“معركة تلو أخرى”:تحطيم أسطورة الأسلوب

أثار فيلم “معركة تلة أخرى” One Battel After Another للمخرج بول توماس أندرسون (2025) اهتماما نقديا واسعا. هنا محاولة لتقديم قراءة مختلفة.

 في الفيلم نحن نرى بوب الذي يقوم بدوره ليونارو دي كابريو، وكان ثائراً في شبابه ضمن جماعة تقاتل الظلم العنصرية تدعى (فرنش 75). بعد سنوات من المطاردات والتفجيرات، يقرر بوب الانسحاب ويعيش مع ابنته ويلا في عزلة. بعد اكثر من عقد من الزمن يعود ليظهر من جديد عدوه القديم الكولونيل لوكجا ويلعب دوره شون بن.

الكولونيل- شون بن- يبحث عن ابنته عبر الشرعية وهي بنفس الوقت ابنة بوب (ليوناردودي كابريو). تهرب ويلا وتلجأ الى ملاذ آمن في كنيسة على الحدود المكسيكية وتسكن في غرفة اسمها جناح “بانشوفييا”. يبدأ بوب سلسلة من المطاردات لانقاذ ابنته تنتهي بمواجهة مع الكولونيل لوكجاو (شون بن). في النهاية يتمكن بوب من إنقاذ إبنتهإ

 انه فيلم لاهث لا تتوقف فيه المطاردات والأحداث والمفاجآت.  ولكن أين بول توماس اندرسون بأسلوبه المتقن والعميق، حتى لنتساءل أين دانييل داي لويس الذي شكل علامة مميزة لافلام بول توماس اندرسون، الذي حل محله ليوناردو دي كابريوبكل. هل تخلى اندرسون عن أسلوبه أم أنه يخوض مغامرة جديدة في “بعد ما بعد الحداثة” والذي اصطلح على تسميته “الميتامودينزم”؟

شغلت ما بعد الحداثة الخيال السينمائي منذ الثمانينيات، عبر لعبة السخرية من الأنواع الفيلمية مثل أفلام الرعب والويسترن وأفلام العصابات وغيرها، وإعادة تدوير الأيقونات السينمائية المشهورة مثل الكونت دراكولا وفرانكشتاين على سبيل المثال، كما لو أنه احتفاء بالسينما من خلال سينما أخرى. وقد شكلت أفلام تارانتينو وويس أندرسون والأخوين كوين وحتى بول توماس اندرسون نفسه وآخرين قمة هذه المرحلة التي التي اعتبرت الاقتباس مصدر متعة وأساسا لتكوين الشكل السينمائي الجديد حينها.

بول توماس أندرسون في “معركة تلو أخرى” يشن حربا ضد الأساليب السينمائية. لا يكتفي باللعب داخل هذه المنطقة؛ بل يذهب أبعد. الفيلم يتحول إلى معارك متتالية يشنها ضد أعمدة الاساليب السينمائية من كبار المخرجين الى الايقونات الفيلمية، مُعلنًا بوضوح أن زمن السخرية واللعب الشكلي قد انتهى، وأننا دخلنا مرحلة ما وراء الحداثة (الميتاموديرنيزم)، التي تعيد شحن الاقتباس بالثقل الايديولوجي والبحث عن المغزى، حيث يبدو الاقتباس هنا ليس تقليدا أو تكرارا بل انتهاك لقداسة الأيقونة السينمائية وتحطيم أسطوريتها.

يخوض بول توماس أندرسون في هذا الفيلم سلسلة معارك متداخلة على المستويين السينمائي والفلسفي، كأنه يفتّش في الذاكرة البصرية عن لحظة ضائعة بين ماضٍ ثائر وحاضر مرتبك.

يبدأ الفيلم بتحية باهرة لأفلام الموجة الفرنسية الجديدة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، حيث تتدفق المطاردات داخل شوارع تكتظ بالمارة والسيارات، وتنتقل الكاميراللاهثة فوق أسطح العمارات.

