“مهدد بالانقراض”.. فلسطين- إسرائيل.. وموهبة سينمائية تترسخ في مهرجان لندن

ينجح الفلسطيني سعيد زاغا مخرج ومؤلف الفيلم القصير “مهدد بالانقراض” (20 دقيقة) (العنوان بالإنجليزية Coyotes أي ذئاب البراري) في تقديم عمل رصين، متميز كثيرا في الصورة والإيقاع والمونتاج، والأهم طبعا، اختيار موضوع جيد مثير يعالج “الحالة” القائمة في فلسطين من زاوية مختلفة تماما عن سائر المعالجات السابقة، ويصل بسلاسة، إلى المشاهدين من دون خطابة أو تكرار للفكرة أو الدوران من حولها.

“مهدد بالانقراض” هو الفيلم القصير الثالث لمخرجه، ويشارك في الدورة الـ69 لمهرجان لندن السينمائي الدولي، وهو مصور في فلسطين، في الضفة الغربية، في طريق يفترض أن يربط بين أريحا ورام الله، أو بالأحرى الطريق الفرعي المهجور الذي ترغم على أن تتخذه، “لبنى”.. الطبيبة التي غادرت لتوها نوبة العمل الليلية في عز الليل مع صديقتها “سلمى”.

“لبنى” محجبة، ولكن صديقتها سلمى ترتدي ملابس مكشوفة بعض الشيء.. وهو ما يشير إلى تحررها بل هي أكثر تحررا أيضا في حديثها مع لبنى فهي لا تستنكف الحديث المكشوف، وبما يشي بأن ما يربط بين الاثنتين قد يكون أكثر من صداقة عادية.

الفيلم كله يدور خلال رحلة عودة لبنى من أريحا إلى رام الله. أولا يرغهما جندي إسرائيلي على اتخاذ طريق فرعي لأن الطريق العمومي الرئيسي مغلق.

يكتسي الفيلم بنوع من التشويق، التردد، الارتباك، الوجل، مع مسحة من الغموض الذي تكثفه الصور. والمخرج يلجأ إلى الكشف التدريجي عن جوهر الحبكة، ولا شك أن وجود مدير التصوير الإيطالي البارع سيمون داركانجيلو (الذي أدار ببراعة كبيرة تصوير فيلم المستوطنون” للمخرج التشيلي “فيليبي غالفيز”) ساهم في إضفاء جو شديد الخصوصية على الصورة عموما: فهو ينتقل من اللقطات القريبة داخل سيارة لبنى، إلى لقطات عامة بعيدة تبدو فيها السيارة بقعة ضوء وسط عتمة شديدة وعلى خلفية المدينة القريبة التي تتلألأ أضواؤها في الليل.. إنها صورة موحية بليغة، مع مساحة صمت تمهد لما سيأتي فيما بعد.

تتوقف لبنى بعد أن تشعر أن إحدى عجلات السيارة الأمامية ليس بحالة جيدة. المنطقة معتمة تماما. لا أثر لأي سيارة تمر. فقط صوت عواء ذئاب يتناهى سماعه مما يزيد من رهبة الموقف. تحاول هي الاتصال وطلب المساعدة. لكن لا توجد تغطية. وفجأة تتوقف خلفها السيارة الوحيدة التي تظهر في تلك الليلة المظلمة. ورجل يعرض المساعدة ويحاول أو يتظاهر بأنه سيقوم بتبديل العجلة لكنه سيكتشف، أو سيزعم أن العجلة في الاحتياطية مسمار.. هل حدث هذا مسبقا أم للتو؟ يزداد بالطبع تشكك لبنى، ويتصاعد شعورها بالخوف.

ينصحها بأن تترك سيارتها وتركب معه وهو سيقوم بتوصيلها، لكنها تشعر بالخوف والتوجس، وتصر على المضي قدما بسيارتها، ويتبعها هو بدعوى أنه يريد الاطمئنان عليها في حالة لو عجزت السيارة عن إكمال المشوار وأرادت هي المساعدة. وما سيحدث هو ما قدره الرجل بالضبط. وبعد أن تركب معه، يأخذ في الحديث عن الذئاب التي تنتشر على جانبي الطريق، وكيف أنها أقل وحشية من الذئاب الأخرى لكن تصبح أكثر فتكا إن لم يروقها أحدهم. وكلها بالطبع مقدمة لما سيسفر عنه هذا الرجل الذي يحدثها أيضا عن الفرق بين هذه الذئاب وبين الخنازير البرية التي يقول بطريقة ذات مغزى، أنها تمارس العلاقات الجنسية الشاذة. والذئاب في سياق الفيلم، لها دلالة رمزية واضحة.

