“نزوح” رحلة هرب شاقة أم نزهة تحرر جميلة؟

منار خالد

أثار الفيلم السوري “نزوح” للمخرجة سؤدد كعدان، الكثير من الجدل منذ عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثانية، كما عرض بعد ذلك ضمن فعاليات الدورة الـ66 من مهرجان لندن السينمائي، وحصل على عدة جوائز من بينها جائزة باومي للسيناريو من برلين.

تدور أحداث الفيلم حول عائلة صغيرة تتكون من أب وأم وابنة، تعيش في دمشق، يقرر الأب البقاء في وطنه مع عائلته رغم الدمار المحيط بهم بسبب الصراع المسلح خلال السنوات الماضية التي حلت على البلاد، فيصيب البيت صاروخ يدمره ليصبح بلا سقف أو حوائط كاملة، ويتشبث رب الأسرة بوطنه رافضًا النزوح، محاولًا سد فجوات حوائطه وسقفه بأقمشة خفيفة سرعان ما تتلاشى بسبب أي عواصف أو أمطار، حتى يشتد الصراع بين الزوجين، فتقرر الزوجة أخذ الابنة والنزوح بمفردهما وترك الأب وحده في حطامه.

يُفتتح “نزوح” على كادر ضيق يرصد وضع الابنة داخل الظلام مصدر ضوئها شمعة، وبيدها قلم ترسم به على الحائط، وجاء هذا الكادر مُمهدًا لكافة الأحداث القادمة بالفيلم، فالفيلم يبدأ بالمرأة ويجعلها محور الحدث، وخاصة الفتاة المراهقة، وما يحيطها من ظلام ينم عن الوضع البائس الذي تحياه والقلم المعاون على تخطي ذلك الوضع بالرسم والتحرر بالخيال.

الصورة بين حطام خارجي وتحرر داخلي

يوضح الفيلم من خلال تكوينات كادراته وصوره، أوضاع الشخصيات الداخلية والخارجية، فيبدو وكأنه يرصد الدمار المحيط بهم فقط، لكنه في حقيقة الأمر استطاع بمهارة تفوق السيناريو والحوار أن ينقل حطام تلك الشخصيات ومشاعرها الداخلية وتطورها نحو التحرر أيضًا.

هناك فجوات في كل مكان، ترصدها الكاميرا من زوايا بعيدة لتظهر حجمها الكبير داخل الفضاء الشاسع الذي لا يسكنه أحد سوى تلك العائلة، لتعبر الصورة عن مدى خطأ قرار رب الأسرة في التشبث بالبقاء في هذا المكان، ناقلة تلك الفجوات التي يسكنون بها وتسكن بهم أيضًا. أي تأخذ الصورة من البداية موقفا يدين الشخصية، لتجعل المُشاهد متحمسًا لقرار الزوجة التي تتحول من مطيعة إلى شخصية متمردة في النهاية.

يحضر كادر مميزًا يظهر العائلة داخل إطار محيطه، للتأكيد على كونهم مازالوا أحياء جسديًا، لكنهم محاصرون في حيز ضيق وهدد واضح التكوين. في حالة أشبه للحصار أو السجن.

ومثلما لعبت أُطر الفجوات دور في رصد الحطام النفسي للشخصيات المُمهد لفعلة الزوجة في النهاية، التي تستشعر بخطرها في مقابل الزوج الذي دائمًا ما يضع حلولًا وهمية تتمثل في أقمشة خفيفة تسد الفجوة بشكل مؤقت، نسبة لعدم إدراك خطورة الأمر وعدم القدرة على أخذ القرارات الحازمة، بل سد خاوي ووهمي، لعبت أيضًا الفجوات دورا في رصد مدى حلم وذكاء الابنة “زينة” التي قامت بدورها “هالة زين”، حيث كانت بمثابة المنقذ والمحفز للأم على قرارها.

ظهرت زوايا تصوير ترصد الفجوة من نظر الفتاة النائمة على سريرها بوضع رؤية شخصية أو ما يسمى اصطلاحًا Point of view للشخصية لترى منها السماء وربما يظهر في كادر مخصص وكأنها البحر في أحلامها، وما يحمله كل منهم من طبيعة مشتركة نحو الحرية والحلم والنجاة.

