محاورات في السينما: مقدمة الكتاب

من واقع خبرتي الطويلة في التعامل مع السينما ومشاهدة الأفلام ودراسة أعمال المخرجين ومتابعة مساراتهم وكيف تطوروا وأصبحوا على ما أصبحوا عليه، يمكنني القول إن بعض الأفلام لعبت أدوارا أساسية في حياة مخرجيها، خصوصا أفلامهم الأولى التي لفتت الأنظار إلى مواهبهم، ومنها انتقلوا بعد ذلك إلى توسيع مجال رؤيتهم، وإن ظلت أفلامهم الأولى دائما في الأذهان، وتوقف امامها النقد طويلا وظل دائما يعود إليها وينطلق منها لتحليل وفهم أعمال أصحابها.

هناك أفلام أخرى يمكن وصفها بـ “المفصلية”، أي أصبحت من العلامات البارزة في مسيرة مخرجها، سواء لأنها مثلت “نقلة” في مسيرة المخرج، أو أثارت من حولها الكثير من الجدل والخلافات بل والاتهامات أحيانا. ولكن كما أن للمخرجين أعمالا أصبحت محفورة في الذاكرة، هناك أيضا لدى الناقد محطات بارزة في مسيرته النقدية، ساهمت في تشكيل رؤيته، في سياق حركة الجدل المستمرة بين النقد والسينما، أو بالأحرى، بين الناقد وصناع الأفلام. ولعل أفضل ما يعبر عن تلك “المحطات”، ما توقف عنده في الماضي، الناقد في حواراته مع المخرج، التي أفضل أن أطلق عليها “محاورات”. فهي لم تكن مجرد سؤال وجواب، بل تفتيش في وعي المخرج وطرح التساؤلات التي تكمن فيها أيضا بعض الأفكار والآراء التي تسعى إلى استدراج المخرج المتحاور معه لكي يكشف لنا عن فكره الخاص، وكيف كان يرى السينما والناس والدنيا والعالم وهو يصنع فيلمه.

في هذا الكتاب جمعت عددا من المقابلات التي أعتبرها “تاريخية”، ما نشر منها وما لم يسبق نشره، مع عدد من المخرجين العرب والأجانب، منهم من كانوا في ذروة عطائهم وقت التحاور معهم، ومنهم من كان في بداية طريقه قبل أن يمضي ليحفر اسمه بقوة على خريطة السينما في العالم. إلا أن هذه المقابلات لا تنطلق من فراغ أو في المطلق، بل تستند بالدرجة الأساسية، على أفلام محددة ثار من حولها الجدل وقت ظهورها. لذلك فقد رأيت أن أقدم للمحاورات مع مخرجيها، بتسليط الضوء على تلك الأفلام وظروف عرضها وأين شاهدتها، وطبيعة الجدل الذي ثار حولها. وغالبية هذه الأعمال، وبالتالي المحاورات التي يضمها هذا الكتاب، تعود إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. لذلك فهي تكتسب بالضرورة قيمة “تاريخية”، خصوصا وأن الكثير ممن حاورتهم من كبار المخرجين غادروا حياتنا بعد ذلك مثل كمال الشيخ وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف الطيب ومحمد كامل القليوبي وهشام أبو النصر ونبيل المالح وديزيريه إيكاريه ونبيهة لطفي وعطيات الأبنودي ورفيق الصبان وآسيا جبار. وبالتالي تعتبر المحاورات المنشورة هنا معهم شهادة ذات طابع تاريخي يمكن الاستناد عليها في فهم طبيعة عمل هؤلاء المخرجين وكيف كانوا يعبرون عنها بالحديث.

ومن الذين حاورتهم أيضا مخرجون آخرون مازالوا على قيد الحياة متعهم الله بالصحة والعافية وطول العمر، إلا أنهم انتقلوا بعد مقابلاتي معهم إلى آفاق أخرى، صنعوا ما استطاعوا من أعمال متميزة أو توقفوا عن العمل للسينما. ولعل من النماذج التي يمكن التوقف أمامها طويلا والتي حاورتها في الماضي، المخرج التونسي نوري بوزيد الذي كان الحوار معه وقت ظهور فيلمه الأول “ريح السد” الذي حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج السينما عام 1986 وأحدث هذا الفوز دويا هائلا وأثار الكثير من المناقشات والخلافات.

