من سينتزع “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا السينمائي؟
انتهت مسابقة الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا، هذه الدورة التي تميزت بوجود عدد كبير من الأفلام المتميزة فنيا ممّا يجعل من الصعب كثيرا التكهن بالفيلم الفائز، فالمسابقة تضمنت 4 تحف سينمائية على الأقل، الأمر الذي يثبت أن هذا المهرجان قفز ليصبح المهرجان الأول في العالم من حيث المستوى الفني والتنظيمي وكذلك احترام الصحافة والنقد، وأساسا، الاحتفاء بسينما الفن الرفيع.
مساء السبت تعلن جوائز المسابقة في حفل كبير، حيث يكشف الستار عن الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى للمهرجان العريق أي جائزة “الأسد الذهبي”، وغيرها من جوائز المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة التي ترأس لجنة تحكيمها الدولية المخرج المكسيكي غليرمو ديل تورو، الذي حصل في العام الماضي على “الأسد الذهبي” عن فيلمه “شكل الماء” والذي مضى ليحصل أيضا على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم.
اختبار صعب
ديل تورو ربما يكون قد واجه بعض الحرج داخل اللجنة عندما وجد نفسه أمام فيلمين في المسابقة ينتميان إلى مخرجين من أبناء جلدته هما ألفونسو كوارون مخرج فيلم “روما” أكثر الأفلام ترشيحا للحصول على “الأسد الذهبي” من جانب معظم النقاد، وكارلوس ريغاداس وفيلمه “زمننا” الذي انقسمت حوله الآراء ولقي بعض التحفظ بسبب جرأته التي تجاوزت حدود الصدمة، غير أنه وجد ترحيبا جماهيريا كبيرا.
شخصيا أفضل “روما” الذي ينتمي إلى الواقعية التسجيلية في بنائه السينمائي الذي ينتقل بحصافة وبراعة بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، النفسي والاجتماعي، ويعيد إلى الواجهة مجددا أهمية الرسالة السياسية شريطة أن تكون كامنة بين طيات عمل سينمائي بصري يتمتع بالحيوية والحرارة والصدق في الأداء، يقتحم بجرأة غير مسبوقة مناطق مسكوت عنها في التاريخ الحديث للمكسيك، ويلمس العلاقة بين الطبقات الاجتماعية في رقة ورصانة كبيرتين.
لقطة من فيلم “روما”
أما “زمننا” (أو عصرنا Our time)، ففيه يظهر ريغاداس بنفسه في الدور الرئيسي أمام زوجته الحقيقية وأبنائه، وهو يقوم بدور شاعر يختار مع زوجته مغادرة المدينة والذهاب إلى الريف حيث يقيم مزرعة لتربية الأبقار، وهو يؤمن بالحب المفتوح خارج قيود الزواج التقليدي، أو بالأحرى بالعلاقات الجنسية المفتوحة خارج إطار الأسرة، ويشجع زوجته على إقامة علاقة جنسية مع صديق أميركي جاء لمساعدتهما في رعي الابقار.
لكنه يغضب عندما تقيم هي تلك العلاقة من دون أن تخبره، ثم يدفعها لممارسة الجنس مع صديقها القديم بينما يراقب هو، هناك قدر كبير من الجنون في الفكرة، وغموض في ما يتعلق بالخيط الفاصل في هذا الفيلم بين الحقيقة والخيال، فهل كان ريغاداس يصوّر ما يؤمن به هو نفسه فعلا؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين، لكن الفيلم الذي يبلغ زمنه نحو ثلاث ساعات، لا يصل إلى فلسفة واضحة من وراء هذا الموضوع الغريب الذي يبدو أقرب إلى تعذيب الذات واختبار الرجل لأفكاره المتطرفة على صعيد الواقع، وما إذا كان سيقدر، وهو الذي يحب زوجته بجنون، على ضبط مشاعره ومنع تسلل الغيرة إلى نفسه وهو يراها تمارس الجنس مع غيره؟ وماذا يحدث عندما تتحول الفكرة النظرية إلى كابوس يدمر كلا من الرجل والمرأة.
يبقى أمامنا في هذه الدورة إذا ما استبعدنا فيلم ريغاداس، عدد كبير نسبيا من الأفلام الممتازة التي يصل بعضها إلى مستوى التحف السينمائية كما أشرت، أولها فيلم “المفضلة” The Favourite للمخرج اليوناني يوغوس لانتيموس، وهو كوميديا تدور داخل أروقة البلاط الملكي في بريطانيا القرن التاسع عشر، في عصر الملكة آن، تشيع فيها المؤامرات والدسائس، وتدور حول شهوة السلطة والرغبة في السيطرة والتنافس الشرس بين امرأتين، تتطلع كل منهما إلى أن تحظى بمكانة الوصيفة المفضلة لدى الملكة التي كانت تعاني منذ وقت مبكر من اعتلال صحتها.