في استحضار لشبح أفلام تلك الفترة مثل “الصلة الفرنسية” و”رونين”. يبدو أندرسون وكأنه يحتفي بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية، ومع ذلك يوجه فجأة النظر إلى فيلم “معركة الجزائر”، ليذكّر المشاهدين بالإرث الاستعماري لفرنسا، فاتحا جرحا في ذاكرة المشاهد. اذ يظهر في الفيلم، عبر شاشة تليفزيون، مقطع من فيلم معركة الجزائر للمخرج جيلو بونتيكورفو.

هذه الاستعارة تتجاوز مجرد الإحالة السينمائية الى حالة التناوب بين السلب والإيجاب في تناول التاريخ؛ إنها نقد لـ “الأصل” الثوري نفسه واحتفاء به في نفس الوقت. ولا يكتفي بهذه الإشارة الفرنسية في الفيلم، إذ ينتمي ليوناردو دي كابريو إلى خلية ثورية تحمل اسم “فرنش 75″، وهو اختيار ليس اعتباطيًا بل مشحون بالدلالات التاريخية والجمالية.

يشير الاسم إلى المدفع الفرنسي الشهير والذي أصبح رمزًا للسرعة والدقة والمفاجأة في القتال أثناء الحرب العالمية الأولى. ان “فرنش 75″، مجموعة تحمل رمزية قتال الماضي لكنها تعيش في حاضر مرتبك تمامًا كما كان المدفع الفرنسي الشهير، حديثا في زمنه، لكنه أصبح قديما وعفا عليه الزمن الآن.

 في تلك اللحظة، لحظة “معركة الجزائر”، يتوقف الاقتباس عن كونه مجرد تذكير سينمائي، ليتحول إلى إعلان نهاية زمن وبداية زمن جديد؛ انتقال من سينما تُطارد السلطة في الشوارع إلى سينما تُطارد الحقيقة في الوعي. وكأن أندرسون يقول إن المعركة لم تعد في الأزقة والأسطح فحسب، بل في المعنى ذاته: من يملك السرد هومن يكتب التاريخ.

ان أكثر ما يثير الانتباه في طريقة الاقتباس داخل الفيلم هو أن أندرسون لا يعود إلى أرشيف بعيد، بل يقتبس من أعمال لا تزال طازجة في ذاكرة المشاهد، من تارانتينو وويـس أندرسون إلى تراث سيرجيو ليوني. لكنه يفعل ذلك لا بوصفه احتفاءً بأيقونات السينما، بل بوصفه تحطيماً لأسطورة الأسلوب التي جعلت من هذه الأسماء علامات تجارية يمكن التعرّف عليها فوراً.   

الصدام الأول والأكثر إثارة يأتي عبر شخصية “بوب” ليوناردو دي كابريو. يظهر دي كابريو في الفيلم بدور الثوري الذي فشل، لكن صورته تستحضر فورًا ظل شخصية “ريك دالتون” من فيلم تارانتينو “حدث ذات مرة في هوليوود”. هذا التنافر هو مفتاح “المعركة” التي يشنها أندرسون ضد تارانتينو كرمز لـ ما بعد الحداثة. بينما كانت أزمة ريك دالتون (الذي لعب دوره دي كابريو) انه يواجه فشلا مهنيا كممثل وينتصر في النهاية بعد سلسلة افلام ويسترن إيطالية. تلك الافلام التي اشتهرت باسم الويسترن الاسباغيتي وكان من أعمدتها سيرجيو ليوني المخرج الايطالي العظيم الذي اسس لما يدعى بالمبارزة المكسيكية والتي اقتبسها سيرجيو ليوني من معارك الساموراي في افلام كوروساوا كما ادعى المخرج الياباني الشهير، ربما لذلك تجد مشهدا غريبا في فيلم “الطيب والشرس والقبيح” إذ أن أحد أبطال الفيلم يظهر وهو يتمرن باطلاق النار على دمى ساموراي. في حين تأتي شخصية بوب (دي كابريو) كثوري فاشل يستعيد انتصارته من خلال ابنته التي تمثل الجيل الجديد.

