“ميكا” لإسماعيل فروخي: الواقع المجتمعي ونظرة الآخر
مبارك حسني
ما الذي يدفع مخرجا، كإسماعيل فروخي، ذي الجنسية المزدوجة الفرنسية والمغربية، يقضي معظم شهور السنة في فرنسا، لإخراج فيلم اجتماعي بالدرجة الأولى، تختفي منه النزعة الفنية الشخصية، باستثناء الإتقان التقني اللازم لصنع فيلم بمواصفات محترمة ومقبولة؟
نطرح مصطلح “الاجتماعي”، لأن الأمر مَدعاةٌ للسؤال، إذا ما نظرنا إلى المشوار الفني للمخرج في مجال الفيلم الطويل، والذي بدأه بعمل أول جد مميز هو “الرحلة الكبرى” سنة 2004، ضَمَّنه حكاية تجربة سينمائية قوية تتأسس على وصية أب مهاجر في الغرب، لابنه، يجبره فيها بدفنه في أرض أجداده، في المغرب.
وقد أردفه بفيلم ثان هو ” الرجال الأحرار” – 2011، ليروي قصة مساعدة إمام مسجد باريس الكبير إبان الحرب العالمية الثانية لمقاومين عرب ويهود للغزو الألماني. وهذا الفيلم شارك في مسابقة مهرجان كان، وأثار وقتها، تسؤلا بخصوص هوية الفيلم، هل هو مغربي أم فرنسي، ما دام إنتاجه وفريقه التقني والتمثيلي أغلبه فرنسي. فهل تكفي جنسية المخرج او إحدى جنسياته في ترسيخ انتمائه لبلد ما؟
على كل، في هذين الفيلمين، اختار المخرج موضوعين مرتبطين بشكل لصيق بوضعيته كإنسان مغربي يعيش في أوروبا، أي عند الآخر، الغربي، وكان في ذلك، كما يمكن أن نزعم – في وضعية منطقية ومتساوقة مع أسئلته الخاصة. مثله في هذا الأمر، مثل العديد من مخرجي ” الدياسبورا ” المغاربة، والذين يستحضرون غالبا في أعمالهم السينمائية “ثيمة” الوجود بين ثقافتين وجغرافيتين وهويتين والصراع الناجم عنهما، ذاتياً، على الخصوص.
“ميكا” ونظرة الآخر
للإجابة عن السؤال الذي طرحته في مقدمة هذا المقال، سننظر بتأنٍ في شريط “ميكا” الذي أخرجه سنة 2011، أي بعد عشر سنوات كاملة من إنتاج فيلمه الثاني السابق الذكر. وهي مدة زمنية تبدو مثل قطيعة مع ما سبق من انشغالات فنية، فقد انتقل المخرج بمناسبة هذا الفيلم إلى المغرب ليروي بشكل درامي قصة طفل اسمه “ميكا”، وتعني بالعامية المغربية، البلاستيك، لأنه احترف، ضمن ما احترفه في حياته الغضة، بيع أكياس البلاستيك في الشوارع ومدارات الطرقات الكبرى، قبل أن يُطرد منها من طرف بائعي “ميكا” آخرين منافسين وأقوى منه.
والسبب في وضعيته “البائسة” هذه، هو أنه اضطر للهجرة إلى مدينة الدار البيضاء كي يتدبر عيشه وعيش عائلته الفقيرة جدا التي تقيم في قرية بعيدة، حسب ما يُوحي به الشريط كمُبرر، بعد أن أصيب والده بمرض أقعده الفراش. هنا يطفر أحد الجوانب الميلودرامية، الذي لن ينفك الشريط يلعب على حبلها حتى النهاية، مقلدا نوعاً فيلمياً لم نعد نشاهده كثيرا في السينما المغربية.
وهكذا نرى طفلا لم يصل سن المراهقة بعد، بطلا لفيلم، لا يذهب إلى المدرسة، وهو أمر مستبعدٌ كثيرا، ويتيه في شوارع مدينة هي عبارة عن غول كبير ل يرحم، كما هو منتظر في واقع الحال، وكما يريده الفيلم أن يكون، لتتنامى حكايته.
وفعلا، لتحقيق هذا التنامي، يجد الطفل نفسه بقدرة قادر، وقد حصل على عمل في نادٍ لكرة المضرب، يرتاده للرياضة والترويح عن النفس أفراد من علية القوم وأبناؤهم. وسيتكفل حارس النادي الكهل، بتربيته وتعليمه سيرورة وواجبات العمل، ومن أبرز بنود هذه الأخيرة، تجنب مخالطة هؤلاء الأبناء أو الاقتراب منهم، حد عدم مسك كرات المضرب التي تسقط خارج المضمار، وطبعا لا يجب التفكير في اللعب فيه.
