازوليني”، يلبس لباس محارب روماني ليسلي السياح ويستجديهم . و قد تأكد موحا أن الفيلم كان طالع شؤم عليه وأن أصحاب السينما بشكل عام غير جديرين بالثقة، لكن ذلك لم يمنعه من أن يجعل من قطعة الأرض قضية منحها كل وقته وجهده. وبما أنه كان عضوا في فرقة موسيقية محلية، فقد انتهز فرصة تواجد فريق تلفزي قدم لتصوير الاستعدادات لتنظيم أحد المهرجانات الفنية، فبث شكواه عبر التلفزيون وجعل قضيته تتخذ طابعا علنيا وعموميا، لكن كل آماله في إحقاق الحق تبخرت.

 فهل كان هذا الوضع فقط نتيجة لسوء تفاهم وسوء تدبير إشكال إداري؟ أم هو مؤشر بسيط وعميق في الآن نفسه على أن المجتمع الذي يحكي عنه الفيلم هو مجتمعي تقليدي لا تهمه السينما وما تشيده من عوالم وفضاءات تخييلية، بقدر ما يهمه أن يتم التعامل مع الدين بما يتوجب من احترام وتهيب؟


طوال الفيلم ركزت الكاميرا على التفاصيل وعلى الأرض القاحلة الجافة و على النساء المتشحات بالسواد وعلى أشجار النخيل وعلى لاقطات البرابول، وصورت الحياة الصعبة والمتقشفة التي يحياها الناس البسطاء مستعملة تقنيات هي نفسها متقشفة، واعتمدت كثيرا على اللقطات المقربة التي تكشف عن الأحاسيس الدفينة للشخصيات و على توظيف ذكي للعبة النور والظلال وللضوء الإصطناعي بالأزقة وفي الفضاءات المغلقة، كما نلمس استثمارا لبعض التقنيات المسرحية بما أن الكاميرا غالبا ما تظل ثابتة لمدة طويلة ليبرز الحوار، بتلقائيته وعاميتة المحببة، باعتباره مكونا أساسا من المكونات الفنية للفيلم.


يطرح “الجامع” بشكل واضح إشكالية البعد الوثائقي في الأفلام الخيالية، والوظيفة التي يمكن أن تسند لهذا البعد و كذا طبيعة التلقي الذي ينتظره منا، إذ أننا نجد أنفسنا في المشهد الأول من الفيلم مثلا إزاء معد برنامج تلفزي معروف وهو يقدم أفراد الفريق الفني والتقني لفيلم “في انتظار بازوليني”، ويحتفي بهم بمناسبة تقديم الفيلم لجمهور بلدة زاكورة التي كانت أحد مواقع تصويرهذا الفيلم ، ثم نلتقي في مشهد آخر بالمخرج داود أولاد السيد نفسه وهو يقود سيارته ويرد على تحيات مجموعة من الممثلين الثانويين الذين نادوه باسمه وسألوه إن كان بصدد إعداد عمل سينمائي جديد، بالإضافة بالطبع إلى ديكور الجامع الذي كان محض ديكور عادي في فيلم أول وتحول في الفيلم الموالي إلى “فاعل” رئيسي ومتحكم في توجيه الأحداث.

وبتبنيه لهذا النمط من اللعب ومن التهجين يقترح علينا فيلم “الجامع” ما يمكن تسميته بالتلقي الملتبس الذي يجعلنا نقر بأن الحدود بين الواقعي والمتخيل هي حدود واهية، وأن الحياة تقوم أحيانا بكل ما في وسعها لتندرج ضمن عالم الخيال الفسيح.

Visited 86 times, 1 visit(s) today