لا شيء بالطبع وقع مصادفة، بل كله كان مدبرا، فالرجل يعرف من هي ومن تكون وماذا تعمل، ويعرف عن علاقتها “الخاصة” بصديقتها سلمى، بل ويكشف لها صورا التقطت سرا لها مع سلمى، وهي صور يمكن أن تسبب لها الكثير من المشاكل. ما الذي يمكن أن تفعله سلمى وكيف يمكن أن تخرج من هذا المأزق؟ فالرجل عميل إسرائيلي يكشف عن وجهه بوضوح، يمارس ابتزازها لإرغامها على “التعاون” وتزويده بمعلومات عن شقيق صديقتها سلمى، الذي قد يكون في ضالعا في “المقاومة”.  

يضع سعيد زاغا بطلته “لبنى” في المقعد الخلفي للسيارة، بينما يقود مخلص سيارته من الأمام بالطبع، وبالتالي فنحن نشاهد لبنى تارة وحدها في الخلف، محاطة بالعتمة التامة (السواد)، أو ننتقل إلى لقطة قريبة كثيرا لجانب وجه مخلص، نلمح نظاراته، ثم ننتقل -عن طريق القطع، إلى لقطة ليده وهي تمسك بصورة الشاب، شقيق سلمى، يشير لها بالصورة، يسألها إن كانت تعرفه.. وهو سؤال يعلم هو إجابته، ثم سيطلعها على صور أكثر صراحة، يقول إنها أفضل من “صور التليفون” (كانت سلمى قبل أن تدخل بيتها حيث أوصلتها لبنة، قد قالت لها إنها سيترسل لها بالصور التي تجمعهما معا.. أو ما يفهم منه ذلك)، وهي بالتالي صور يمكن أن تتسبب في فقدانها من العمل وتدمير سمعتها.

“مخلص” عميل إسرائيلي، قد يكون ضابطا في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، أو مجرد عميل مجند في خدمة هذا الجهاز، يقوم بالمهمة بعد أن تسلح بكل ما يلزم، أي المعلومات والصور.

لبنى ستفقد أعصابها بالطبع بعد أن تدرك كل شيء، أي طبيعة المأزق الذي وقعت فيه. كيف ستخرج منه؟ هذا ما سيصل إليه الفيلم ولكن ليس مهما تماما. فالمهم أن الفيلم نجح في أن يبني ويصعد من القصة لقطة بلقطة، مع موسيقى تنذر بالخطر، وأجواء صمت خارجي وظلمة، ومعالم غامضة لا يمكن أن تلمح من ورائها سوى الذئاب. وأجواء الفيلم تتسق بشكل عام مع أجواء الإثارة البوليسية أو فيلم “الجريمة” أو “الفيلم- نوار”.. له دون شك، دلالته السياسية التي تساق من تحت جلد الدراما الخافتة التي تتصاعد تدريجيا إلى أن تصل إلى نقطة الانفجار والتطهير.

سيناريو جيد ومحكم ويروي ويقول كل شيء بحيث لا يترهل ولا يتورط في الاستطرادات، أو ينحرف بعيدا عن الموضوع، مع حوار مكتوب ببراعة شديدة لكي يعبر بأقصر العبارات، وأدق الكلمات عن الموقف، وعن الشخصيات الثلاث الرئيسية.

أداء تمثلي ممتاز أولا بالطبع من جانب الشخصية الأكثر احترافية، أي الممثل الكبير علي سليمان، ثم الممثلة ماريا زريق (لبنى)، وبالطبع يمنة مروان (سلمى). ويعتمد أداء الممثلين الثلاثة على التعبير بالوجه ونبرات الصوت، والحركة المحسوبة بدقة. واختيار الممثلين مهم ويعود بالطبع إلى المخرج.

سننتظر باهتمام كبير، صدور الفيلم الروائي الطويل الأول لسعيد زاغا الذي لم أكن أعرف عنه الكثير بكل أسف، وتقول المعلومات المتوفرة عنه أنه درس السينما واللغة الإنجليزية في كلية كينيون بولاية أوهايو الأمريكية، ثم حصل لاحقًا على درجة الماجستير في كتابة السيناريو من مدرسة لندن للسينما، وفي عام 2023، أخرج أول حلقتين من مسلسل “عيدٌ مُحطم”، من إنتاج نتفليكس تدور أحداثه في جدة بالمملكة العربية السعودية.

سعيد زاغا

 وعرض فيلمه القصير الأول “خمسة أولاد وعجلة”، لأول مرة في مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2016، وشارك في أكثر من ٤٠ مهرجانًا حول العالم، وحصد ثلاث جوائز في المكسيك وعُمان والجزائر، وعرض فيلمه القصير الثاني “عاشقٌ في الضفة الغربية” (2021) في مهرجان “أوربان وورلد” السينمائي المؤهل للأوسكار في نيويورك، ومهرجان تامبيري السينمائي في فنلندا، من بين عشرات المهرجانات الأخرى.