ملفات فينيسيا: (8): “كابول بين الصلوات”

من أفلام التي عرضت خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا السينمائي الـ82 فيلم “كابول بين الصلوات Kabul Between Prayers وهو إنتاج هولندي- بلجيلكي ومن إخراج المخرج الإيراني- الهولندي أبوزار أميني Aboozar Amini. ولابد أن يكون أميني قد حصل على موافقة من جانب السلطات في أفغانستان التي تسيطر عليها حركة طالبان حاليا، لكي تمكن من تصوير هذا الفيلم داخل أفغانستان.

المخرج أميني سبق أن حقق نجاحا كبيرا بفيلمه الأول “كابول، مدينة في مهب الريح”، الذي افتتح مهرجان السينما التسجيلية الدولي بأمستردام IDFA عام 2018، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تمنح للعمل الأول في المهرجان، بالإضافة إلى جائزة أفضل فيلم في قسم “الموجة التالية” في CPH:DOX.

أما “كابول بين الصلوات” فهو “بورتريه” لسينمائي لشاب يدعى “ساميم” (23 سنة)، هو جنديٌّ مُخلصٌ لفكر جماعة طالبان، التي ارتبط بها منذ ولادته، والفيلم يسعى لاكتشاف هذا الشخص من الداخل، أي من داخله، من خلال ما يشعر به كرجل وزوج وأب يريد أن يعيش أيضا حياة “طبيعية”، كمزارع، يزرع أرضه ويمارس العيش مع زوجته التي بدأت تشعر باليأس منه بسبب غيابه الطويل عنها. وهذا ما نعرفه من خلال حديثه تليفوني أو حديثه عن زواجه. وهو متزوج منذ سنوات لكنه لم ينجب. وساميم هذا جندي من جنود طالبان يعمل في النوبة الليلية حارسا أمام نقطة للتفتيش، يوقف السيارات، يفتش الأشخاص، يطبق ما يراه متسقا مع عقيدة طالبان التي أصبحت سلطة لدولة ممزقة بعد حرب أهلية استمرت عقدين على الأقل.

من أكثر ما يميز الفيلم أن مخرجه يتخذ موقفا محايدا.. لا يدين ولا يحكم على بطله، لا يتعاطف معه بقدر مع يسعى لتصور مأزقه الوجودي. صحيح أنه مأزقه الحياتي ناتج عن اختياره الشخصي وإخلاصه الشديد لهذا الاختيار، إلا أنه متمزق في داخله بين رغبته في الاستمتاع بالحياة، وبين توقه الشديد لأن يلقى مصير “الشهداء”- حسب اعتقاده، عن طريق القيام بعملية “انتحارية” ضد الأعداء أو “الكفار” حسب تصنيفه لهم.

طريق العودة أمام ساميم إلى الحياة الطبيعية تظل أمنية يعبر عنها في حديثه التليفوني مع فتاة يريد أن يتخذها زوجة ثانية له بسبب تعقد علاقته مع زوجته الحالية، فهو يحلم معها بتأسيس أسرة، وإنجاب أطفال، والعمل في زراعة قطعة من الأرض أهملت طويلا. لكنه في الوقت نفسه، أصبح مثلا أعلى عند شقيقه “رافي” الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره والذي أصبح كل هدفه في الحياة أن يصبح أيضا شهيدا. ورغم رحيل الأمريكيين عن أفغانستان، إلا أنهم حاضرون في الأذهان، يشي بذلك كل ما يقوله ساميم أو شقيقه.

الشقيق المراهق “رافي” يحفظ القرآن في مدارس تحفيظ القرآن الشبيهة بنا يعرف بـ”الكُتاب” في مصر.. صوته جميل. وأداؤه في ترتيل آيات القرآن أكثر دقة وتأثيرا من شقيقه الأكبر ساميم نفسه الذي يدخل معه في منافسة. ولكن عندما يسأله المخرج (من وراء الكاميرا) إذا ما كان يفهم ما يردده؟ يقول له إنه لا يفهم. ويعود ليسأله: ها تفهم أي جزء من القرآن؟ فيقول إنه لا يفهم. وعندما يسأله عن المرأة أو كيف يفكر في الحب، يضحك في هجل ويستبعد الأمر لكنه يعود ويعترف بأنه مغرم بفتاة تدعى نسيمة. لكن الواضح أنه يخجل من مجرد الاقتراب أو الحديث معها.

يستخدم المخرج أسلوب رصينا في بناء الفيلم يعتمد على اللقطات الطويلة الثابتة، سواء للوجوه عن مقربة، أو اللقطات العامة والمتوسطة من مسافة. وهو يوجه بعض الأسئلة من خلف الكاميرا لبطله أو لشقيقه الذي يحاول أن يجاريه ويماثله في كل ما يفعل بل إنه يعبر أكثر من مرة خلال الفيلم، عن ولعه بالعمليات “الانتحارية”، وكذلك ساميم نفسه الذي يرى انه يتعين على جميع الأمهات تعليم أولادهن على الاستشهاد في سبيل الله. أي أنه مؤمن تماما بثقافة “الانتحار” التي يعتبرها استشهادا وجهادا في سبيل الله، وبالتالي فلا سبيل للشعور بالسلام حتى بعد أن سيطرت الحركة التي ينتمي إليها على الدولة، فالجهاد يجب أن يستمر طالما بقي “فسطاط الشر” قائما يتربص شرا بأفغانستان. وهو ما يعرب عنه أيضا الشقيق الأصغر.

