“من ضهر راجل”.. فيلم الضربات الطائشة!
إذا اعتقد صنّاع الفيلم المصرى “من ضهر راجل” ، وهو الفيلم الثانى الذى شارك فى مسابقة مهرجان القاهرة الرسيمة فى دورته السابعة والثلاثين، أنهم قد نجحوا فى طرح العلاقة المضطربة بين الأجيال، أو بين الآباء والأبناء، وإذا اعتقدوا أنهم قد عرضوا أمامنا مفهوم الرجولة للتأمل، فقد خاب سعيهم، إذ لن يبقى فى ذهن مشاهد الفيلم الذى كتبه محمد أمين راضى، وأخرجه كريم السبكى، سوى عالم البلطجة والبلطجية ، الذى قتلته السينما المصرية شكلا ومضمونا. لا الثغرات الواسعة فى الأحداث، ولا طريقة السرد المرتبكة، ولا التحولات العجيبة فى سلوك الشخصيات، يمكن أن تسمح بتأمل أى شىء، لأنها تعيدنا ببساطة الى عالم الفيلم الهندى، الذى ينقسم فيه البشر انقساما حديا بين الخير والشر، والذى تقفز فيه الأحداث قفزا لمجرد أن الكاتب والمخرج يريدان ذلك.
“من ضهر راجل” يدور فى أجواء شعبية، وتستخدم فيه السنج والمطاوى، وهى الآلات المعروفة فى معارك البلطجة، كما يحشد كل توابل سينما العنف، من قتل واغتصاب وملاكمة وإصابات وانتهاكات وتفجيرات بالأنابيب، بإلإضافة الى حكاية غرام وانتقام، ورجل تائب، وضابط منحرف. يكتظ الفيلم بكل ذلك، فتصبح ضرباته طائشة، تنقصها الدقة، ويخذلها عدم إتقان البناء، وعدم ضبط الشخصيات، مع تطويل يذكرك على الفور بالمسلسلات الرمضانية شكلا ومضمونا وأداء.
غرائب وعجائب
محمد أمين راضى أحد الأسماء التى لمعت فى عالم الدراما التليفزنية مؤخرا، وبصرف النظر عن اختلاف الرأى حول مسلسلاته الثلاثة التى عرضت وهى : ” نيران صديقة” و”السبع وصايا” و”العهد”، إلا أن هناك شبه إجماع على أمرين إيجابيين للغاية ونادرين : الأول هو أننا أمام مؤلف شاب لا يستسهل فى عمله، والثانى هو أنه يريد أن يقدم شيئا مختلفا، سواء على مستوى موضوعات المسلسلات، أو على مستوى أشكال وطرق السرد.
لذلك توقعت أن يكون فيلمه الروائى الطويل الأول مختلفا عن المألوف. ليست المشكلة فى الأجواء الشعبية المستهلكة، فالمهم هو : ماذا تقول؟ وكيف ستقول؟ من هذه الزاوية، فإن المؤلف الشاب استسهل الى حد كبير، فأخذ من أقرب رف من رفوف أفلام البلطجة، ثم أضاف حوارات طويلة لمشاهد تمتلىء بالغرائب والعجائب، والمدهش أنه لم يستطع حتى أن ينقذ السرد من الإضطراب، فى فيلم طويل للغاية، لدرجة تجعلت تشك أنه عدة حلقات من مسلسل لم ينفذ.
كانت أولى المشاكل فى فتح قوسين كبيرين يروى من خلالهما القصة كاملة، وهما قوسان ضعيفان تماما على كل المستويات، فهل تتخيل مثلا أن يقوم رجل باختطاف ابن ضابط أفسد حياته، ليحكى لهذا الابن عن فساد أبيه، علما بأن هذا الرجل مصاب برصاصة أرقدته على الأرض، وعلما بأن قوات الأمن تحاصره؟!
يبدأ الفيلم وينتهى مع هذا الموقف الغريب، الذى يمثل الحاضر، ولكن مشاهد العناوين تعيدنا الى ماضى هذا الرجل، الذى يحمل ابنه الصغير على ظهره، وهو يعمل فى المقهى، من الواضح أن الرجل هارب بالولد الذى سنكتشف فيه ملاكما صغيرا، بعد خضوعه للتدريب بإشراف مدرب من الجيران، ووسط غيرة وحقد ابن هذا المدرب.