إن شخصية دي كابريو في “معركة تلو أخرى” تمثل فشلًا ثوريًا وتاريخيًا ذا ثقل أخلاقي لا يمكن تداركه. بوب وهو نسخة بعد ما بعد الحداثة لريك دالتون. في حين يظهر في فيلم تارانتينو ان المهمشين هم الأبطال الحقيقيون بمعنى الممثل البديل هو البطل الحقيقي الذي لعب دوره براد بيت، يذهب بول توماس بعيدا فالبطل الحقيقي هم الجيل الجديد؟

تتجه المعركة ضد الأسلوب البصري المتطرف عبر مشاهد بينيسيو دل تورو، التي تستعير بوضوح ملامح ويس أندرسون. في المشاهد التي يظهر فيها بينيسيو دل تورو. وهو أحد الوجوه التي رسّخت عالم ويس أندرسون، يُدرج بول توماس أندرسون “الأسلوب الأندرسوني” داخل عالمه.

يفكّك توماس أندرسون أسلوب ويس أندرسون كما لو أنه يفتح علبة سردين مصفوفة بعناية مهووسة. يرفع الغطاء، يحرّر السمكات من تناظرها القسري، ثم يعيدها إلى الماء حيث تتحرك بلا هندسة ولا تماثل. هكذا يكشف ان جمال الصورة لا يولد من ترتيبها، بل من انفلاتها من العلبة. لكنّ الهدف ليس السخرية، بل الاحتواء.

بول توماس أندرسون لا يهاجم شكل العلبة، بل يكشف فراغها ويبيّن أن جماليات ما بعد الحداثة، التي تراهن على الأناقة والترتيب وتناسق الأسماك داخل العلبة المعدنية، تتحوّل إلى عبء بصري إن خلت من روح تدفعها للسباحة. حين يمدّ يده إلى السردين المصقول ويضعه خارج نظامه، يثبت أنّ الشكل وحده لا يكفي؛ وأن التناظر، مهما كان جذّابًا، يمكن أن يصبح استنزافًا بصريًا حين يكرّر نفسه بلا نبض. بهذا الاحتواء المقصود، يعلن بول توماس أندرسون أن الموجة التي كان فيها الشكل هو الرسالة قد انطفأت، وأن الوقت حان لعودة الماء… لا لامتلاء العلبة.

عندما تلجأ ويلا ابنة بوب وابنة الكولونيل شون بن الى كنيسة في الجبال، تسكن في غرفة “بانشوفيّا” التي تحمل اسم القائد الثوري المكسيكي، يتحوّل المكان إلى استدعاء صريح للجرح الحدودي بين أمريكا والمكسيك.

التاريخ هنا لا يعمل كمرجع سينمائي فقط، بل يتسرّب إلى التجربة العاطفية للمشاهد؛ يفرض نفسه كقوة رمزية تُعلن أن الاقتباس يجب أن يستعيد معناه السياسي والوجودي المفقود. غرفة بانشوفيّا تتحول إلى خلفية نضالية، ظلٌّ ثوري يرافق لحظة الانكسار، وكأنّ المكان نفسه يذكّر الشخصيات بأن الماضي أكبر من ضعفها.. ونذكر هنا فيلم سيرجيو ليوني عن الثورة المكسيكية. “حدث ذات مرة في المكسيك”. لكن السخرية تكمن في ان ويللا اودعت في غرفة “بانشوفيا” كنوع من العقاب على روحها المتمردة.  

في مشهد يلاحق الكولونيل (لوكجاو) الذي يلعب دوره شون بن، ويللا ابنة بوب التي هي ابنة الكولونيل لوكجاو غير الشرعية، يبني أندرسون المواجهة بين الكولونيل (شون بن) وابنته على نحو يستعيد عناصر المبارزة المكسيكية الكلاسيكية كما رسّخها سيرجيو ليوني: لقطات مقرّبة مشدودة للوجوه، تنفّس متقطّع، صمت يضغط الهواء، وتوتّر يتصاعد كما لوأنّ طلقة خفيّة تستعد للانفجار. الإضاءة الحادّة والظلال القاطعة تعيد مباشرة ذكرى مواجهة رامون روجو، لعب دوره الممثل الايقوني جان ماريا فولونتي.

