مهرجان القاهرة السينمائي الـ45.. ملاحظات وتساؤلات
أمير العمري
بدايةً، أتفهم جيدا مشكلة المهرجانات السينمائية التي تقام في نهاية العام، فالأفلام الجديدة الجيدة، تكون قد ذهبت بالفعل إلى المهرجانات الدولية الكبرى السابقة مثل كان وفينيسيا وتورونتو، وانتهى الموسم عمليا. لذلك تصبح مهمة أي مدير فني لأي مهرجان من مهرجانات الخريف والشتاء، مهمة شديدة الصعوبة، في العثور على الأفلام الجديدة القوية التي يمكن أن تشكل مسابقة مميزة وجيدة.
وهذه تحديدا هي مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي يتميز بانتمائه إلى الفئة الأولى من المهرجانات، وبالتالي لا يحق له اختيار أفلام في مسابقته مما سبق عرضه في مسابقة مهرجان آخر. كما أن من الصعب العثور حتى على أفلام العرض العالمي الأول، فكبار المخرجين، يدخرون أفلامهم لمهرجان برلين (فبراير 2025)، على أساس أن يصبح عرضها في العاصمة الألمانية مدخلا إلى السوق الأوروبية ومن ثم التوزيع العالمي. أما مهرجان القاهرة فمعروف أنه يصعب كثيرا أن يفتح المجال أمام التوزيع العام للأفلام التي تشارك في فعالياته، في مصر، ناهيك بالطبع عن الشرق الأوسط. وهذا أكثر من يهم أصحاب الأفلام.
المشكلة الثانية التي تواجه مهرجان القاهرة، تكمن في صعوبة اختيار أهم الأفلام التي سبق عرضها في كبرى مهرجانات العالم، لتعريف الجمهور بها وبالتالي القيام بدور فعال في ترسيخ الثقافة السينمائية. والسبب يعود إلى أن الغالبية العظمى من هذه الأفلام لا تنتمي إلى ما يسميه البعض في مصر “السينما النظيفة”، أي أنها تتضمن الكثير من المشاهد الجريئة، والمقصود جرأة تصوير مشاهد الحب والجنس تحديدا. وهو ما يجعلها فريسة سهلة لسيف الرقابة التي لا ينجو منه فيلم في مصر اليوم، بما في ذلك الأفلام التي تعرض في الجمعيات الصغيرة.
ولا يكاد يخلو فيلم من الأفلام “الفنية” المتميزة من مثل هذه المشاهد، ومنها على سبيل المثال فقط، فيلم “كائنات بائسة” Poor Things و”أنوره” Anora، الأول نال “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا العام الماضي، والثاني نال “السعفة الذهبية” في مهرجان كان هذا العام. وكلاهما يصعب كثيرا عرضهما في القاهرة بل وفي معظم العواصم العربية!
المشكلة الثالثة تكمن في المنافسة التي يواجهها مهرجان القاهرة من مهرجانين أو ثلاثة في المنطقة، وهي مهرجانات تقام في وقت متقارب كثيرا (بسبب ملائمة ظروف الطقس)، سواء قبل القاهرة السينمائي أم بعده مباشرة، وهي مهرجان الجونة في قرية الجونة السياحية، والبحر الأحمر في جدة، ومراكش في المغرب.
الأول ينفق عن سعة للحصول على أفلام جديدة “معقمة” (أي تخلو من مشاهد العري والجنس) ويخصص ميزانية ضخمة (نسبيا) لجوائزه وصندوق دعمه، والمهرجان الثاني يخصص جوائز مالية ضخمة مغرية، ويتولى أيضا تمويل العديد من الأفلام من خلال صندوقه الخاص. أما المهرجان الثالث، مراكش، فهو معروف بأنه مهرجان “ملكي”، والدعوات التي ترسل إلى كبار السينمائيين مثل كاترين دينيف وسكورسيزي وكوبولا وغيرهم، ترسل عادة، بما يوحي أنها موجهة من القصر الملكي نفسه، والملك يستقبل في قصره، كبار ضيوف المهرجان، ويغدق عليهم من الهدايا القيمة، وهذا ليس سرا بل أمر معروف في الأوساط السينمائية الأوروبية.