ومن الأفلام التي أرشحها شخصيا، وإن كنت على يقين من أن لجان التحكيم عادة ما تختار عملا أبعد ما يكون عن أذواق النقاد، الفيلم الأميركي “شقيقا الأختين” The Sisters Brothers للمخرج الفرنسي جاك أوديار، وهو أوديسة هائلة تدور في أجواء الويسترن الأميركي، تناقش الشقاء الإنساني على مستوى قاتلين محترفين تعبا من القتل وأرهقا من التعقب والمطاردة والحياة الخشنة بعد أن خاضا معا سلسلة من المغامرات المشحونة بالتوتر والخلافات المتفجرة بين شخصيتيهما.
من فيلم “شقيقا الأختين”
التحذير من الفاشية الجديدة
لا شك أن أحد أفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة هذه الدورة فيلم “22 يوليو” الذي أخرجه البريطاني بول غرينغراس ومن إنتاج شركة “نتفليكس”، ويروي الفيلم قصة الاعتداء الإرهابي الذي قام به شاب نرويجي ينتمي إلى إحدى جماعات اليمين المتطرف، أولا بتفجير مقر الحكومة في العاصمة النرويجية أوسلو عام 2011، ثم بالهجوم على معسكر صيفي للشباب التقدمي في جزيرة قريبة ممّا أسفر عن مقتل 77 شخصا وإصابة مئات آخرين.
ورغم أن هذا الموضوع سبق تناوله في السينما، إلاّ أن غرينغراس ينجح في إنجاز تحفة سينمائية، أساسا بفضل براعة السيناريو، وتوازنه الدقيق في الانتقال بين الأطراف المختلفة للموضوع، وتركيزه ليس فقط على عملية القتل التي نراها بالتفصيل كما نرى التفجير المرعب في المدينة، بل على ما أعقب الحادثين الإرهابيين سواء على الصعيد العام السياسي أو على المستوى الإنساني الشخصي من خلال مأساة شاب من ضحايا الحادث.
من فيلم “22 يوليو”
ويبرز الفيلم بشجاعة ووضوح قضايا تتعلق بالهجرة والعنصرية ومستقبل المجتمعات الأوروبية متعددة الثقافات في أوروبا، ويحذر من ظهور جماعات التطرف اليميني العنصرية، والحركات الشعبوية في أوروبا وأميركا، والفيلم يستحق مقالا خاصا بالطبع.
ربما تمنح لجنة التحكيم المخرج البريطاني مايك لي جائزة ما، لا أتوقع أن تكون “الأسد الذهبي”، بل ربما جائزة أحسن إخراج، عن جهده الهائل في فيلم “بيترلوو” Peterloo الذي يوجه فيه نقدا شديدا للتركيبة الطبقية والسياسية السائدة في بريطانيا من خلال العودة إلى درس التاريخ ووقائع ما جرى في مذبحة في مانشستر عام 1819 تعرض لها المنتمون لحركة الإصلاح التي شملت أعدادا كبيرة من الفلاحين وفقراء الريف، بل وبعض أعيان المدينة أيضا.
ومن أهم ما عرض ضمن أفلام المسابقة أيضا فيلم “عند بوابة الأبدية” At Eternity Gate للمخرج الأميركي جوليان شنابل الذي يصوّر فلسفة الفنان الكبير فنسنت فان غوخ ومشاعره الروحانية في أيامه الأخيرة، وهو الذي عاش في عزلة تامة في ريف جنوب فرنسا وقضى فترة داخل إحدى المصحات الخاصة بالمرضى العقليين، وكيف انتهت حياته بعد أن أنجز في تلك الفترة الأخيرة أعظم أعماله وأغزرها وأكثرها خلودا.
وربما يحصل الممثل الأميركي وليم دافو على جائزة أحسن ممثل عن دور فان غوخ الذي نجح في تقمصه، رغم تقدّمه في العمر خلافا لحقيقة الفنان الذي توفي وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
الرجل الأول
شخصيا لا أظن أن فيلم الافتتاح الأميركي “الرجل الأول” First Man يستحق الفوز بالأسد الذهبي رغم ما فيه من جهد واضح، واستبعد أن تمنحه اللجنة هذه الجائزة أو حتى جائزة أحسن ممثل لبطله ريان كوسلنغ، ففي هذا الفيلم من الحيل التكنولوجية الرقمية والآلات ومعدات الفضاء أكثر بكثير ممّا فيه من لحم ودم وحضور إنساني، رغم محاولة المخرج الربط بين الحياة العائلية لنيل أرمسترونغ، أول إنسان هبط على سطح القمر، وبين رحلته إلى القمر بكل ما اشتملت عليه من مواقف مثيرة، ربما يكون الفيلم قد جعلها أيضا أكثر تعقيدا وإثارة عمّا كانت في الواقع.
فيلم الدراما الموسيقية “فوكس لوكس” لا يستحق أي جائزة، رغم الإقرار بالجهد الكبير الذي بذلته بطلته ناتالي بورتمان.
لكننا لسنا هنا بصدد عمل قريب من “أوديسة الفضاء” لستانلي كوبريك، أو تحفة كريستوفر نولان “بين النجوم”، فالحقيقة أن ما يفصل بينه وبينهما “سنوات ضوئية”!
