مغامرات الفتى “تتّح”.. نصف ضحكة ورُبع فيلم!
فى كل مرة يقدم محمد سعد فيلماً جديداً، أعود تقريباً الى نفس الكلام الذى يبدأ بالتأكيد على أنه مشخصاتى موهوب، وأنه من نفس “قماشة” الكوميديان الراحل أمين الهنيدى، أحد أهم المرتجلين المصريين، لأنتهى بالإشارة الى أن معظم ما قدمه سعد، سواء كان مضحكاً أم سخيفاً، لا علاقة له تقريباً بهذا الشئ المركب المسمى “الدراما الكوميدية”، وأنه أقرب الى عروض “الفرجة الشعبية الضاحكة”، هذا هو بالضبط توصيف ما نراه كل عام من عرض الرجل الواحد، الذى يعتمد على شخصية واحدة، ومشاهد متتالية مصورة على شريط يعرض فى صالات السينما.
فيلم “تتّح” لا يخرج عن هذا التصنيف، الفروق عموماً بين تجارب محمد سعد فى الحقيقة ليست كبيرة، وكأننا أمام “باترون” يتكرر على النحو التالى : شخصية محورية يتفنن سعد فى تجسيدها، وتعتمد بالأساس على الأداء الحركى واللفظى والغنائى، وخيط رفيع وضعيف تسير عليه الشخصية يتجه بالضرورة الى العشوائية والتلقائية، مع انطلاق لا نهائى الى فنون الفرجة الشعبية التى تتنوع بين مقالب الأراجوز وفن القافية بل وحتى حركات السيرك، وكلها فنون تلامس المتفرج، ولعلها من الأسباب الأساسية فى تجاوب الجمهور مع سعد (وهو أمر مشهود وواضح)، ولكن لا علاقة لها بالدراما الكوميدية.
تتمايز التجارب فقط فى مدى ظُرف الشخصية المقدمة أو غثاثتها، وفى مدى نجاح سعد فى تقديم العرض أو فشله فيه، وفى مدى الصنعة أو التلقائية الفطرية التى شاهدتها عند سعد حتى على مسرح جامعة القاهرة، بخلاف ذلك فإنه من الصعب أن تتحدث عن أفلام متماسكة، هى فى الحقيقة مشاريع أفلام، أو رسم “كروكى” تسبح فيه الشخصية المحورية، ويبدأ منه العرض حول البطل الواحد.
المشكلة والمأزق
مرة أخرى، تبدو مشكلة سعد شبيهة بالتحديد بمشكلة ومأزق أمين الهنيدى، المرتجل العظيم، الذى عثر على نصوص قليلة جيدة، جعلها مدهشة بموهبته وارتجالاته، ثم عمل عى نصوص “أى كلام” معتقداً أنه يستطيع أن يكمل كل الثغرات، ويحل أزمة ضعف المعنى والمبنى، وكانت النتيجة أن الهنيدى انطفأ بسرعة صاروخية.
محمد سعد مازال مستمراً، موهبته قوية بلا شك، ولكن بوادر الوهن عبّرت عن نفسها بوضوح فى تذبذب مستوى الشخصيات التى يختارها، والدوران فى إطار نفس طريقة التناول، لدرجة أنك تسمع أحياناً فى فيلم “تتح” صوت شخصية سابقة قدمها سعد، ولا ينقذ العمل فى النهاية إلا تلك القدرة الهائلة لدى سعد على الإضحاك، ولكن الإضحاك شئ، وفن الكوميديا أمر آخر أكثر تعقيداً.
“تتّح” لا يوجد فيه سوى هذه الشخصية الغريبة، بائع جرائد فقير لا يختلف عن الشخصيات العشوائية المهمشة التى لعبها سعد (من اللمبى الى عوكل وغيرهما )، والتى يشترط فيها الغرابة فى كل شئ من الاسم الى طريقة الكلام والمشى بل وحتى الموقف المحورى الذى تنطلق منه الأحداث، ولا نقول الدراما، يقولون إن هناك نص يشتغل عليه سعد فى أفلامه، ولكننا لم نقرأ النصوص، وإنما ننقد الفيلم كما يظهر على الشاشة.
ما رأيناه فعلاً ليس إلا نصف ضحكة، بمعنى أن مستوى الضحك فى الفيلم يعلو ويخفت حسب ارتجالات سعد، وما رأيناه هو بالكاد، وبكثير جداً من التسامح، هو مجرد “ربع فيلم”، أو شروع فى كتابة، وريقات متناثرة باهتة، بل إن حبكة العمل كله تبدو وهمية، الصراع أيضاً وهمى لدرجة أنك تنسى أصلاً، بسبب التفريعات، ما هى المشكلة الأساسية، ناهيك بالطبع عن الفبركة والاستسهال والاستخفاف والعبثية التى تظلل كل شئ.