أما مهرجان القاهرة فلا يمنح أصلا جوائز ذات قيمة مالية للأفلام الفائزة، ولا يملك ميزانية بالعملات الأجنبية، يمكن أن ينفق منها على دفع المقابل المالي المطلوب لاستقطاب أفلام جديدة مثيرة للاهتمام، أو تخصيص طائرات خاصة لنقل الشخصيات السينمائية اللامعة من نجوم سينما الذين يمكن أن يتباهى بهم أمام عدسات المصورين ووكالات الأنباء كما تفعل مهرجانات الجونة والبحر الأحمر ومراكش.
وربما لهذا السبب آثر القائمون على المهرجان هذا العام، وأولهم الفنان حسين فهمي رئيس المهرجان، والناقد عصام زكريا المدير الفني، أن تصبح الدورة الـ45 المؤجلة من العام الماضي بسبب أحدثا الحرب في قطاع غزة، تظاهرة يكون الحضور العربي فيها طاغيا كما لم يحدث من قبل، مع تعاطف واضح ومقصود مع القضية الفلسطينية من خلال عدد كبير من الأفلام التي ستعرض في أقسامه المختلفة، وأولها بالطبع فيلم الافتتاح وهو فيلم روائي جديد للمخرج الفلسطيني (من أبناء قطاع غزة) رشيد مشهراوي هو فيلم “أحلام عابرة” أرجو أن يكون فعلا على مستوى العرض في الافتتاح والمسابقة الرسمية. ولكنه ليس الفيلم العربي الوحيد في المسابقة، فهناك فيلم مصري جديد (كشرط أساسي من شروط الاتحاد الدولي لمنتجي السينما، أي الجهة المشرفة على تنظيم المهرجانات الدولية) هو فيلم “دخل الربيع يضحك” للمخرجة نهى عادل، وهو فيلمها الروائي الطويل الأول، والفيلم اللبناني “موندوف” للمخرج كريم قاسم، والفيلم التونسي “نورا عشية” للمخرجة خديجة لمكشر.
بهذا يكون هناك 4 أفلام من العالم العربي في مسابقة مكونة من 17 فيلما، وباقي الأفلام من اليابان ورومانيا وروسيا وإيطاليا والولايات المتحدة وأستراليا وفرنسا وبلجيكا وبنغلاديش والمجر وتركيا والبرازيل وصربيا.
الفيلم الأمريكي “قصر الشمس الزرقاء” هو أول فيلم روائي طويل لمخرجته الصينية- الأمريكية كونستانس تسانغ. وهو من الأفلام المستقلة القليلة التكاليف وتدور أحداثه وسط الجالية الصينية في نيويورك.
ومن الجوانب الإيجابية أن المسابقة لم تتجاهل واحدة من أهم سينمات العالم، هي السينما الروسية العريقة، كما تفعل المهرجانات الأوروبية حاليا لأسباب سياسية لا تخلو من التعصب المقيت، فسوف يشارك الفيلم الروسي “علامات البريد” للمخرجة نتاليا نازاروفا، وهي ممثلة أيضا.
في المسابقة الفيلم البلجيكي “مالدورور” للمخرج فابريس دو ويلس، وسبق عرضه خارج المسابقة في مهرجاني فينيسيا ولندن. ويدور في إطار بوليسي ويستند الى أحداث حقيقية شائعة في بلجيكا.
ومن فرنسا يشارك بالمسابقة فيلم “قابل البرابرة” للمخرجة جولي ديلبي، وهي أساسا ممثلة فرنسية جميلة شاركت لأول مرة في فيلم “مفتش الشرطة” Detective (1985) لجان لوك غودار. وقد أخرجت عددا من الأفلام وهذا هو فيلمها الروائي الطويل السابع، وتقوم ببطولته أيضا، وعنوانه الفرنسي “البرابرة” Les Barbares. وقد بدأت عروضه التجارية في فرنسا في 18 سبتمبر، لكن من حق مهرجان القاهرة مثل سائر مهرجانات الفئة (أ)، مسموح له بعرض أفلام سبق عرضها داخل بلدها الأصلي فقط.
ويصور “قابل البرابرة” موضوعا عن مجموعة من اللاجئين السوريين في قرية فرنسية وما يواجهونه هناك.