البداية إذن من الماضى، ثم نقفز الى الحاضر، ليحكى الرجل الجريح لابن الضابط، فنعود من جديد الى الماضى، وخلال العودة الى الماضى، سنكتشف ماضيا مسكوتا عنه للرجل، فنعود بالتالى الى ماضى الماضى، ولأن الفيلم بين قوسين، سنرجع بين وقت وآخر الى الرجل الجريح والمحاصر فى البناية مع الشاب المخطوف ابن الضابط! أدت هذه الفوضى السردية الى تشويش حقيقى، بل إننا كنا ننسى قصة الرجل الجريح وابن الضابط المخطوف، بسبب استغراقنا فى ملحمة الماضى، وأحداث ماضى الماضى!
ليست هذه الملاحظة شكلية، لأنها تكشف عن مشكلات فى صنعة الكتابة، سرعان ما ستعبر عن نفسها فى بناء الشخصيات، وفى الثغرات الدرامية، وفى التحولات والإنقلابات، التى جعلت من الفيلم عملا مفبركا، صعب التصديق.
محور البناء بأكمله هو علاقة رحيم ( لاحظ دلالة الاسم المقصودة) ، والذى لعب دوره آسر ياسين، بوالده أدهم ( محمود حميدة) الذى اشتهر بالطيبة، كما أن لديه لحية (واضحة اللصق بسبب عيوب الماكياج وليس ادعاء من الرجل) تؤهله لإمامة المصلين فى الحارة. رحيم كما قدمه الفيلم شخصية قوية ومستقلة، يعشق الفتاة مى ( ياسمين رئيس)، التى هى بالصدفة أخت بلطجى الحارة حنّش ( وليد فواز). وبسبب احتكاك رحيم بالفتى حنّش الذى يعمل أيضا مرشدا للبوليس، سيدخل على الخط الضابط علاء شمس (صبرى فواز)، ولأن رحيم يستعصى على الهزيمة ( رغم جسده الضعيف مقارنة بالفتى حنّش)، سيلجأ الضابط الى كسر الأب أمام ابنه، بالكشف عن ماضى الأب، كقاتل وبلطجى هرب مع ابنه، ويصبح ثمن ترك الأب فى سلام هو أن يتحول رحيم الى بلطجى، ليعمل تحت مظلة الضابط علاء.
الى أخر الشوط
ستكون المفارقة أن سبب غضب رحيم من والده، اكتشافه أن الأب بلطجى سابق، بينما ستذهل لأن رحيم سيوافق أن يكون بلطجيا حاليا (!!!!) لا تحدث هذه التناقضات إلا فى الأفلام الهندية كما قلنا، فلا ضرورة لكى تكون الشخصية متسقة مع نفسها، المهم أن يصل الكاتب الى النقطة التالية، والتى ستترتب عليها نقاط تأخذنا الى آخر شوط الغرابة والعجب والموت!
يتمسك الأب بالتوبة، بينما يدين الابن والده على سلوك يفعله الابن من جديد أمام عينيه، ويقوم طه (شريف رمزى) ابن مدرب الملاكمة والجار الطيب ناصر (محمد لطفى)، بتأجيج الصراع. طه يكره رحيم من الطفولة، ولأن رحيم يحب مىّ، التى تعلقت بطه فى سنوات المراهقة، ثم فترت مشاعرها تجاهه. طه أيضا يطلق لحيته، ويقول إنه درس الفقة والشريعة، ولكنه لا يتوقف عن الكيد لرحيم، والحقيقة أن رحيم فعل فى نفسه أسوأ مما فعله فيه أعداؤه.
الآن تعقدت الأمور كثيرا، بل إن معنى هز صورة الأب أمام الابن قد انقلب رأسا على عقب. ما نراه هو أن جيل الآباء هم الأفضل: أدهم تاب وقاوم فكرة أن يعود بلطجيا، كما أنه يمنع ابنه من البلطجة، وناصر مدرب ملاكمة، نجح فى تفريغ عنف الطفل رحيم فى رياضة الملاكمة، بينما جيل الأبناء هو الأسوأ: رحيم صار بلطجيا، وطه متدين حقود، وحنّش فتوة محترف، وشقيقته مى ترفض رحيم لأنه أصبح بلطجيا، وتقرر أن تتزوج من منافسه طه!