الهدف هو أن يقدم سعد عرضه الشعبى المتواصل، لا يهم القفز فوق الدراما لأنها غير موجودة من الأساس، وبالتالى لا يوجد أى خضوع لمبدأ أن المشهد الفلانى يقودك الى المشهد العلانى، لدرجة أنك تستطيع بسهولة أن تقدم وتؤخر كيفما تشاء، ولدرجة انك تستطيع من خلال هذا “الكروكى” أن تذهب بالبطل الى القمر مثلاً دون أى دهشة، الحقيقة أن العروض الشعبية تتميز فعلاً بهذا التدفق المرتجل الواضح.
الغريب أنه كان من الممكن بسهولة عمل حبكة بسيطة تتيح لأى مضحك أن يقدم للجمهور ما ينتظره منه، هكذا كانت تصنع معظم أفلام نجوم الكوميديا فى زمن الأبيض والأسود، ومع ذلك تظل هناك معالم فيلم متماسك للغاية، ستجد ذلك حتى فى أكثر الأفلام المصرية ثراء بمفردات عروض الفرجة الشعبية على الإطلاق، حتى يومنا هذا، وهو الفيلم الهام “لبلب وعنتر”، أما تجربة سعد فقد ارتبطت منذ بدايتها مع سينما السبكى، التى تمتزج فيها الكثير من عناصر العشوائية سواء فى الكتابة أو فى التنفيذ والمونتاج.
غنوة وبسمة ولعبة
لماذا نذهب بعيداً ولدينا المولود الجديد لتعاون سعد/ السبكى وهو “تتّح”؟ الفكرة بسيطة، ولو وقعت فى يد أبو السعود الإبيارى لصنع منها فيلماً كوميدياً بسيطا لاسماعيل ياسين، ولكن انظر ماذا رأينا على الشاشة بعد تنفيذ سيناريو تقول العناوين أنه من تأليف سامح سر الختم ومحمد نبوى.
الشخصية العشوائية الفقيرة التى توزع الجرائد، يمكن أن يسعفها الحظ بأن تحقق الثراء، فتخرج من أزمتها، ولكن السيناريو يقوم بفبركة حكاية عجيبة مضطربة للغاية، لمجرد أن يتيح لبطله الإنطلاق بين الضحك والغناء واللعب أحياناً، وباستطرادات غريبة تستخف بالعقول.
البائس “تتح” فاشل حتى فى توزيع الجرائد، عالمه محدود، معظم وقته يخصصه لرعاية ابن اخته الشاب “هادى” (عمر مصطفى متولى)، لا نعرف الكثير عن “تتّح” سوى أنه فشل فى الإلتحاق بالجامعة، ويريد لابن اخته أن يكمل تعليمه، فى عالم “تّتح” أيضاً جارة تتحرش به (مروة)، والدها جزار صاحب العمارة (سيد رجب)، وأمها امرأة شرسة (هياتم)، يبدو بطلنا أقرب الى الكارتون المتحرك بمشيته وبلسانه الممدود وبنطقه الأبتر للحروف على طريقة اللمبى، نموذج آخر مهمّش يمشى بجوار الحائط، لدرجة أنه يتنازل عن شقته، وينتقل الى شقة أخرى فى السطوح، لمجرد أن يأكل “لحمة ضانى”.
مروة
رغم المبالغات الكاريكاتورية التى أصبحت من لوازم سعد، إلا أن هذه الشخصيات، والحارة نفسها، يمكن أن تجد أصلها فى أفلام الأبيض والأسود، أى أن البداية يمكن تطويرها الى حبكة بسيطة للغاية، تستوعب ضحك ولعب سعد، ولكن الفوضى تعصف بكل شئ عندما يفبرك الفيلم عملية إلقاء القبض على “تتح” أثناء بيعه الجرائد داخل الحرم الجامعى، كل ذلك لكى يقابل جاره الغامض فكرى (سامى مغاورى)، فيأخذه الى مغامرة عبثية تماماً.
