هدى جعفر: “عين على السينما”.. الرؤية ستة على ستة!
ننشر هنا الموضوع الثالث في سياق الاحتفال بمرور أكثر من عشر سوات على موقعنا “عين على السينما” ويتضمن شهادة الناقدة اليمنية هدى جعفر…
عندما انطلقتْ مجلة “عين على السينما” كانت منطقتنا تموجُ بثورات ما يُسمى بالربيع العربي، ولا يُمكن إيجاز التغييرات التي حدثت آنذاك بكلمة أقل من “عاصفة”: تنازلات عن كُرسي الحكم، مطالب بذيئة اللهجة، دماء مُراقة في الشوارع والسجون، انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ومفاوضات تدخلت فيها أكبر الدول، وفي وسط ذلك كله، وفي شهر مايو/ أيّار تحديدًا، قرأتُ خبر إطلاق مجلة “عين على السينما”، ولم أنتبه حينها إلى المفارقة، إذ لا وقت أكثر “درامية” لإصدار منصةٍ تهتم بالنقد السينمائي مثل عام 2011! بالتأكيد كان ذلك خبرًا سعيدًا، لكنّي لم أتوقع استمرار “عين على السينما”، شأن المشاريع الثقافية في منطقتنا، ولم أتوقع أكثر أنّي سأكون أحد كتابها في يومٍ من الأيام.
***
لا يُمكن الحديث عن تجربتي مع “عين على السينما” دون التطرّق إلى معضلة الناقد السينمائي اليمني في وسطه، المحلي، والإقليمي!
إنّ اليمن من الدول العربية التي لا توجد بها صناعة سينمائية، رغم أنّه قد عرف العروض السينمائية مطلع القرن الماضي في عدن، اليمن الجنوبيّ آنذاك، أثناء الاستعمار البريطانيّ، أي قبل أكثر من مائة عام، ثم بلغ انتشار دور السينما ذروته في الستينيات والسبعينيات في عموم اليمن، وعرف اليمنيّون مشاهدة الأفلام في مكانها الطبيعي لفترة من الزمن، ولأسبابٍ يطول ويصعب الحديث عنها هنا فقد بدأ منذ التسعينيات تدهور دور السينما وإغلاقها، فتم تحويل معظمها إلى قاعات أعراس ومخازن للبضائع، لكن في نفس الوقت فقد استمرّت علاقة المشاهد اليمني بالسينما، الأمريكيّة، والمصريّة، والهنديّة بدرجة أولى، ثم الأفلام الآسيويّة، والأوروبيّة، واللاتينيّة بدرجة أقل، وإن اختفى الوسيط المعروف ألا وهو دور السينما! ولذلك قد يبدو غريبًا وجودَ ناقدٍ سينمائيّ من اليمن، وتزداد الغرابة عندما تكون الناقدة امرأة.
لقد بدأتُ الكتابة في النقد السينمائي من 2007 في صحفية “الجمهورية” اليمنيّة، وقد لاقت المقالات تفاعلًا كبيرًا من القُرّاء، ولكن عندما أردتُّ الكتابة في صُحف عربيّة رائدة، كان الرد الذي يُرمى في وجهي أغلب الوقت، بأنّ من الأفضل لي، كامرأة يمنيّة، أن أكتب عن شؤون بلدي المجهول الذي لا يُعرف عنه الكثير، فاليمن يقع في بؤرة الصراع الإقليميّ، وفيه قاعدة وحوثيون واشتراكيون وناصريون، اكتبي عن العلاقة بينهم، وفي اليمن تموت النساء كل يوم لأسبابٍ قاسية، وأنتِ نسوية فلماذا لا تكتبين عن النساء؟ وإذا أردتِ الحديث عن الفنون فاكتبي لنا عن الشعر الحميني والطرب اليمني الذي سرقته دول الجوار، أو اكتبي عن نقش الحناء، والملابس التراثية، وفنون العمارة اليمنيّة، ورقصة البَرَع والشرح اللحجيّ.
وكان ردّي الدائم على هذه النصائح/ العقبات بأنّ كل ما تمّ ذكره مهمًا، وكل ذلك يحدث فعلًا، لكنّي لا أريد الكتابة عنه، أُريد الكتابة عن السينما، كما أراها، وكما أفهمها، وكما أشعر بها.
ولم تكن تلك انتقادات/ نصائح المواقع العربية فقط، بل كانت تعليقات من نشطاء وكُتّاب يمنيين، يرون في كتابة اليمنيين عن السينما، نكتةً ثقيلة الظل وخروجًا عن الواقع!
ثم جاءت مجلة “عين على السينما” وهزمت تلك الصورة النمطية للكاتبة اليمنيّة بالضربة القاضية.
لقد كنتُ حريصةً منذ إطلاق “عين على السينما” على قراءة ما يُنشر فيها، لكنّي توقفتُ آنذاك عن الكتابة لظروفٍ شخصيّة، فلم أنشر فيها إلا بعد ثلاث سنوات تقريبًا من إطلاقها.
