نحو نظرية لأفلام الطريق

ما هو أصل أفلام الطريق؟

قبل سنة أجريت حواراً مع فيم فيندرز (المخرج الألماني) حول هذا الموضوع، لكي يتضمن في الفيلم الوثائقي الذي يتمحور حول كتاب “على الطريق”on the road، والكاتب جاك كيرواك، وتراث جيل “البِيت” Beat.

من وجهة نظري، مخرجو الأفلام الوثائقية الأوائل، مثل روبرت فلاهيرتي، خالق “نانوك الشمال” Nanook of the North(1922)، والذي يمثّل نقطة تحوّل في تاريخ السينما الوثائقية، هم الآباء المؤسسون لهذا الشكل السردي (أفلام الطريق).

ذات مرّة قال خورخي لويس بورخيس أن ما يثير اهتمامه في الأدب هو تسمية ما لم تتم تسميته بعد. وروّاد النوع الوثائقي، في بدايته، فعلوا هذا بالضبط. فيلم مثل “نانوك” أو “أغنية سيلان”، الفيلم الكلاسيكي الذي حقّقه بازيل رايت في 1934 عن الحياة في سيلان (سري لانكا الآن) صوروا الإنسان والجغرافيا الفيزيائية بطريقة لم يسبق لأحد أن صورها من قبل في فيلم.

لقد كان لفلاهيرتي ورايت ونظرائهما أسلافهم الخاصين: الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين الذين، قبل ولادة السينما، سافروا إلى مناطق أجنبية وصوروا وسجلوا ما كان، حتى ذلك الحين، مجهولاً بالنسبة للآخرين. في ما يتصل بسرد القصة، “الأوديسة” تبدو لي هي أساس كل القص. إنها المصدر أو المنبع الذي نشأت منه كل أفلام الطريق.. بما فيها فيلم فيم فيندرز “باريس تكساس”.

فيندرز لا يتفق مع هذا الرأي، ويرى إلى الموضوع من زاوية أخرى. بالنسبة له، الأصل يعود إلى تاريخ أقدم بكثير.. إلى جذورنا كجماعات رحّل يتنقلون من مكان إلى آخر، إلى الحاجة الأساسية، البدائية، لترك وصفٍ أو روايةٍ عن عبورهم الأمكنة على وجه الأرض.

إذا اتفقت مع هذه الرؤية، فإن الرسومات الموجودة داخل كهوف لاسكو (الفرنسية) وألتَميرا (الأسبانية) هي البيانات الحقيقية الأولى للحياة وهي في حالة حركة.. قصص الطريق الأولى.

في السينما، أفلام الطريق الأولى كانت عن اكتشاف الأرض الجديدة، أو عن توسّع التخوم، كما نجده في أفلام الويسترن المنتجة في أميركا الشمالية. أفلام مثل “الباحثان” The Searchers، رائعة جون فورد التي تدور في الفترة التالية للحرب الأهلية، تبحث في الهوية الوطنية في طور البناء.

أفلام الطريق، خصوصاً في العقود الأخيرة، حاولت كذلك أن تنجز مهمة مختلفة: أن تُظهر الهويات الوطنية في حالة تحوّل. إن فيلم “إنعطاف” Detour، الذي أخرجه إدجار أولمر في 1945، وهو من أفلام النوار (السوداء أو النوع البوليسي)، والذي يحكي قصة عازف بيانو يعيش في نيويورك وينتقل إلى هوليوود عبر طريق مظلم، هذا الفيلم كان بياناً عن بلاد موبوءة بالفردانية والجشع. أما الفيلم الذي عيّن أفلام الطريق لجمهور اليوم، “الركوب السهل” Easy Riderللمخرج دينيس هوبر، فقد كان يتحدث عن نهاية البراءة والإنفجار الضمني للحلم الأميركي أثناء سنوات حرب فيتنام.

مثل هذه الأفلام توحي بأن أكثر أفلام الطريق إثارة للإهتمام هي تلك التي فيها أزمة الهوية عند الشخصية الرئيسية تعكس الثقافة نفسها.

