نظرة على الواقعية الايطالية الجديدة: “امبرتو دي” نموذجا

جاءت الواقعية الايطالية الجديدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية نتيجة للاضطرابات السياسية والظروف الاقتصادية السيئة التي أثرت على ايطاليا تلك الفترة، حيث أن نظام موسوليني الفاشي وتحالفه مع النازيين عمل على جلب موجة كبيرة من التحولات في المجتمع الايطالي، فعمل ذلك على تشوه المجتمع حيث محاولة النظام في السيطرة على الأفكار السائدة وزرع الأفكار الفاشية في عقول الافراد، وارسال الشباب إلى الحرب.

أراد النظام الفاشي أن يجعل من السينما أداة لتطويع الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها، فأصبحت الأفلام لا تعبر عن الحياة الواقعية أوالمشاكل اليومية التي يتعرض لها الأفراد، بل أراد أن ينقل صورة وهمية تبعد كل البعد عن الواقع الملموس، فتدخلت السلطة الفاشية ووضعت قبضتها على حركة صناعة الأفلام، فيقول موراندو مورانديني: “في عام 1926 تدخلت الدولة للمرة الأولى في مجال السينما، لكي تضع سيطرتها على المؤسسة القومية للسينما، وهكذا خلق النظام لنفسه احتكاراً لكل المادة السينمائية”.

فالحكومة بعد الحرب لم توافق على الأفلام التي تظهر ايطاليا في صورة سلبية، أو تظهر مساوئها، فعملت على فرض رقابتها على الأفلام، وبذلك أصبحت حكومة موسوليني تتحكم في حركة صناعة السينما وانتاجها، وبسقوط موسوليني ونظامه الفاشي سنة 1943، ترك ذلك فراغاً في صناعة السينما الايطالية.

ظهور الواقعية الجديدة

فجاءت الواقعية الايطالية الجديدة كرد فعل لتلك الظروف، لتعلن تمردها على الأفلام السائدة التي كان يشجعها النظام، وتأخذ مساراً جديداً يعبر عن الواقع الأليم، عن ايطاليا التي دمرتها الحرب،  واصبحت تواجه الأفراد بالقضايا التي تؤرقهم، فاتجهت إلى التخلص من الأعمال المآلوفة أثناء حكم موسوليني والتي كانت تحاكي الطبقة الارستقراطية والتي يطلق عليها أفلام التليفون الأبيضtelefono bianco  والتي كانت تبتعد عن الحياة الواقعية.

ويتفق بعض النقاد على أن الواقعية الايطالية الجديدة قد بدأت مع فيلم “روما مدينة مفتوحة” لروبرتو روسيلليني والذي يصور معاناة روما تحت الاحتلال النازي، فبعد الحرب العالمية الثانية وانتشار الفقر وافلاس ايطاليا، لم يعد لدى المخرجين سوى الشارع لتصوير أفلامهم، فأصبحت افلام الواقعية الجديدة تصور في الميادين والأماكن العامة والأحياء الايطالية الفقيرة، فتصور الأحداث بمواقعها الحقيقية، مع تجنب استخدام المؤثرات او الاضاءة، فأصبحوا يعتمدون على الاضاءة الطبيعية، لذلك أصبح التصوير خارجي في أغلب الأحيان وأثناء النهار.

وبذلك عملت الواقعية الجديدة ثورة في صناعة السينما، فأضافت مذاقاً خاصاً لأفلامها، وأثرت كذلك على صناعة السينما في الدول الأخرى، فجاءت على غرارها الموجة الفرنسية الجديدة لتعكس الواقع ومشاكله السياسية والاجتماعية والتركيز على النقد الاجتماعي.