ومن الأفلام الكبيرة المتميزة أيضا الفيلم الألماني “لا تنظر بعيدا أبدا” Never Look Away للمخرج فلوربان هنكل فون دونرسمارك (الذي اشتهر بفيلمه “حياة الآخرين”) وهو أطول أفلام المسابقة (188 دقيقة)، ويروي قصة ثلاثين عاما من تاريخ ألمانيا من خلال علاقة الفنان بالعالم، منتقلا من الحقبة النازية إلى الهيمنة الشيوعية على القسم الشرقي من ألمانيا، ثم إقامة الجدار الفاصل بين شطري برلين، من خلال دراما عاطفية رومانسية مؤثرة مصنوعة بإتقان شديد، وهو يستحق مقالا خاصا بكل تأكيد، وشخصيا أرى أن بطلته الممثلة الألمانية الشابة الجميلة باولا بير (23 سنة) تستحق جائزة أحسن ممثلة.
ومن الأفلام التي أحدثت أصداء جيدة أيضا الفيلم الفرنسي “حياة مزدوجة” Double Lives للمخرج أوليفييه أسايس الذي يأتي عادة بأفضل ما عنده إلى المهرجان، لكنه يخرج في كل مرة خالي الوفاض.
ومع ذلك ربما يحصل فيلمه هذا على جائزة لجنة التحكيم، وهو يصوّر مأزق رجلين يعملان في مجال النشر في عصر التكنولوجيا الرقمية وانحسار بيع الكتب، ومن جهة أخرى يصوّر عجزهما عن فهم ما يطرأ من تغييرات سيكولوجية على زوجتيهما بعد أن تجاوزتا منتصف العمر، والفيلم عبارة عن كوميديا فرنسية مصنوعة جيدا يستمتع بها المتفرج من دون شك.
هذا أيضا شأن الفيلم الأرجنتيني الجيد “المتهمة” The Accused للمخرج غونزالو طوبال، وهو مزيج بين الفيلم البوليسي والدراما النفسية، يدور جزء كبير منه داخل قاعة المحكمة، ويدور حول فتاة مراهقة تنتمي لأسرة بورجوازية ثرية، متهمة بقتل صديقتها خلال حفل صاخب.
كل الدلائل تشير إلى أنها القاتلة، أسرتها ترهن المنزل وتبيع المزرعة بأرخص سعر للمحامي الكبير الذي يتولى الدفاع عنها والذي يبحث عن أي ثغرة قانونية لإخراج الفتاة من مأزقها، هذا الفيلم مصنوع جيدا رغم بعض الاستطرادات، كما أنه يدخر مفاجأة قرب نهايته.
دراما موسيقية
لا يستحق فيلم “الغروب” Sunset للمخرج المجري لازلو نيمتش جائزة ما رغم أن اللجنة قد ترى رأيا آخر بالطبع، ولم يترك الفيلم صدى لدى معظم النقاد، كما لا أتوقع حصول فيلم الدراما الموسيقية الأميركي “فوكس لوكس” Vox Lux للمخرج برادي كوربرت، على أي جائزة، رغم الإقرار بالجهد الكبير الذي بذلته بطلته ناتالي بورتمان في دور الفتاة التي تعرضت في شبابها المبكر لحادث إطلاق نار عشوائي وأصيبت إصابة خطيرة في رقبتها، لكنها نجت وأصبحت مغنية شهيرة حقّقت النجومية، لكن الألم ظل ملازما لها.
ومع مرور السنين حملت وأنجبت ابنة لا تتفق أبدا معها، كما أصبحت على خلاف مع شقيقتها التي تقاربها في العمر والتي كانت ترعاها خلال علاجها، أما دور الممثل البريطاني الموهوب جود لو فهو هامشي في هذا الفيلم تماما.
قد يحصل فيلم الرعب المفتعل المليء بالمشاهد المصطنعة “سيبيريا” Susperia للمخرج الإيطالي لوكا غوادانينو، وهو على نحو ما أيضا عمل موسيقي استعراضي، على جائزة ما، وإن كنت شخصيا أرى أنه أسوأ ما في أفلام المسابقة، وهو شبيه بفيلم آخر مقزز ومزعج ومليء بالافتعال والتحذلق الشكلي بغرض الإثارة والرعب، هو فيلم “الأم” Mother الذي وجد بعض المهووسين به الذين يعتبرونه تحفة كبرى ويعبرون عن هوسهم في الأسطر التي تظهر على بعض مواقع التواصل الاجتماعي يوميا، والأغرب من هذا أن تصل الجرأة إلى درجة مقارنته بعمل كلاسيكي رصين مثل “طفل روزماري” لرومان بولانسكي!
في هذا المجال لا يجب أن ننسى تحفة الأخوين كوين “أنشودة بستر كروجز” الذي أرشحه لنيل الأسد الذهبي أو الجائزة الخاصة الكبرى للجنة التحكيم، وعلى أي حال تبقى أقرب الأفلام قربا من الجائزة الرئيسية للمهرجان هي: “روما”، “شقيقا الأختين”، “أنشودة بستر كروجز” و”عند بوابة الأبدية”.