عن البنية والشخصية

في ما يتصل بالمعمار السردي، أفلام الطريق لا يمكن لها أن تكون مقيّدة بالبناء التقليدي ذي الفصول الثلاثة، كما نجده في العديد من الأفلام السائدة. أفلام الطريق، على سبيل المثال، نادراً ما تكون تحت توجيه الصراعات الخارجية، الصراعات أو التعارضات التي تستهلك الشخصيات هي في الأساس باطنية.

شخصيات مثل ديفيد لوك، في فيلم أنتونيوني “المسافر”، أو فيليب فينتر، في فيلم فيم فيندرز “ألِس في المدن”، هي شخصيات تعاني من الحاجة إلى إعادة تعريف أو تحديد نفسها. إنها لا تشعر بارتياح من هويتها الراهنة. لوك، الصحفي، يختار أن يعيد تعميد نفسه وتطهيرها روحياً باستبدال هويته بهوية تاجر أسلحة ميت. فينتر، وهو صحفي أيضاً، يبحث عن وجهة نظر جديدة في بلاد أجنبية، حيث يتصادف أن يؤدي دور الأب لفتاة صغيرة. كلاهما يفهمان أن بحصولهما على شيء، أثناء مسيرتهما، فإنهما سوف يخسران الكثير أيضاً.

من فيلم كياروستامي “عشرة”

لأن أفلام الطريق تحتاج أن تقتفي التحوّل الداخلي للشخصيات، فإن الأفلام هي ليست عما يمكن أن يُرى أو يُعبّر عنه لفظياً، بل عما يمكن الإحساس به.. عن الخفيّ الذي يتمّم المرئي. بهذا المعنى، أفلام الطريق تتغاير تماماً مع الأفلام السائدة اليوم والتي فيها تتخلّق أحداث جديدة كل ثلاث دقائق لأجل شد انتباه الجمهور. في أفلام الطريق، لحظات الصمت عادةً أكثر أهمية من أغلب الأحداث الدرامية.

بعد إخراجي لثلاثة أفلام تنتسب إلى نوعية أفلام الطريق: الأرض الأجنبيةForeign Land (بالتعاون مع دانييلا توماس)، المحطة المركزية Central Station، يوميات الدراجة البخارية The Motorcycle Diaries.. أعتقد أن المظهر الذي يحدّد هذا الشكل السردي هو عدم قابليته للتنبؤ به. أنت ببساطة لا تستطيع (ولا ينبغي عليك) أن تتوقع ما سوف تجده على الطريق.. حتى لو كنت قد استكشفت، أكثر من عشر مرات، المنطقة التي ستعبرها. يتعيّن عليك أن تعمل في تزامن مع العناصر.. إذا أثلجت السماء، حاول أن تدمج الثلج. وإن أمطرت، إدمج المطر.

بطريقة مماثلة، فيلم الطريق ينبغي أن يتحوّل عن طريق اللقاءات غير المتوقعة التي تحدث على حواف الطريق. الإرتجال يصبح ضرورياً وطبيعياً. أثناء تصوير “يوميات الدراجة البخارية”، عن تحوّل إرنستو جيفارا إلى تشي جيفارا فيما هو يشهد الظلم الإجتماعي والسياسي خلال رحلته عبر أميركا الجنوبية، كنا – أنا والطاقم الفني – نحاول باستمرار أن ندمج ما يقترحه علينا الواقع، ونمزج ممثلينا مع الأهالي الذين نلتقي بهم مصادفةً في البلدات الصغيرة التي نمرّ بها.

بتحقيق أفلام طريق مختلفة، توصلت أيضاً إلى إدراك أن السيناريو الجيد يمنحك حرية في الإرتجال أكبر مما يتيحه السيناريو الضعيف. هذا أشبه بموسيقى الجاز، كلما كان الميلودي أفضل، صار الإبتعاد عنه أسهل، لأن العودة إليه في ما بعد سيكون أيضاً أسهل.