يعيش الطفل واقعاً غير رحيم، بين العمل المضني طيلة النهار، والعزلة ليلا محاطا بالصمت والعلب الكرتونية في جزء ضيق من النادي. وهنا يساعده المخرج على الحلم، على فترتين. في الفترة الأولى، سيفكر في الهجرة السرية، فيفر ليحوم بالأماكن المظلمة الجانبية حيث يمكن ملاقاة منظمي هذا النوع من الفعل الاجرامي، لكنه لن يتمكن من الوصول الى هدفه. وبالتالي تم إحكام سد المنافذ أمامه، الأمر الذي شد من درامية الفيلم.
وفي الفترة الثانية، سيضع المخرج في طريقه سيدة محسنة، طيبة، وهي مدربة تنس كانت بطلة معروفة فيما مضى. ولأن الطفل بطل، كما يريد له المخرج، وكما ذكرنا آنفا عن قصد، فكان قد أخل بالشروط التي فرضت عليه، وصار يراود الكرة الصفراء الصغيرة ليلا، حين يلوذ الجميع بمنازلهم، وبالنوم. وستشاهده هذه البطلة الطيبة الحنون، وستعجب به، بل وستدافع عنه، حين يتعرض للتهكم والسخرية من أبناء الأغنياء، وحين سيجرؤ على مقاومتهم. وبالتالي، نراه، وقد دُفع به لكي يطرق باب الأمل، كي يجد بعض تحقيقٍ لكرامته الآدمية. وهي التي سيتكفل الجزء الأخير من الشريط بتكثيفه وإبرازه عبر تغيير للأدوار، حين ستُعنَى المدربة بتدريبه وتحسين لعبه، بل ومساعدته على المشاركة في مباراة مفصلية مؤهلة، سيتنافس فيها، وهو الطفل المُعدم مع الآخر الغني.
وطبعا، ستكون النهاية سعيدة. ليكون شريط “ميكا” حكاية انتصار واتباث للذات انطلاقا من وضع لا يسمح أصلا بذلك، ولا يوفر أي عنصر مساعد. لكن الميلودراما التي اختارها المخرج كسمة غالبة وحاسمة في تغيير الأوضاع، تسمح بكل الاختراقات الممكنة. ففي كل الافلام الاجتماعية “الطيبة” النوايا، والتي تود أن تحوز رضا الجمهور، يصير الأمر ممكنا جدا!
الآخر كحضور ضمني
يعرض الفيلم، كما رأينا في معطاه الظاهر، علاقة البراءة وهي تنافح الشر والحط من الكرامة، ثم وهي تلتقي الطيببة والمسرة حتى. لكن الفيلم بما هو عملية إبداعية، يسوق فيما لا يبوح به، صورة مجتمع مغربي قاسٍ، حيث يمكن لطفل أن يتواجد في الشارع بفعل انعدام العناية ووجود التمييز. وهو ما يجعلنا نرى بأن الأمر ينتابه ريب، بشكل غير مباشر وقد يكون بشكل بريء حتى، كي نشاهد هذه الصورة، تلك التي تفرضها بعض الانتاجات المشتركة.
وحين يسوق الفيلم وجها جميلا ونبيلا يسوقه عبر شخصية قادمة من هناك، من الغرب، تماما كالممثلة الفرنسية الجنسية وذات الأصول العربية، صابرينا الوزاني التي أدت الدور، وكانت قد مثلت دورا في أحد أفلام عبد اللطيف قشيش.
وعندما سئل اسماعيل فروخي عن الدوافع التي أملت عليه إخراج هذا الفيلم، ذكر فيما ذكره تأثره بظاهرة الأطفال الأجانب القاصرين التائهين في شوارع باريس، والتي تحدث عنهم الاعلام الفرنسي مطولا. هذا الإعلام الذي يُعد لسان الآخر، أي الغربي.، هو إعلام، في جزء منه، لا يروم أحيانا البحث عميقا في أسباب حالات اجتماعية كهذه، والوقوف فقط عند ظاهرها المثير. وقد تتأثر به سينما ما، تبحث أحيانا عن مواضيع مثيرة. فكثير من المخرجين ينجذبون لذلك. هل هو
هل هو حال هذا الفيلم؟