أصارحكم القول أننى عملت عقلى بعقل أصحاب الفيلم، وحاولت أن أستوعب الحبكة الموهومة، فاصابنى الصداع النصفى، , وأشك أن “تّتح” نفسه قد فهم شيئاً، يقول الجار الذى كان “تتح” يظن أنه شاذ جنسياً، أن لديه قصة غريبة، أولا هو ليس اسمه فكرى، وإنما سلطان، ثانيا: لقد نجح فى تكوين ثروة هائلة تقدر بسبعة ملايين جنيه من المضاربة فى البورصة (أى والله قال له ذلك)، ولكن الطباخ المليونير (!!) تعرض للنصب من رجل آخر استطاع أن يأخذ عليه أوراق وكمبيالات.
المطلوب أن يقوم “تتح” باسترداد هذه الأوراق، وبالتالى حصول فكرى ،الذى هو سلطان، على ملايينه السبعة، على أن تكون مكافأة “تتح” 2 مليون جنيه، ولكن الأوراق عند فتاة اسمها أميرة (دوللى شاهين)، هى قريبة النصاب، ومع ذلك، فقد تعاطفت مع الطباخ المليونير من باب الإنسانية!
تصوروا أن تتكدس هذه المعلومات العبثية فى مشهد مفبرك داخل السجن، لينطلق سعد بعد ذلك فى محاولة الحصول على الأوراق من أميرة، ولأنه حصل على أرقام من سلطان، يبدأ فى تجربة حظه عشوائياً معتقداً أنه وصل الى الشخصية التى تمتلك الورق، فى نفس الوقت الذى يقوم اقارب أميرة باختطافها لمنعها من منح الورق للفتى “تتح”!
كل هذا العك، وكل هذه الخيوط البائسة، ليس لها أى هدف سوى أن يقابل سعد المغنية الشعبية بوسى فيغنى معها فى فرح ريفى، ويلقى خطبة عن خطورة تزويج البنات فى سن صغيرة، ثم يلتقى الكوميديان المخضرم سمير غانم ليقدم معه اسكتشاً آخر،ثم ينجح فى إحباط عملية سرقة أحد البنوك فى مركز تجارى كبير، فى كل مرة يريد الورق، فتدفعه الأحداث الى ورق من نوع آخر، وبمفارقات تدخل تحت بند العبط.
لايمكن أن تتحدث عن صراع من أى نوع، وإنما مشاهد منفصلة، حتى مختطف الفتاة (نبيل عيسى)، وجد نفسه يكرر الصراخ والجرى بلا معنى، الكاميرا دوما مع “تتح” الذى يتكلم فى كل شئ من الجمعية التأسيسية والإستفتاء الى الملابس الداخلية، وعندما سألوه :” ماذا تريد من مصر؟”، قال:” أنا مش عايز منها حاجة، أنا اللى باسأل.. هيّة اللى عايزة منى إيه؟”.
يظل الخط الوحيد المتماسك هو علاقة “تتح” ورعايته الأبوية لابن اخته رغم أن الشاب يمكنه العمل بسهولة لمساعدة نفسه، ربما يكون هدف المغامرة كلها القوا بأن المصريين يأكلون بعضهم بعضاَ، أو على حد تعبير سعد “كل واحد ماسك فى زمّارة الثانى”، ولكن ما علاقة ذلك بوصول تتح الى الثروة بخبطة عبيطة ساذجة بعد الحصول على مكافأته من الطباخ الثرى؟
لاشئ جديد فى تلاعب سعد بالألفاظ ، عبارة “الخال والد” مثلاً تتحول الى “الخال خالد” وهكذا، يبدو واضحاً فى كثير من المشاهد ارتجالات سعد سواء فى الحوار أو الحركة، بالطبع هو الذى يحدد إيقاع المشهد والفيلم كله، فى أحيان كثيرة، بدا كما لو أننا نشاهد شيئاً أقرب الى نسخة العمل الأولية، لابد أن هوس اللحاق بالموسم الصيفى وراء مجرد لصق المشاهد مع بعضها البعض، لدرجة أن الانتقال المتوازى بين تتح والفتاة المخطوفة ظل مثيراً للسخرية أكثر من إثارته للتشويق أو التوتر.
الى متى يستطيع محمد سعد مواصلة عرضه المنفرد؟ وهل ينفد جراب شخوصه العشوائية قريباً؟ أسئلة ستجيب عنها الأفلام القادمة، وإن كنت أعتقد أن عشوائية مرحلة ما بعد اختطاف الثورة المصرية، ستمنح العرض المنفرد مزيداً من الوقت الإضافى، سواء فى بحث الجمهور عن الضحك وسط زمن الإكتئاب الوطنى الذى تسبب فيه الإخوان، أو سواء فى عدم البحث عن منطق على الشاشة، لأن هذا المنطق غير موجود أصلاً فى الواقع المعاش.