عن الحد الفاصل بين الدرامي والوثائقي

ليس ثمة تماثل بين فيلمين من أفلام الطريق على الإطلاق. فيما يتعلق بقواعد فن السينما، هناك التزام واحد فقط يتقيّد به فيلم الطريق: أن يرافق التحولات التي تخضع لها الشخصيات الرئيسية فيما هي تواجه واقعاً جديداً. فيلم الطريق ليس الحقل الذي تستخدم فيه الرافعات cranesالضخمة أو الكاميرات الثابتة steady-cams. على العكس تماماً، الكاميرا تحتاج أن تبقى في تناغم مع الشخصيات التي هي في حركة متواصلة.. الحركة التي لا ينبغي السيطرة عليها والتحكم بها. فيلم الطريق، بالتالي، ينزع إلى أن يكون مدفوعاً من قِبل الإحساس بالمباشرية التي هي ليست مختلفة عن مباشرية الفيلم الوثائقي.

هذا التعالق بين العالمين – الدرامي والوثائقي – يثير نقطة نظرية تعيدني إلى روبرت فلاهرتي. على الرغم من أن أفلام فلاهرتي يُنظر إليها بوصفها وثائقية، إلا أنه أحياناً يقدّم عناصر رئيسية من الحبكة بحيث تكون أفلامه، من بعض النواحي، أقرب إلى الأعمال الدرامية. هو لم يستخدم عائلة حقيقية من الصيادين في فيلمه “رجل من أران” Man of Aran(1934)، عن الحياة البدائية في جزر أران، بل اختار أشخاصاً لتأدية أدوار العائلة. لقد لجأ إلى عائلة افتراضية لأنها، حسب تصوّره، تمثّل واقع الصيادين على نحو أفضل. (بسبب هذا الإختيار، تعرّض فلاهرتي لنقد قاس).

عن الشكل

في البحث عن الملحمي، انتهك فلاهرتي تخوم ما صار مرئياً بوصفه الوثائقي التقليدي. إن حدث ذلك فلأن فلاهرتي لم يكن يسجّل نانوك الإنيوويتي Inuit (من سكان الإسكيمو) فحسب بل كان يصوّر أيضاً نانوك القصة.

في العام 2002، قدّم عباس كيارستمي فيلمه “عشرة” Tenعن امرأة تقود سيارتها في طهران، وهنا يضبّب الفيلم الحد الفاصل بين الدرامي والوثائقي. خلال سياق الفيلم، نرى المرأة تجري عشرة أحاديث مع ركّاب السيارة. السائقة ممثلة، وربما ليست كذلك. الصبي الذي يجابهها قد يكون ابنها الحقيقي، لكن من الصعب الجزم بذلك. المومس التي توصلها السائقة قد تكون مومساً حقيقية أو لا.

لا تعود هناك حقيقة موضوعية، هناك فقط حقيقة الملاحظة. لا يعود هناك عالم خارجي وتمثيل متخيّل داخلي، بل الفيلم وحده، والذي هو تركيب للعالم وخيال صانع الفيلم.

بالعودة إلى أفلام الطريق، كلما كان الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال مبهماً، كانت النتيجة بالنسبة لي أكثر إثارة للإهتمام. Iracema، فيلم الطريق البرازيلي الذي أخرجه خورخي بودانزكي وأورلاندو سينا في السبعينيات، هو خير مثال على ذلك. ممثّل يؤدي دور سائق شاحنة يجد نفسه في واقع جديد شائك: طريق عام يتم تشييده من قِبل النظام العسكري في البرازيل لاستعمار منطقة كانت الغابات تحتلها في الأصل. عدد من اللاممثلين أدوا أدواراً في الفيلم. آخرون مثّلوا أنفسهم. من المستحيل فعلياً معرفة من الذي يمثّل الواقع ومن الذي يعيشه حقاً. بسبب هذا الغموض، الفيلم هو أحد أكثر التجارب السينمائية روعةً.

