“مانجاهي” أو “رجل الجبل” للمخرج الهندي كيتان ميهتا


السينما الهندية ليست سينما بوليوود فقط، وإنما سينمات متعددة ومتنوعة حسب تنوع وتعدد الولايات المشكلة للإتحاد الهندي، ولايات لها لغات وثقافات وفنون تتميز عن بعضها البعض، مثلما لها سينماها المختلفة، سينمات بإنجازات كبيرة وأسماء فنية وتقنية خالدة ، في هذا الإطار، يمكننا الحديث عن سينما ولاية كوجرات وسينما ولاية  بيهار وسينما ولاية البنغال وسينما ولاية  أوريسا وسينما ولاية تاميل نادووولاية أوتار براديش وغيرها من السينمات.

 الجمهور العربي، ومعه الكثير من الجماهير السينمائية العالمية، لا يميز بين هذه السينمات رغم تنوعها وإختلافها، وينسب كل إنجازاتها وأفلامها لأستوديوهات بومباي، معتبرا أنها سينما هندية واحدة موحدة، سينما الرقص والغناء والنجوم والقصص الميلودرامية، غير عارف ( في الغالب الأعم ) بالسينمات التجريبية والطليعية والسينما الواقعية الجادة القادمة من استوديوهات أخرى، كأستوديوهات بنغالور وشيناي وبتنا وكالكوتا، سينمات صنعتها أسماء كبيرة كساتياجيت راي ومارينال سين وأدور غوبالا كريشنان وأوبطالندوشاكرابورتي وريتويك كاطاك، لكن قوة يوليوود تتمثل في إمكانياتها الضخمة، وهيمنة منتجيها الكبار على السوق، مما جعلها تستقطب بشكل متواتر السينمائيين المنتمين للولايات الأخرى ومنهم بعض المخرجين المذكورة أسماءهم أعلاه، وجعلهم في خدمة السينما الهندية الصادرة من الأستوديوهات الضخمة لعاصمة الإقتصاد والفن والمال بومباي.

مناسبة القول، مشاهدة الشريط الجديد “مانجي” أو (رجل الجبل) للمخرج الكوجراتي كيتان ميهتا، صاحب السيرة السينمائية الغنية والإنحازات الفيلمية العديدة، الحاصل على الجوائز العالمية القيمة، جوائز ولاشك ستتعزز أكثر، عند تقديم هذا الشريط في المهرجانات الدولية ( الفيلم إنتاج سنة 2015 ). نظرا لأبعاده التقنية العالية، وقصته الإنسانية العميقة، قصة قروي ( لعب بطولته بكل اقتدار الممثل نواز الدين صديقي ) يتحدى الطبيعة والمجتمع ويقرر شق طريق،وسط جبل صخري وعر،”للإنتقام منه”، لأن وعورته كانت سببا في موت زوجته ( لعبت دورها الممثلة راديكا أبت )، وأيضا لتسهيل تنقل أبناء قريته نحوأقرب مركز حضري، الذي  لا يبعد بأكثر من أربع كيلومترات، بينما حاجز الجبل يجعل هذه المسافة تمتد وتطول لأكثر من أربعين كيلومترا.

قصة واقعية

رجل فقير، من طبقة دونية، يبيع عنزته الوحيدة، ويشتري مطرقة حديدية وإزميل، ويبدأ في كسر الحجارة وتفتيت الصخور، تحت وابل من السخرية والاستهزاء، سخرية واستهزاء أهل القرية، بما فيهم والده، حيث يعتبرونه رجلا مجنونا فاقدا للعقل وروح المنطق، سينتهي به المطاف إلى الموت، تحت حر الشمس وتعب الحفر،  لكن إيمان الرجل بقضيته وتصميمه على رفع التحدي، سيجعل منه بطلا بعد أعوام طويلة من الإصرار على ممارسة جنونه، والكد والمجابهة والمواجهة مع المحيط والسلطة الآثمة، التي تقدم وعودا  ولا تفي بها، وملاك الأراضي الجشعين المتآمرين مع رجال السياسة الفاسدين، لكن الإرادة والعزيمة تنتصران في النهاية، ويتحقق حلم رجل قروي ضعيف، في رسم معالم طريق صالحة لمرور الراجلين والعربات المجرورة والسيارات.

قصة واقعية مأخوذة عن حياة “داشرات مانجي”، قروي بئيس، تحدى الصعاب ولبس لبوس القادة التاريخيين للهند، خاصة منهم الزعيم التاريخي المهاتما غاندي، الذي إستلهم منه روح الصبر، والتقشف ولبس الخيش، والإشتغال بكل جد في الحفر  وكسر الصخر، لأكثر من إثنين وعشرين سنة، وإبداع أشكال نضالية غير مسبوقة في الإحتجاج، بل والمسير مسافة 1300 كيلومتر مشيا على الأقدام، نحوالعاصمة نيودلهي  بعد ان حاولت سلطات ولايته منعه من متابعة عمليات الحفر، ليقف رفقة جموع من المواطنين والحقوقيين المساندين له، أمام القصر الرئاسي، محاولا إبلاغ صوته لرئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي.