هدف المخرج من الحوارات من وراء الكاميرا ليس محاصرة الشخص الذي يحاوره أو إحراجه أو الضغط عليه برأي مختلف، بل اكتشاف كيف يفكر وكيف يرى الأمور والعالم ويكشف بالتالي عن التناقض الواضح في وضعية هؤلاء الذين يطرح عليهم الأسئلة التي تبدو بريئة، محايدة، بسيطة عفوية، لكنها تكشف بذكاء عن الوجه الحقيقي للشخص الذي يعيش في دور قد لا يكون هو دوره الطبيعي، بل هو نتاج ثقافة يمكن وصفها بـ”ثقافة موت”.

يذهب ساميم مع شقيقه ومجموعة من الأطفال، ويتبعه المخرج بالكاميرا، إلى مكان معروف للعالم كله، هو موقع تماثيل بوذا الأربعة المنحوتة في الجبل أو التي كانت كذلك قبل أن تقومن طالبان بنفسها وتدميرا باعتبارها من “الأصنام” المحرمة شرعا رغم أن العالم يعتبرها من التراث الفني البديع. يقف الأولاد أمام الحفر الهائلة الموجودة في مكان التماثيل، ويبدون تعجبهم من هيكلها الضخم بل وإعجابهم بصلابة وقوة الأحجار في الجبل. وساميم يقول للمخرج إن الناس كانوا يعبدونها بدلا من عبارة الله. أما “رافي” فيقرا القرآن أمامها. ولكننا نعرف أنه يحفظ الآيات دون أن يفهمها.
من المثير بالطبع أن نعرف أن يدرس في الجامعة، ونراه وهو يتدرب على استرجاع دروس اللغة الإنجليزية. وعلى الجسر حيث يقف مع بعض زملائه، يتحدث مع زميل له عن مشكلته مع زوجته، وعندما يعرف زميله هذا الذي يقول عن أحب شيء لديه هو الحرب، أن زوجة ساميم لا تنجب ينصحه باتخاذ زوجة ثانية. ويدور حوار بينهما عن الراي الشرعي في تعدد الزوجات.

ساميم مهتم كثيرا بتعليم شقيقه رافي استخدام الأسلحة.. “فلا أحد يعلم من سيغزو أفغانستان مجددا” كما يقول. وعلى خلفية اللقطات والصور التي تتداعى، هناك دائما أصوات الآذان وقراءة القرآن وأداء الصلاة. بل إننا نشاهد كيف يتوقف الجنود فوق الجسر عن أداء عملهم ليؤدوا الصلاة فوق الجسر أمام السيارات.

وتغيب المرأة غيابا تاما عن الفيلم. باستثناء ظهورها مغطاة الوجه في سوق كابول المكتظ بالباعة والسلع الكثيرة، مع ضجيج كبير وحركة سير وازدحام. وينتقل الفيلم من المناخ الحار الراكد إلى عاصفة رملية شديدة ثم إلى هطول الثلوج التي تغطي الطرق وكيف يستمر ساميم في أداء دوره في هذا المناخ القارص البرودة.. إنه ممزق وحائر بين واجبه أو دوره الذي يعتقد انه حلق من أجله، وبين رغبته في اعتزال العمل والذهاب   لعيش حياة بسيطة. وهذه الحيرة هي أكثر ما يجعنا كمشاهدين لا يمكننا أن ندين ساميم ببساطة أو نحكم عليه ونرفضه، بل ربما نتعاطف معه ونتفهم مأزقه الناتج عن ثقافة كاملة شمولية تقمع المشاعر الطبيعية للإنسان. 

يقول المخرج: “هذا الفيلم لا يُصوّر جنديًا آخر من طالبان بلا وجه فحسب، بل يسعى إلى التفاعل معه كشخص. وتماشيًا مع أعمالي السابقة، فإنني أتجنبُ زخارف الكليشيهات والأجندات السياسية عند تناول مواضيعي. يُعدّ هذا المسعى مُرهقًا للغاية نظرًا للتصوير الإعلامي المُكثّف لأفغانستان على مدى العقدين أو الثلاثة الماضية، والذي غالبًا ما كان مُشبعًا بروايات مُحددة مسبقًا وغرابة. إن رؤيتي لأفغانستان تتجاوز الغرابة المُجرّدة؛ إنها تهدف إلى مُواجهة إنسانية بطل فيلمي- حتى لو كان يتبنى أيديولوجيات مُتطرفة. وعن طريق العيش بجانبه، آمل أن أُمسك بمرآة يُمكنه من خلالها أن يُلقي نظرة خاطفة على انعكاسه، مهما كان مُرعبًا. ورغم القيود الكامنة، فأنا مُلتزمٌ باغتنام كل فرصة لاستكشاف عالمه الداخلي: حتى أصغر نافذة تُتيح لي فرصةً ثمينةً من البصيرة أحاول احتضانها بالكامل”.

فيلم “كابول بين الصلوات” عمل تسجيلي متميز، يفيض بالصدق والجمال في الصورة، والتعبير من خلال الهمسات والتأملات والصور المتصادمة، وإبراز التناقض بين الأقوال والأفعال، ولكنه أساسا ينجح في تقريبنا من شخصية تبدو شديدة العادية، فلو رأينا ساميم من على مسافة لربما اعتقدنا أننا أمام شيطان يستحق الرجم، لكنه هنا يبدو في عاديته، أقرب إلى كائن إنساني صنعته ثقافة محيطه واختيارات لا تؤدي إلى شيء سوى الضياع الروحي والفكري والإنساني.