ملفات فينيسيا (7): صوت هند رجب” يدمي القلوب

شهد مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الـ82 عرض فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية “صوت هند رجب” داخل المسابقة الرسمية متنافسا مع 20 فيلما آخر على جائزة “الأسد الذهبي”، وقوبل الفيلم باحتفال كبير من جانب النقاد في العرض الخاص الذي يسبق عادة العرض العام، كما أنه سيترك انطباعا قويا لدى الجمهور، فالفيلم لاشك أنه عمل شديد التأثير، والفضل في ذلك يرجع أولا وأساسا، إلى الأسلوب الذي اختارته كوثر لصياغة فيلمها وهو أسلوب يجمع بين الروائي والتسجيلي hybrid، وثانيا أنه يتناول موضوع، صحيح أنه حدث في الماضي القريب، إلا أن الذين صنعوا المأساة التي يصور الفيلم كيفية حدوثها بشكل منهجي، ومن خلال تفاصيل دقيقة، مازالوا يمارسون، جرائمهم يوما بعد يوم، ومنذ ما يقرب من العامين، تحت سمع العالم وبصره.

“صوت هند رجب” ليس وحيدا، فالصراخ يشق القلوب ويدميها، من كل جانب في قطاع غزة، الذي يشهد “الهولوكوست” الحقيقي، الهدم والتدمير والإزاحة والتهجير القسري والقتل الذي أزهق أرواح أكثر من ستين ألف شخص ثلثهم تقريبا من الأطفال، شأن “هند رجب” ابنة السنوات الست الحاضرة الغائبة في هذا العمل المؤثر القوي.

تستخدم كوثر بن هنية التسجيلات الصوتية الأصلية للمحادثات الهاتفية التي جرت بين مسؤولي تنسيق حركة الإنقاذ في الهلال الأحمر الفلسطيني في الضفة الغربية، وبين هند التي فقدت جميع من كانوا معها من أقاربها داخل سيارة في حي تل الهوى في قطاع غزة، وظلت حبيسة لعدة ساعات داخل تلك السيارة المدمرة تماما، محاطة كما تروي هي بصوتها، بعدد من الدبابات الإسرائيلية التي يمكننا أن نسمع جيدا ما تقوم به من قصف وقتل. قتلت قريبتها الطفلة “ليان” التي كانت إلى جوارها تتحدث على الهاتف، كما قتل خمسة من أفراد عائلتها كانوا معها في السيارة. ظلت حبيسة داخل السيارة حتى بعد احل الظلام، من دون ماء أو طعام. وقد وقعت تلك الأحداث الدامية في 29 يناير 2024. وكلها أحداث موثقة وثابتة واعترف بها العدو أيضا.

تستخدم المخرجة إطارا مكانيا وزمانيا محدودا للغاية هو من ناحية المكان، مكتب الهلال الأحمر الفلسطيني، لا تخرج منه سوى نادرا وقرب النهاية فقط، كما تستخدم حركة الكاميرا الحرة التي تهتز وتتحرك يمينا ويسارا، وتحاصر الشخصيات الرئيسية القليلة في لقطات قريبة للوجوه لرصد الانفعالات وردود الفعل التي تتراوح ما بين الانهيار التام إلى الهدوء الظاهري الذي يخفي توترا بالغا. وأما من حيث الزمان، فالفيلم يدور في زمن أقرب إلى الزمن الطبيعي الذي يغطي شرائط تسجيلات المحادثات التي جرت بين طاقم العاملين الثلاثة أو الأربعة، وهند رجب التي لا نراها لكننا نرى صورتها مرات عدة سواء على شاشة الكومبيوتر أو على الجدران والفواصل الزجاجية.

قصة هند رجب في هذا الفيلم ليست قصة معزولة عن السياق العام بل مجرد نموذج واحد أصبح معروفا على مستوى العالم بعد بث تسجيلات الاستغاثات المتكررة عبر الهاتف المحمول التي جرت معها وهي تختبيء داخل سيارة مليئة بجثث غارقة في الدماء. وعندما تحادثها مسؤولة الاتصالات في الهلال الأحمر “رنا”، تحاول أن تمنحها الأمل في النجاة، وتعدها بالنجدة بينما تكرر هند باستمرار في عفوية وبراءة “تعالي خذيني”.

من جهة أخرى يصور الفيلم تصاعد التوتر داخل مكتب الهلال الأحمر بين عمر، الشاب الذي يستمع ويتحدث إلى الطرف الآخر أي هند، ومهدي الذي يدير حركة التنسيق بين الهلال الأحمر الفلسطيني والصليب الأحمر الدولي في القدس الذي يتعين عليه الاتصال كما يشرح لنا مهدي بالتفصيل في الفيلم- بوحدة خاصة للمتابعة تتبع الجيش الإسرائيلي لكنها ليست موجودة في أرض القتل في غزة، لكن هي التي يجب أن تتصل بالقوات الموجودة على الأرض لكي تسمح بفتح ممر آمن تعبر منه سيارة الإسعاف.