في افتتاحية فيلم سيرجيو ليوني الأشهر “من أجل حفنة دولارات”؛ تقف الضحية شاب مرتبك، لا يعرف متى يتعين عليه ان يطلق النار. يفتح رامون روجو الساعة الموسيقية ويجعل الشاب المرتبك ينتظر لحنها الأخير كأنه ينتظر حكمًا سماويًا. وحين يتوقف الصوت فجأة، يسبقُه رامون برصاصة واحدة نظيفة تنهي المبارزة قبل أن يبدأ الشاب حتى في رفع مسدسه. والشاب يسقط أرضًا كما لو أن الموسيقى هي التي أسقطته. مشهد الكنيسة في “معركة تلو اخرى” مصمّم كمبارزة، لكنه يُحسم بالكلمات لا بالرصاص.

 أندرسون يعيد كتابة قواعد المبارزة المكسيكية: البنية ليونية (سيرجيوليوني)، لكن النتيجة عاطفية… رصاصة بلا سلاح. أندرسون يكسر تقليد سيرجيوليوني ، ليقول إن الأسطورة يجب أن تبحث عن صدقها في الجرح التاريخي، وليس في التضخيم الأسطوري.

تأتي شخصية الكولونيل لوكجاو الجمهوري المأزوم (شون بن) لتكون السلاح النهائي في هذه المعارك. بعد أن يتعرض لحادث سيارة قاتل يتحول الى هيئة الترمناتور بهيئته الآلية الخالية من العاطفة وحركته الميكانيكية. جسد مُنهك وتالف لكنه يواصل العمل بآلية مُرعبة. تماثل تماماً انبعاث المدمر ارنولد شوارونيجر في نهاية فيلم (ترميناتور1) لجيمس كاميرون؛ ورغم هذا التحوّل الهجين، لا تأتي نهاية الكولونيل لوكجاو عبر مواجهة بطولية، بل عبر غاز سام أكثر طرق الموت اللا سينمائية الممكنة. وهنا يلمّح بول توماس أندرسون بذكاء إلى أنّ العنف السياسي، مهما تدثّر بهياكل أسطورية، ينتهي غالبًا بطريقة باردة، بيروقراطية، بلا بريق.

فهم أندرسون أن الجمهور تغيّر، أن ملايين المشاهدين باتوا يرون الفيلم بأذنيهم يشاهدون أثناء التصفّح، يستمعون كما لو كانت التجربة بودكاست، يبحثون عن المغزى النهائي لا عن الرحلة نفسها. السوشيال ميديا وألعاب الفيديو أعادت تشكيل الثقافة البصرية للجيل الجديد، وأندرسون يكتب فيلمه وفق هذه الحقيقة، لا ضدها.

يجمع أندرسون كل هذه الطبقات ليقول شيئًا بسيطًا، انتهى زمن الاقتباس كلعبة شكلية، وبدأ زمن الاقتباس كجراحة في ذاكرة العالم، استعادة لمعنى الجرح الإنساني، والتاريخ الشعبي.

|معركة تلو أخرى” ليس فيلمًا يحتفي بالموروث السينمائي، ولا فيلمًا يسخر منه، بل عمل يعلن أن العالم أصبح خليطًا متشظّيًا، فيلم يريد أن يكون “شيئًا من كل شيء” ، وهو بذلك يشبه زمنه أكثر مما يشبه أسلافه. والشئ بالشئ يذكر جدير ان نشير هنا الى ان المخرج الشهير كريستوفر نولان قال عن فيلمه المنتظر “الاوديسة” انه فيلم فيه شئ من كل شئ. ربما أيضا سنرى بودكاست تاريخي ملحمي.

بول توماس لم يحسم أمره في هذه المعارك، ولكنه يفتح الباب أمام معركة جديدة تخوضها ابنة لوناردودي كابريو ويللا مع أصدقائها من الجيل الجديد بدون أيديولوجيا وبدون أيقونات، كنسخة عابرة للهوية، مدفوعين بشعور البحث عن “قدر إنساني” مشترك.