هل هناك “تيمة” معينة مشترك بين أفلام المسابقة؟ لا نعرف، ولكن الملاحظ وجود بعض الأفلام التي تتناول مواضيع قريبة من مشاكلنا في المنطقة مثل الفيلم التركي والفيلم البنغلاديشي والفيلم الفرنسي، وطبعا الفيلم الروماني الذي يتناول موضوع الديكتاتورية.
كنت أود لو أعلن المهرجان قائمة الأفلام التي ستعرض للمرة الأولى على الصعيد العالمي التي ذكر أنها 35 فيلما، أتصور أن معظمها قد يكون من الأفلام القصيرة. فمسابقة الأفلام القصيرة تتضمن 32 فيلما وهو عدد كبير جدا، من بينها 5 أفلام من مصر!
وبعد أن كان مدير المهرجان قد أعلن عن ألغاء مسابقة السينما العربية التي تسمى عادة “أسبوع السينما العربية”، وكانت تضم 7 أفلام عربية جديدة، عاد عن قرار الإلغاء، وهذ جيد ومعناه أنه يستمع للنقد الذي سبق أن وجهناه بهذا الخصوص، ولكنه فاجأ الجميع بمضاعفة عدد الأفلام ليصبح 14 فيلما. فهل هناك فعلا 14 فيلما عربيا جديدا جيدا تستحق التنافس بالإضافة إلى عدد آخر من الأفلام العربية داخل وخارج المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة، ومسابقة الأفلام القصيرة؟!
ولعل الملاحظة الأكثر بروزا في دورة هذا العام هي تكاثر عدد المسابقات ولجان التحكيم بشكل يستعصي على الفهم حقا. فهناك 10 مسابقات هي المسابقة الرئيسية الدولية، ومسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة السينما العربية، ومسابقة أسبوع النقاد، ومسابقة أفضل فيلم أفريقي، ومسابقة أفضل فيلم آسيوي، ومسابقة أفضل فيلم وثائقي، ومسابقة أفضل فيلم من غزة (أو عن غزةّ!)، ومسابقة أفضل فيلم فلسطيني. وهو ما يعكس رغبة واضحة في الاختفاء بكل شيء، من كل مكان. وهو أمر يعيب المهرجان ولا يضيف إليه، فتكاثر الجوائز يجعلها تصبح في نهاية المطاف، جوائز مجاملات.
ليس مفهوما مثلا كيف يكون هناك جائزة لأفضل فيلم فلسطيني، وأخرى لأفضل فيلم من غزة، ولماذا يريد المهرجان أن يعطي انطباعا بأنه “يرتكب” خطأ لا يليق بتنظيم الدورة في ظروف استمرار الحرب في غزة، وبالتالي يجب التكفير عن الذنب بهذا الحشد الهائل من الأفلام عن “القضية”، وهل الأفلام هي التي ستحقق النصر؟ وهل يجب أن تتحول المهرجانات إلى ساحة إعلامية دعائية وعلى حساب المستوى الفني؟
كان يكفي تماما أن تكون هناك مسابقة خاصة لأفلام فلسطين، سواء من الأفلام التي أخرجها إخراج فلسطينيون أو أجانب. بدلا من مراكمة عدد من أعمال أقرب الى أفلام الهواة في مهرجان احترافي كبير تحت اسم “أفلام من المسافة صفر”، وهو أمر يدعو إلى التساؤل.
هناك في النهاية، فيلمان أرى أنهما من أفضل الأفلام التي ستعرض في هذه الدورة أولهما الفيلم الإيراني الجريء “كعكتي المفضلة” وهو عمل ليس من الكن أصلا تصور أن ينتج في مصر ولعله يكون درسا في تحدي الرقابة، والثاني هو الفيلم البرازيلي الكبير “أنا مازلت هنا” وهو فيلم سياسي شديد الجرأة، أيضا يصعب كثيرا أن ترى مثيلا له في مصر. والفيلمان عملان لا يشبهان غيرهما، وأسعدني كثيرا أن الرقابة سمحت بعرضهما على أي حال. وأنصح بالحرص على مشاهدتهما. فهما من الأفلام التي يمكن أن نسميها “أفلاما ملهمة”.. لمن يريد أن يستوحي ويستلهم بالطبع- إن استطاع!