“مكتوب يا حبي”.. تمجيد الأجساد

ماتيو ماشيريه

ترجمة: علي ابن بطوطة

في فيلمه الروائي السادس “مكتوب ياحبي” اللحن الفاصل” Mektoub, My Love: Intermezzo، يفتح المخرج “عبد اللطيف كشيش” نوافذ سينماه على مصاريعها، ويغطس في زوبعة من المشاهد التي لا نظير لطابعها الواسع إلا الإحساس بالامتلاء، ما يخلق لدى المتفرج طلبا شديدا للهواء، إلى حد أنه بالكاد ينجح في التقاط أنفاسه.

يمكن بدون شك أن نرى أن فيلم “مكتوب يا حبي” مستوحى من رواية “الجرح الحقيقي” لفرانسوا بيجودو، التي تُشَكِّلُ جوهر سينما “كشيش”، أو على الأقل بَحْثاً اتخذ حتى هذه الآونة أشكالا مؤقتة.

يجد السينمائي هنا مجالًا للتطور والتفتح، ولكن على الأخص سيطرة مباشرة ما يصوره: جمال الأجسام المنغمسة في ضوء الصيف، ألعاب الحب والإغواء، كل شيء ينتظم في كون بشري، حيث أصغر تفصيل يحيل في كل لحظة إلى وحدة الكائن الحي.

تكمن جرأة الفيلم في حكايته، حكاية مجردة من أي تحديد ولا تُظهر أي طموح آخر غير تمضية الوقت مع شخصيات الفيلم.

أمين (شاهين بومدين)، طالب طِبّ سابق في باريس، يعود خلال فصل الصيف إلى مدينة سيت (فرنسا) بين ذويه، عائلة أصحاب مطاعم من أصل تونسي. تحيط به، أجساد الآخرين: -ابن عمه طوني، زير النساء، وصديقته أوفيلي، ولكن أيضا السائحتين المغتبطتين سيلين وشارلوت، يَتَدَفَّؤُون في الشمس ويستديرون في فوران شهواني.

تمجيد الأجساد

لكن أمين، الشاب الخجول والمتحفظ، يقف على أعتاب هذه الغراميات الصيفية، يداعب حلم أن يصبح مخرجا. تدور أحداث القصة عام 1994، هذا المنظور يلقي الضوء على سيرته الذاتية وعلى مقارباته ومراوغاته، ما بين الشاطئ والحانة والملهى الليلي.

يستثمر “كشيش” هذه الحبكة الشفافة على أفضل وجه لكي ينغمس في مشاهد لا نهاية لها (حَرْفِيّاً: لم يقرر قَطُّ إنهاءَها)، مشاهد رائعة بقدرتها على ترك الحبل على الغارب. من المؤكد، أن المخرج عَوَّدَنَا على جمالية الإنهاك، لكن هذه الجمالية تبدو هنا محررة من أي فكرة عن الأداء أو الإعادة أو الإصرار. ما يهمه هو المجال المفتوح على مصراعيه أمام الاندماج الاجتماعي، حيث يمزج إلى حد الارتباك بين العلاقات الأسرية والصداقة، والعلاقات الماجنة والعاطفية. لأن الفيلم في بساطته الظاهرية، لا يستكشف تعقيدات السلوكيات العاطفية التي تُسفر تدريجياً عن نفسها، بكونها شكلا من أشكال القسوة والفظاظة.

ما يلفت النظر هو الطريقة التي يغوص بها الفيلم بلا نَفَسٍ في جوهر الحاضر.

في مشهد مذهل، يلتقي فيه كل هؤلاء الأشخاص في حانة، يمزج كشيش العديد من الشخصيات والتبادلات والأحداث، إلى أن يُطَوِّعَ الرقصُ الأجسادَ ويقودها إلى حُمَّى النشوة. ما يلفت النظر هو الطريقة التي يغوص بها الفيلم بلا نَفَسٍ في جوهر الحاضر. حاضرٌ يخفف شيئا فشيئا فكرة السيناريو لإفساح المجال لشيء آخر: تواجدات بشرية خالصة تتحرك أمام الكاميرا، اندماج تام وإعجازي بين الشخصيات والممثلين – من بينهم “حفصية حرزي”، التي تم اكتشافها عام 2007 في فيلم “البذرة والبغل”. هذا الحد المتطرف من الحاضر يتطابق مع تمجيد الأجساد وبهائها وحيويتها.

منذ مشهد البداية، حين يفاجِئُ أمين أوفيلي وتوني يرتعان في خيانته، إلى اللقطات المتتالية في الشاطئ حيث تَنْفُضُ خيالات الأجساد عنها مياه البحر الأبيض المتوسط​​، يُعطي المخرج امتيازا لجمالية الأجساد الأنثوية (بالأحرى الممتلئة)، كما هو الحال مع استعراض عضلات الذكور (أحيانًا مكتسِحَة). هذا لأن فنّ كشيش يتغذّى من هذه الألياف التوَّاقَة الاستيهامية، التي تعتبر منبعَ بادرته كمخرج.

ولادة نظرة

قد يرى البعض في تكرار تركيز الكاميرا على الأجسام شكلًا من استراق النظر سيئ التوجيه، لكن يتعين أن نفهم أن أمين، البطل في الخلفية، يشغل موقع المتفرج مقابل الآخرين، إنه يمارس التصوير الفوتوغرافي ويشاهد منفردا كلاسيكيات السينما الروسية في غرفته. إن ما يوجد على المحك هنا هو ولادة نظرة عاشقة ولكن معزولة، وأحيانا شبقة، ممتلئة بالجمال الديونيسي dionysiaque للعالم من حوله، عالم يبقى أمين غير قادر على أن يسكنه كليّاً. لأن الفنان دائمًا ما يكون بجانب الحياة: ابتعاده كمراقب يفصله عن الآخرين.

لذا يمكن أيضا أن نرى فيلم “مكتوب يا حبي” (الذي يحمل عنوانا فرعيا: الفصل الأول Canto Uno، ما يعلن عن تتمة) بمثابة مجاهرة بالفن الشعري. إنه فيلم يسعى لربط الإبداع بحركات الرغبة، وربط الشهوة بالنظرة، وربط الحضور بالوضوح، وبالتالي ربط المادة بغير المادي. الرابط المجازي بين كل هذه الأبعاد هو الضوء، ضوء الزوال المشع الذي غمر أمين في بداية الفيلم.

هذا الضوء الذي يمجده القديس يوحنا والقرآن، في اقتباسين بارزين، يقال إنه ذو طبيعة مزدوجة، جسيمية ومتموجة. جسم واحد وموجة واحدة: إنه بدون أدنى شك أفضل تعريف يمكن منحه لفيلم كريم ومبهر مثل هذا الفيلم.

عن جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 20 مارس 2018

  • كاتب ومترجم-المغرب
Visited 296 times, 1 visit(s) today