أراد الفيلم أن يفتش فى ماضى الآباء السىء، بينما قادتنا الأحداث الى أن نشاهد حاضر الأبناء الأسوأ. هنا خلل خطير فى البناء جعل اختيارات وتحولات رحيم ومى غير مفهومة. رحيم كرر سيرة أبيه رغم استنكاره لها (!!!) ومى كان يمكن أن تكتفى برفض رحيم احتجاجا على بلطجته، مع أنه كان سيصبح نسيبا لشقيقها حنّش البلطجى فى كل الأحوال، ولكن أن تتزوج مى من طه، فهذا تحريض على عنف متوقع من رحيم، الذى لم يعد رحيما.
كلما تعقدت الأحداث، زاد التورط فى مزيد من الإنقلابات الهندية: رحيم يغتصب مى بعد زفافها الى طه ، فتحمل من رحيم، بينما يعتقد طه أن الجنين ابنه، تحاول مى التخلص من الجنين، ولكنها تفشل، يستفيق رحيم فيعود الى الصراط المستقيم، بعد كل ما ارتكبه من شرور، بل ويفوز ببطولة الملاكمة للمحترفين، يحاول الضابط من خلال البلطجية التخلص من رحيم، لأنه خرج عن النص، ولكن طه هو الذى سيقتل رحيم بطعنة نافذة، فيريحنا ويريح نفسه.
يفترض بعد كل هذه الأحداث الغريبة أن تتعاطف مع أدهم الذى خطف ابن الضابط لكى يشعر الأخير بالعجز، ولكى تتشوه صورة الضابط فى عيون ابنه، مثلما تشوهت صورة أدهم فى عيون ابنه رحيم. إنه منطق الميلودراما الذى يلقى بالمسؤولية على الظروف، بينما يفتقد رحيم تعاطفنا مبكرا لأننا لا نفهم تحولاته، هو من اختار أن يسير فى طريق أنكره على والده، دون أن ينتبه الى تناقض موقفه، وهو الذى ترك البلطجة فجأة، وكأنه سيعتزل لعبة رياضية، إنه ببساطة شخصية تتصرف بطريقة لا يمكن استيعابها، أما الطفل الذى ستلده مى، فيبدو أنه سيكون بطلا للجزء الثانى للفيلم، وهذا الطفل حكايه حكاية لأنه سيعرف أن والده كان بلطجيا مثل جده، وأن خاله الأستاذ حنش كان أيضا يحترف نفس المهنة، وأن زوج أمه طه هو قاتل أبيه، وأن الطفل نفسه ثمرة اغتصاب الأم، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
على مستوى التنفيذ هناك أيضا الكثير من الملاحظات: أسرف كريم السبكى فى استخدام ألعاب الكاميرا وكأنه يذكرنا بما كان يفعله الراحل حسام الدين مصطفى فى أفلامه من قلب الكادر، وقدم محمود حميدة شخصية أدهم بطريقة لا مبالية، اهتم بالحركة الخارجية للشخصية، لابتعبيراتها الداخلية المركبة، بينما كان آسر ببنيانه الجسدى أضعف كثيرا من وليد فواز، مما جعل انتصار رحيم على حنّش، أو رغبة رحيم فى قيادة العصابة، أمرا صعب التصديق. اجتهدت ياسمين رئيس، واجتهد شريف رمزى فى دوريهما، ولكن ظلت الشخصيات نفسها ضبابية، بينما بدا محمد لطفى فى مكانه تماما كمدرب ملاكمة ناجح، وكان وليد فواز فى مكانه أيضا فى دور البلطجى حنّش.
تكرر فى الفيلم القطع المتوازى بين صوت الآذان أو الصلاة فى الجامع، وبين مشاهد العنف والإغتصاب. ربما كان المقصود أن تسليم الإمامة فى المسجد من بلطجى سابق الى قاتل قادم، إشارة الى فوضى المجتمع الذى أفرز الحكاية كلهأ، والتركيز على الشاب طه وتدينه الظاهرى، يؤكد فيما يبدو على أن الكراهية التى تنشأ منها البلطجة، هى نفسها التى تفرز التطرف الدينى.
فى كل الأحوال، ليس عليك أن تتعب فى التفسير، لأن المشكلة فى الدراما، التى تضرب فى الفراغ، والتى إذا اضطربت، تاهت المعانى والأفكار.
“من ضهر راجل” عمل محبط ، لا يعبر عن مواهب صنّاعه، ولكنه يعبر عن سينما تريد أن ترقص على السلم، فتضع عينا على شباك التذاكر، وعينا على الفن، وأحسب أن المعادلة لم تنضبط هذه المرة على الإطلاق.