واقعية دي سيكا

اما افلام دي سيكا، فهي من أهم أفلام تلك الفترة والتي تناولت الصعوبات التي تجتاح حياة الأفراد بعد الحرب، فجاء بممثليه من غير المحترفين كي يعبر تعبيراً صادقاً عن الواقع الايطالي: ماسحو الأحذية، سارقو الدراجات، امبرتو دي وغيره، فيعلق موراندو مورانديني قائلا: “يرجع نجاح تلك الفترة إلى التوازن بين إخراج دي سيكا شديد البراعة، والعطاء النظري لزافاتيني الذي احتفى بالشعر الكامن في الحياة اليومية وفي أعماق الإنسان العادي”.

فنرى في فيلم “امبرتو دي” تمثيلاً نموذجياً للواقعية الجديدة، حيث تصوير الفقر والبطالة التي تحيط بروما بعد الحرب، امبرتو دومينيكو فيررارى، ذلك المسن المتقاعد ورحلته في بحثه عن المال من أجل سداد ايجار غرفته ومحاولته في النهاية للانتحار،وحيداً طوال الفيلم لا يرافقه سوى كلبه فلايك، فالفيلم يعكس تدهور الحالة الاقتصادية في ايطاليا، ومدي تأثر الأفراد بها.

يبدأ المشهد الافتتاحي في الفيلم بلقطة عامة  long shot لمدينة روما حيث المباني على الجانبين ويقويها تقابل الخطوط في نهاية الكادر، مع ثبات وضع الكاميرا fixed fram  وكأنها لقطة تسجيلية وتوثيقية لمدينة روما الايطالية في تلك الفترة. التصوير الخارجي، والاضاءة الطبيعية مع مجيء المظاهرة المطالبة بزيادة الرواتب والمعاشات، تعبر عن صدق تلك الأحداث، ثم تصوير تلك المظاهرة بزاوية كاميرا مرتفعة أثناء مطاردة المتظاهرين من قبل الشرطة، فتبين ضآلة تلك الفئة أمام النظام حتى بعد سقوط موسوليني.

وفي مشهد بحث امبرتو عن كلبه فلايك، ودخول بقية الأفراد الباحثين عن كلابهم، التي تجمعهم الحكومة لإعدامهم، يتم فتح الباب لهم، فيذكرنا بفيلم لوميير “خروج العاملات من المصنع”، حيث ثبات وضع الكاميرا وفتح الباب ودخول الأفراد بالتتالي.

وعلى الجانب الآخر نرى الخادمة ماريا بملامحها الريفية، وعلاقاتها الغرامية التي تظهر من خلال محادثة حبيبها من خلال النافذة، ثم غلقها سريعاً عند ظهور قائده، فنراه في زاوية مرتفعة ويظهر حجمه صغيراً في لقطة بعيدة جدا تبين استغلال الشباب في الحرب والقضاء على احلامهم البسيطة، ونرى كذلك ظلال الضوء على وجه ماريا وامبرتو من خلال خطوط فعلية متوازية أفقياً، فتظهرها وكأنها داخل سجن، فهي اشارة للعلاقة الآثمة -في نظر المجتمع حينذاك- بينها وبين الشاب، فأصبح كل فرد يعيش داخل سجن من التقاليد التي يفرضها المجتمع.

تستمر معاناة امبرتو وفشله في الحصول على المال لتسديد الايجار، حتى يصل بإحباطه إلى محاولته للانتحار مع كلبه، صديقه الوحيد في تلك الظروف، فتأتي لقطة مقربة جداً close up  للكلب فلايك أثناء مجيء القطار في محاولة للإفلات منه ومخاصمته، وكأنها الصدمة التي جعلته ينظر للحياة بمنظور آخر، حتى نصل إلى المشهد التالي بعد مصالحة فلايك له والابتعاد عن حافة القطار بعد فشل تلك المحاولة، فنرى تحرك امبرتو وفلايك من مقدمة الكادر إلى نهايته بعد تمسكه بالحياة، فتساعد الأشجار والخطوط المتوازية على جانبي الكادر على عمق المجال، حتى يختفيان تماماً مع ظهور الأطفال والبهجة التي ترافقهم والتي تقضي على الكآبة المسيطرة على الجو العام منذ بداية الفيلم.

Visited 173 times, 1 visit(s) today