كان ذلك في 2014، وبعد مرور قُرابة 4 شهور على انتحار المخرج السويدي من أصل جزائريّ مالك بن جلول الذي فاز بالـ “أوسكار” عن فيلمه “البحث عن رجل السكر”، فكرتُ بكتابة مقال عنه، وتم ذلك بالفعل، لكن المشكلة كانت في مكان النشر، لم أكن أريد أن أنشر في أي جهة تعتقد أنّ النقّاد يجب أن يكونوا من منطقة جغرافية معينة حتى لو قبلت تلك الجهة نشرَ مقالي! ثم قررتُ التواصل بعد تردّدٍ كبير مع الأستاذ أمير العمري مباشرةً على حسابه في فايسبوك، ردّ عليّ بتهذيب لكن باقتضاب، أخبرته بأنّ لدي مقالًا أود نشره في “عين على السينما” أعطاني بريده الإلكتروني، وأرسلت المقال، خلال ساعات قليلة كان رد الأستاذ أمير العمري في بريدي، وقد أثنى على المقال بكلماتٍ لم أنسَ أثرها حتى كتابة هذه السطور رغم مرور سبع سنوات!
ثم نشرتُ بعد ذلك في “عين على السينما” عددًا من المقالات، والدراسات، والترجمات، بحرية كاملة، دون أي تدخل بفكرة مقالاتي أو محتواها بأي شكلٍ من الأشكال، وكان النقاش، بيني والأستاذ أمير العمري، هو الطريقة الوحيدة للاقتناع من عدمه.
مجلة “عين على السينما” هي المنصة الإلكترونيّة الوحيدة المتخصصة في النقد السينمائي في العالم العربي، ولها الدور الأكبر في رفد هذا المجال الذي يعاني أصلًا من الكثير من المشاكل على مستوى العالم، ويزداد الوضع سوءًا في منطقتنا بالتأكيد، حيث تتقلص الصفحات المخصصة للنقد السينمائي في الوسائل المطبوعة، وإن وُجدت فهي محجوزة لأسماء محددة من النقاد “المحليين”، كما أنّ صفحة السينما هي أول ما يُحذف، غالبًا، عند وجود تغطياتٍ سياسيّةٍ عاجلة، أو حتى من أجل إعلانٍ عن الأطعمة، أو السيارات، أو مستلزمات النظافة الشخصية!
لذلك كانت “عين على السينما” هي الوجهة الرئيسية للعشرات من النقاد السينمائيين لمن أراد مساحة حُرّة كاملة، لا تخضع للمزاج السياسيّ، أو الذوق الشخصيّ، أو محاباة الأصدقاء، أو لمقص الرقيب ومِلقطه!
إنّ شرطَ النشر في “عين على السينما” هو الموهبة فقط، دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى، وهناك تجد نقّادًا سينمائيين من مصر، والعراق، والمغرب، وسوريا، والجزائر، وغيرها من البلدان العربية، ملأوا ورقة النقد السينمائي في العالم العربي بأفكارٍ متجددة، وأحبارٍ طازجة.
إنّ لـ”عين على السينما” اليد الطولى في تشكيل مساري في الكتابة النقديّة، وتجربتي معها متميزة وجوهريّة!
وبطبيعة الحال فإنّ أمام الأفضل دائمًا فرصةً ليُصبح أكثر جودة وتميزًا، لذلك فأنا أقترح أن تنشر “عين على السينما” من ملفين إلى 4 ملفات سينمائية في السنة، عن مواضيع يُحددها رئيس التحرير بالتشاور مع النقاد والناقدات، مثل: الصوابية السياسيّة والسينما، أو العالميّة والسينما العربية، أو جماليات الواقعيّة الإيطاليّة، أو غيرها من المواضيع التي تهم الناقد السينمائي، يُمكن أيضًا إصدار كتابٍ ورقي عن أهم المقالات التي وردت في المجلة خلال فترة زمنية معينة، ثلاث سنوات على سبيل المثال، أو كتاب يحوي أهم المقالات النقدية التي وردت في المجلة خلال السنوات العشر منذ انطلاق المجلة.
بالنسبة للأفلام التسجيلية والوثائقية، التي يعرضها الموقع أعتقد أن ترجمتها سيكون أمرًا ذا فائدة عظيمة للقراء، والنقاد، وصنّاع الأفلام على حدٍ سواء.
وبالنسبة لتبويب المجلة، فأقترح أن يتم إضافة قسمٍ يخص التدوينات الشخصيّة، وهي النصوص ذات الطابع الذاتي، التي لا تحقق معايير كتابة النقد السينمائي، وتشمل المقالات التي تتحدث عن ذكرى مشاهدة الأفلام في الطفولة، أو دخول السينما لأول مرة، أو الانطباعات الشخصية حول النجوم وما إلى ذلك.
من جانبٍ آخر اقترح إقامة ندوات و/ أو مقابلات دورية وحلقات نقاش عن طريق تطبيق زوم، مع النقاد والناقدات، يديرها الأستاذ أمير العمري، أو نقاد/ ناقدات يتم اختيارهم من قِبل رئيس التحرير.
لقد تغيرت الأحوال كثيرًا من 2011 وحتى الآن، لكن “عين على السينما” تخطو كل عام منذ تأسيسها بثبات نحو مكانة أعلى في مجال النقد السينمائي، إنها عشر سنوات من حياة مجلة “عين على السينما”، لكنّها عمرًا أكبر من ذلك بكثير في واقع النقد السينمائي في الشرق الأوسط.
“عين على السينما” حيث عشرات “الأعين” المتأملة والثاقبة، برؤيةٍ، كانت وما زالت، ستة على ستة!
- كاتبة من اليمن