كما قال جودار ذات مرّة: كل الأفلام الدرامية العظيمة تنجرف نحو الأعمال الوثائقية، مثلما تنجرف الأعمال الوثائقية العظيمة نحو الأفلام الدرامية. إن ذهبت عميقاً في اتجاه أحد الطرفين فسوف تجد الآخر عاجلاً أم آجلاً. قد يكون فيلم الطريق هو النوع السينمائي الملائم على نحو طبيعي لجعل التخوم غير واضحة.

الأفق (أو ماذا يأتي تالياً)

منذ وقت قريب أجريت حواراً مع الشاعر الأميركي لورنس فيرلينغيتي، أيضاً لغرض تضمينه في فيلمي الوثائقي عن كيرواك وكتابه “على الطريق”. كنا في سيارة تجوب ضواحي سان فرانسسكو. في موضع معيّن، هو نظر إلى الخارج عبر نافذة السيارة وقال: “هل تعلم أن أميركا في الخمسينيات كانت لا تزال تحتاج إلى رسم خريطة لها؟ لم نكن نعلم ما سوف نجده في نهاية الطريق. اليوم، كل شيء قد تغيّر. مع وجود التلفزيون، لم يعد هناك ما يمكن أن نطلق عليه: البعيد”.

لقطة من فيلم “يوميات الدراجة البخارية”

العمل الراهن الذي قد يشير على نحو أفضل إلى هذه الحالة من العلاقات هو فيلم الصيني جيا شانجكي “العالم” (2004): متنزّه يقع خارج مدينة صينية كبيرة. بإمكان الزوّار قضاء الصباح في زيارة نماذج منسوخة عن برج ايفل أو الأهرامات المصرية أو بيج بن. وفي الظهيرة، يمكن لهم زيارة برج بيزا المائل أو البرجين التوأمين. عمال المتنزّه يعيشون في هذا الواقع الغريب حيث الزمن والمكان يتعرضان للإنهيار، ولا نجاة لأحد.

في عالم لم يعد يوجد فيه “البعيد”، وحيث تختفي فيه المسافة، هل لا يزال هناك مبرّر للوجود لأفلام الطريق؟

أحياناً، عندما أكون في مزاج سيء، تكون إجابتي بالنفي. لكن في كل مرّة أشغل جهاز التلفزيون وأشاهد عرض الواقع، أغيّر رأيي. مثل هذه العروض تقدّم للجمهور الوهْم بأنهم قادرون على عيش تجارب معينة، لكن على نحو بديلي. ما يباع عليهم هو الإنطباع بأن كل التجارب تم ممارستها وعيشها، ولم يعد هناك ما يمكن تجربته من جديد.

أفلام الطريق تتحدى على نحو مباشر ثقافة الإمتثال هذه. إنها، قبل كل شيء، عن التجربة. عن الرحلة. عن ما يمكن تعلمه من الآخرين، من الذين يختلفون عنا. في عالم يتحدى، على نحو متزايد، المُثل العليا، فإن أهمية أفلام الطريق، كشكل من أشكال المقاومة، لا يمكن إنكارها أو صرف النظر عنها.

أخيراً وليس آخراً، مرحلة اقتصاد العولمة خلقت شكلاً مختلفاً من الحركة بإملاء من نوع جديد من النزوح.. النزوح الإقتصادي. في أجزاء مختلفة من العالم، الناس الآن، على نحو متزايد، يسافرون لأنهم يحتاجون إلى ذلك وليس لأنهم يريدون ذلك. فيلم مايكل وينتربوتوم “في هذا العالم” In This World، وهو من أفلام الطريق، يتناول رحيل مهاجرين أفغان إلى بريطانيا. إنه يأسر هذا الواقع السياسي الإجتماعي الملح على نحو أفضل من العديد من أفلام النوعيات الأخرى. إنه برهان على ضرورة أفلام الطريق لكي تخبرنا عمن نكون، ومن أين جئنا، وإلى أين نتّجه.  

والتر ساليس: مخرج سينمائي برازيلي

كُتب النص في: 11 نوفمبر 2007

ونشر في: مجلة نيويورك تايمز.

Visited 45 times, 1 visit(s) today