ويجب الإشارة إلى أن دورة مهرجان قرطاج في ذلك العام، كانت دورة حافلة بالمشاكل والاضطرابات والجدال، امتدت جميعها إلى أعمال أخرى ومخرجين آخرين، ومنهم على سبيل المثال المخرج ديزيريه إيكاريه الذي حاورته وقتها وأضفت محاورتي معه إلى هذا الكتاب مع تقديم لطبيعة المشكلة التي تعرض لها فيلمه. ويجب أن أشير أيضا إلى أنني وضعت تواريخ نشر المقابلات أو إجرائها، وحددت أماكن نشرها كلما أمكن بالطبع، لدقة التوثيق.

لقد قصدت من نشر هذه “المحاورات”، ليس فقط الحديث عن الأفلام ومغزاها وما يكمن خلفها من أفكار ورؤى في زمن ظهورها، بل لعل الهدف الأساسي الذي أسعى إليه، هو تسليط الأضواء على عصر مضى، لم يعشه ويحتك به ويتعرف عليه عن قرب بطبيعة الحال، شبابنا من عشاق السينما والنقاد والمخرجين الشباب، الذين أظن أن من المفيد لهم الاطلاع على ما مضى وما كان من أفلام ومعارك وحوارات شكلت صورة عصر من عصور السينما في العالم العربي والعالم.

في هذا الكتاب محاورات مع مخرجين من مصر وسورية والجزائر وتونس والمغرب وفلسطين وساحل العاج وموريتانيا وإيران وبريطانيا. وأود أن أشير بصفة خاصة إلى المحاورة الاستثنائية التي أجريتها مع الكاتبة والمخرجة الجزائرية المرموقة آسيا جبار في عام 1981، وكنت وقتها أقيم وأعمل في الجزائر، وكان لقائي بها عن طريق صديق مشترك هو الذي كان له الفضل في جمعنا معا، وقت أن كنت في بدايات وجودي في الجزائر التي كانت تعيش عصرا شديد الاختلاف بالطبع، عما هو قائم اليوم.

وكما كانت المحاورة مع آسيا جبار ممتعة وثرية وتعلمت منها شخصيا الكثير في وقت مبكر، كذلك كانت مقابلتي مع الممثلة والمنتجة البريطانية المرموقة فانيسا ريدجريف التي أسرتني بثقافتها الرفيعة وحسها الإنساني الراقي وإجادتها التعبير عن أفكارها بلغة سلسة بديعة، وهو ما يتضح من خلال الحوار المنشور في هذا الكتاب. أما المحاورة مع الإيراني محسن مخمالباف فكان لها وقع خاص، كون هذا المخرج تحديدا انتقل من التعصب والتشدد الديني وتأييد الديكتاتورية في بلاده، إلى مخرج معارض، يقيم في الخارج، يصنع أفلامه بعيدا عن الرقابة المشددة، واجه غير مرة كما أخبرني، خطر الاغتيال بعد أن شعر النظام الإيراني بخطورة ما يقوله ويصنعه.

لا يسعني في النهاية سوى أن آمل في وصول هذه السلسلة من المحاورات إلى قارئها الطبيعي من شباب السينمائيين وهواة السينما والباحثين، لعله يساهم في توسيع دائرة النظر إلى أعمال المخرجين من عالمنا.

الكتاب متوفر حاليا في مكتبة تنمية، ومكتبة مبتديء، ومكتبة آفاق في وسك القاهرة، ومكتبة آدم بسنتر المعادي والشيخ زايد.. ويكن طالبه أيضا بالتليفون من الأستاذة نايدة مؤمن: تليفون: 01005224004

Visited 44 times, 1 visit(s) today