المخرج كيتان ميهتا، وهويحكي لنا قصة “داشرات مانجي”، المناضل المكافح الذي أنذر نفسه لتحقيق هدف هزم جبروت الجبل، ومعه جبروت الإستغلال الديني والإجتماعي والسياسي، إنما كان يحاكم / يحكي لنا عن هند ما بعد الإستقلال (القصة تنطلق فصولها سنة 1958)، الهند المهمشة البعيدة و المتروكة لمصيرها البائس، الهند الرازحة تحت ضغط التعاليم الدينية الهندوسية، الواضعة لحواجز قاسية بين الطبقات، الهند الغارقة في التقاليد المجتمعية الظالمة، وهيمنة الرؤى السياسية القاصرة، المنتصرة لفوضى الرشوة واستغلال النفوذ وقمع الإحتجاجات.

الأسلوب السينمائي المعتمد في حكي فصول بطولات “داشرات مانجاهي”، جاء وفيا لخطاطة السينما الواقعية، أساسا الواقعية التاريخية السيرية، من حيث الإلتزام بالخطية الزمنية (رغم وجود بعض فلاش باكات)، والإعتماد في الحكي، على حقائق حياتية، لرجل عاش وحقق مسار كفاحي متفرد لحين موته سنة 2007 ، راويا لنا، سيرته النضالية، كما نشرتها الصحف الهندية، ووثقها لوح معدني مثبت عند مدخل الطريق الذي شقه في الجبل.

استفزاز الجمهور

وإن كان الفيلم واقعيا مباشرا في سرد الوقائع، فإن المخرج لم يتورع عن استفزازنا ودفعنا للتفكير، بوضع بعض الرموز الفيلمية الدالة أمام أعيننا، رموز تدين الواقع بشكل مجازي بليغ، مبتعدة عن الخطابة الفجة والشعارات المباشرة، فالجبل الشامخ بقمته العالية وصخوره الصلبة المسننة، العصية عن الكسر، رمز للسلطة السياسية الرازحة بقوانينها الجائرة على صدور الهنود، سلطة يقف أمامها الإنسان الفقير الضعيف، عاجز عن التفكير في وسيلة لهدها ووضع حد لجبروتها، لكن العزيمة الإنسانية الخلاقة، قادرة على المواجهة وتحقيق الإنتصار. عزيمة يجب أن نستمدها من أبطال التاريخ، وشهداء المعارك، الرابحة أوالخاسرة، بل وربما في كثير من الأحيان، يجب أن نستمدها من أناس عاديين بسطاء، لكن يملكون أرواحا ثائرة متمردة، كروح هذا القروي الفقير  البئيس، الذي أمن بوطن حر متطور، آمن بقدرته على التغيير، رغم ظروفه الإجتماعية القاهرة.

بعد خروج الفيلم للقاعات السينمائية بالهند شهر غشت 2015، أثيرت حوله زوبعة نقدية تناولت بكثير من التفصيل، أبعاده الفنية والتقنية ، مع الإشادة برؤية المخرج الإخراجية والتنويه بمسألة الإهتمام بقصص الناس البسطاء الذين يكتبون التاريخ على طريقتهم الخاصة دون أن يلتفت لهم أحد. لكن جميع الكتابات، ركزت بشكل أكبر على نبوغ كيتان ميهتا في إدارة ممثليه، خاصة منهم، بطل الفيلم نواز الدين صديقي الذي لعب دور “داشرات مانجاهي”،  الذي قدم في هذا الفيلم أحد أهم أدواره على الإطلاق، حيث نجح في تقمص مختلف المراحل العمرية للشخصية الرئيسية، تقمص جعلنا في كثير من الأحيان، لا نحس أننا أمام ممثل، وإنما أمام شخصية واقعية، شخصية مؤداة بشكل منسجم ومتناغم لفلاح بسيط مقهور، لكن في نفس الآن، يحمل في داخله، ومن خلال ملامحه المرسومة بعناية، جمرة متقدة وقوة إنسانية لا تقهر.

على سبيل الختم

 حوار معبر ودال يدور في مشهد بليغ بين بطل الفيلم والصحفي، الذي جاء لإجراء تحقيق عنه، حوار يلخص لنا رسالة الفيلم، رسالة عنوانها الأمل وعدم الركوع أمام المحن، مهما كانت الصعاب كبيرة، حوار ننهي به قراءتنا ونهديه في نفس الآن للنفوس التواقة للمواجهة والمجابهة:

  الصحفي : لقد جئت لمعرفة ما تفعل، وفي نفس الآن،الهروب من عالم  السياسيين الذي لا يرحم، سأكتب عنك، وإن كنت أعلم أنهم لن ينشروا ما سأكتب.

  دارشنت مانجي : ( وهولا يتوقف عن الحفر ) : لماذا لا تنشئ جريدتك الخاصة بك، وتنشر فيها ما تشاء؟

الصحفي : صعب للغاية إنشاء صحيفة

 دارشنت مانجي: وهل إنشاء صحيفة أصعب من حفر جبل ؟.

Visited 192 times, 1 visit(s) today