ونحن نرى كيف يتصاعد التوتر مع مرور الوق، فرغم وجود سيارة الإسعاف على بعد 8 دقائق من السيارة المدمرة التي توجد في داخلها هند، تستمر المعاناة والاستغاثة والاستنجاد والرعب ساعات وساعات.

سندرك ونلمس ونسمع ونستنتج ونعرف أن الإسرائيليين بعد أن قيل إنهم أعطوا أخيرا “الضوء الأخضر” لمرور سيارة الإسعاف، توقفت السيارة بعد بضعة أمتار فقط عند نقطة قريبة نراها على الخريطة التفاعلية الحية، ثم كيف قصفت الدبابات الإسرائيلية السيارة ودمرتها، وقتلت عاملي الإسعاف، ثم ستأتي بعد ذلك لحظة يعتقد عمر ومهدي ورنا أن هند تعرضت أيضا للقصف، لكنها ستعود وتتحدث إلى أمها التي تتصل بوحدة الهلال الأحمر، وتستمر المحاولات من دون أن تؤدي إلى الإنقاذ المأمول بل سيصبح مصير هند رجب في النهاية، هو الموت على أيدي جنود الاحتلال في عملية قتل مقصودة متعمدة.

من ميزات الفيلم أن كوثر بن هنية تنجح في تفكيك الموقف الثابت، إلى عناصره: تصاعد التوتر بين عمر ومهدي، أي بين عمر الذي لا يري سوى أن هناك طفلة تتعرض للموت في صمت وعجز بيروقراطي مخيب للآمال، وبين مهدي الذي لا يملك سوى اتباع الخطوات التي هو مقيد بها ولم يكن هو المسؤول عن وضعها كما يقول، ومن جهة أخرى، هناك رنا ونسرين وهما أكثر هدوءا ورقة وتأثرا في التعامل مع هند (أو هانوود كما ينادونها). ورغم أننا كمشاهدين نعرف مسبقا ما انتهت إليه قصة هند رجب التي أصبحت معروفة على الصعيد العالمي، إلا أن من مزايا الفيلم أنه يجعلنا مشدودين لمتابعة القصة وتفاصيلها لحظة بلحظة كما لو كنا نتابعها متابعة حية على الهواء مباشرة!

كاميرا متحركة قريبة من الوجوه، ترصد وتتسلل بين الشخصيات وتنتقل فيما بينهم وتنقل انفعالاتهم، وتحصر الحدث كله في نطاق ضيق لتكثيف حالة الاختناق التي يسعرون بها، مع تصاعد التوتر، وموسيقى تكثف حالة التوتر من تحت جلد الصورة أي من دون أن تقحم نفسها بشكل مباشر، وأداء تمثيلي مقنع إلى حد كبير من جانب الممثلين الثلاثة أو الأربعة الذين أعادوا تجسيد الحدث: سجا كيلاني (رنا) وكلارا خوري (نسرين) ومعتز مليس (عمر)، وعامر حليحل (مهدي).

قرب النهاية تظهر والدة هند رجب الحقيقية، تتحدث عن مشاعرها خلال تلك المحنة وبعدها، مثل أي أم فلسطينية تتمتع بقوة إرادة مذهلة. وهي تحدثنا عن ولع هند بالبحر وبالشاطيء الرملي في غزة. وتنتقل كوثر بن هنية إلى تفاصيل مرعبة لسيارة العائلة التي قتل جميع أفرادها وكيف انتزعت الجثث أو بقايا الجثث بصعوبة بالغة بعد مرو 12 يوما على وقوع المجزرة المتعمدة أو الجريمة ضد الإنسانية التي يظل المجرمون الذين ارتكبوها أحرارا طلقاء حتى هذه اللحظة، يمارسون القتل في حقوق القتل في غزة.

كوثر بن هنية

“صوت هند رجب” ينقل مخرجته نقلة أفضل في مسارها السينمائي، فهي أكثر سيطرة على الأسلوب وعلى الأداء والحركة وتصميم المشاهد، وأكثر جدية في التعامل مع موضوعها عما كان الأمر في “بنات ألفة”، كما أصبحت تجيد المزج بين الصوت والصورة، وبين التسجيلي والمعاد خلقه بالتمثيل. صحيح أن الصوت هو الأساس في هذا الفيلم إلا أنها تمكنت من خلق صورة تجسد انعكاسات ذلك “الصوت” ليس فقط على شخصيات الفيلم بل علينا جميعا كمشاهدين.

ينجح الفيلم في نقل الشعور بالحزن والتوتر والغضب داخل مكتب الهلال الأحمر، وأساسا، بالخوف والرعب والأمل الذي يخبو تدريجيا من جانب هند رجب التي ستكتشف رنا وهي تخاطبها باعتبارها طفلة صغيرة تسألها عن الألوان التي تحب، وتشير إلى الأشخاص القتلى داخل السيارة باعتبارهم “نائمين” كيف أنها كبرت، وكيف تجيبها بأنها لم تعد تر أي ألوان، وتصحح لها الأمر فتخبرها بأنهم “ميتين” وليسوا “نائمين” كما تقول لها رنا. لقد كبرت هند في لحظة فارقة من تاريخها الشخصي الذي لا ينفصل أبدا عن تاريخ شعبها كله.