نرمز الفتاة بوجودها هنا إلى المستقبل في بلاد محطمة لا مستقبل فيها، ولم تظهر في مشهد واحد يائسة أو باكية، بل لديها دائما حلول، فهي قادرة على رؤية بصيص النور في وسط العتمة المستمرة، وناظرة للسماء من فجوة غرفتها، بل ومستغلة الفجوة لتكون معبرًا للقاء صديقها الذي تحبه ويدعمها. أي أنها استخدمت الفجوة كحل للخروج من ذلك الحيز الضيق الذي ظهرت فيه العائلة في كادر سابق ضيق وخانق.

تتجلى أهمية الابنة في الفيلم قبل المٌشاهدة ومن البوستر الدعائي، كونها تحتل التكوين الأكبر به، وفي خلفيتها اللون الأزرق التابع لتلك الطبيعة الساحرة التي كانت تراها من فجوات غرفتها.

ومنها يتضح أن الصورة لعبت دورًا في رصد حال البلاد بالفعل، لكنها لم تغفل التعبير عن الشخصيات، بين أب قليل الحيلة، وابنة خيالها يتسع لكل الحيل، وهو المنقذ لباقي أفراد الأسرة ومقوي للأم، ويظهر مدى تأثير الابنة على والدتها في مشهد خاص عند نزول الأب للشارع، ثم سماع موسيقى مرحة من قِبل البنت تشترك فيها معها الأم على أثار سمعها الآتي من غرفتها.

ينتقل الفيلم من عالم المنزل الذي يمتلئ بالفجوات إلى عالم النزوح الفعلي، أو بالأحرى، الفعل الحقيقي داخل حكاية الأسرة وهو قرار الزوجة الذي لم يمهد له الحوار، بينما أكدته الصورة والتركيز من حيث الإخراج، على كل ما سبق ذكره من تأثر بأحلام الابنة. والمحرك الأساسي في ذلك هو رفض الأم قرار الأب بتزويج ابنته المراهقة، محاولة إنقاذ ما بداخلها من أحلام، أي أن الأم قررت النزوح ليس من أجل ذاتها، بل من أجل الصغيرة الحالمة، ومن ثم لكي تعثر على نفسها بل وتكتشفها أثناء رحلتها.

رحلة لاكتشاف الذات

على نفس النهج سار الفيلم بصوره، يرصد المخاطر وأحوال البلاد والنازحين من جهة، ويوظفها من جهة أخرى للتعبير عن شخصياته، فرحلة النزوح والمرور في نفق ضيق، مع بحث الأم طوال رحلتها، عن مخرج للنجاة بحياتها مع الابنة، تلك الحياة التي كانت لا تعلم عنها سوى من خلال زوجها، حيث أنه على الرغم من كونها رحلة شاقة إلا أن الإخراج استطاع أن يصورها كنزهة استكشافية ترى خلالها الأم ما لم تره من قبل، بسبب سيطرة زوجها الكاملة عليها، ليكون نزوحها وخروجها من موطنها، هو أولى خطوات تحررها.

رغم أن الفيلم يتطرق لقضايا سياسية إلا أنه يحمل بداخله قضايا نسوية تتمثل في تلك السيطرة والتحكم في مصائر سيدات العائلة، إضافة لغرس الفيلم مجموعة جمل توضح أنه لم يسبق للزوجة رؤية البحر في بلادها، ولا الخروج من قبل، وإصرارها أثناء الرحلة على ارتداء حذائها الأحمر الأنيق الذي طالما تمنت ارتدائه، بجانب معطف الفراء ذي اللون البني، تلك هي الأشياء التي حرصت على أخذها في رحلتها وكأنها خارجة للتنزه، ثم اضطرت للتخلي عنها لتخفيف الأحمال في رحلتها. هذه التفاصيل توضح مدى الحصار الذي كانت تحياه، وهو لا يقتصر على الوضع الشائك في بلادها، بل يتمثل في تسلط زوجها الذي أرغمها على أن تصبح تابعة له. وحين جاء وقت لاتخاذ قرار بالتنازل عن أشياء، اختارت أن تتنازل عن مقتنياتها النسائية، بعد إدراك قيمة الحياة من حولها، فهذا الاختيار يعني اختيار الحرية.

ينتهي الفيلم بلقطة تظهر الأم /الزوجة وقد أحكمت السيطرة على كل القرارات وليس زوجها، فهي التي تحدد من يركب معها في سيارة النزوح ومن لم ينل تلك الهبة، عن طريق تصدرها الجزء الأكبر من الصورة، في مقابل العمق الذي يظهر فيه الزوج في جحم أقل، متوسلًا إياها السماح بركوب السيارة، لتقرر العفو واستقباله في الرحلة، لكن بشروطها بعدما ذات طعم الحرية.

Visited 6 times, 1 visit(s) today