“لو كان يطيحو لحيوط”: حين تُعبر الصُّور عن خراب الروح

محمد نورالدين أفاية

تتقدم جُل الأفلام التي قام المخرج حكيم بلعباس بإنجازها باعتبارها أفلاما تسْكُنها قضايا فكريَّة ووجوديَّة وإنسانيَّة تكشف عن مستوى لافت من التَّأمُّل والتَّفكير بواسطة السِّينما في النفس الإنسانية، ومخزونات الذاكرة، وفي المجتمع. فمنذ الأفلام القصيرة الأولى، مرورا ب”خيط الروح” (2003)، و”أشلاء”(2010)، و”شي غادي وشي جاي” ( 2011)، و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” (2012)، و”عرق الشتا” (2016) إلى عمله الأخير ” لو كان يطيحو الحيوط”، نحت هذا المخرج لنفسه رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ، وأسلوبا مميزا في التصوير والتركيب، ونمطا مخصوصا في بناء الصور والمشاهد والأصوات، وطريقة يُعبر عنها، باطمئنان كبير، في تدبير زمنيتها بواسطة المونتاج.

ولذلك يصعب علينا تصديق حكيم بلعباس حين يعلن أن ما يقدمه من أفلام هو نتاج نزوع عفوي يعرضه على المُشاهد بدون تفكير أو استعداد فكري وفني؛ أو أنه يتعامل مع موضوعاته وشخوصه بتلقائية تامة؛ لسبب بسيط هو أن للعفوية، في الإبداع الفني، حدود وتحتمل انزلاقات لا أحد يمكن توقع تداعياتها. فحكيم بلعباس يعرف، بخبرته وتجاربه، أنه يصعب في السينما التسليم بعفوية قبْلية طالما أن عملياتها تستدعي الانطلاق من فكرة، أو من رغبة، أو من قرار؛ ومن حرص مفكر فيه على توفير ما يلزم من عُدَّة تقنية، وتفكير مسبق في مَوْضَعَتها للتقاط الصور، واختيار زواياها. قد يحصل للمخرج أن يقتنص صورة بدون سابق تفكير، أو يثبت لقطة عابرة في سياق تشغيل الكاميرا، كما قد يوظف ممثلين غير محترفين، وهو ما جرى في العديد من أفلامه؛ لكن العمل السينمائي، مهما كانت معطيات الواقع المعروضة، يستدعي تصورا، وإرادة، وتدبيرا، وتخيلا، وجهدا فكريا وجماليا، بشكل بديهي.

قد يكون من المستحسن القول إن حكيم بلعباس توجهه حُدوس أكثر مما يتعلق الأمر بعفوية؛ وهنا تتخذ المناقشة بُعدًا مُختلفًا. ذلك أن الحدس كما سبق لهنري برغسون أن حدده، ليس مجرد عاطفة، أو إلهام، وليس انجداباً غامضًا نحو واقعة ما، أو معرفة مباشرة وبدون وساطة، وإنما هو “منهج” مفكر فيه بعناية، يَمتلك قواعد كفيلة بإنتاج ما تتطلبه الصور من دقة. ويرى برغسون أن الحدس يفترض الديمومة؛ بل إنه يحضر، بقوة، في مرتبة ثانية قياساً إلى الديمومة أو إلى الذاكرة. لذلك فإن ما قدمه حكيم بلعباس في فيلم ” لو كان يطيحو لحيوط”، يمكن اعتباره يدخل ضمن مسار إبداعي يجعل من الذاكرة، والحدس، والحنين، والزمن، وتمازج الواقع بالمتخيل موضوعا متموجا لفصول وأجزاء هذا الفيلم.

 من جهة أخرى، لا تكف أعمال حكيم بلعباس عن مواجهة السؤال المتجدد عن المتخيل والعلاقة بين الوثائقي والتخيلي؛ علما بأنه لا يفرق بينهما، ويعتبر أن التخيل يوجد في ثنايا الوثائقي حتى ولو كان أكثر التصاقا أو كشفا للواقع. ففي فيلم ” محاولة فاشلة لتعريف الحب” وفي غيره، استطاع بانسيابية لافتة المزج بين الوثائقي والتخيلي، ومن تركيب عمل سينمائي استطاع بفضله خلق المتعة والإفادة.

    وفي كل الأحوال فإن الصُّور السِّينمائيَّة التي يَصْقُلها حكيم بلعباس، في جُل أعماله، تقوم بترجمة المُتخيَّل، وتكشف عن مضامينه، وتخاطب المُشاهد، كيفما كان موقعه ودرجة انتباهه؛ وهو من أجل ذلك ينزع، خصوصا في فيلم “لو كان يطيحو لحيوط”، إلى ملامسة شذرات من واقع مُسْتحْضَر، أو حاضر ملفوف بإسقاطات التذكر، كما بنوع من الوفاء العجيب لِما مضى. هكذا قدم حالات إنسانية بواسطة عمليات نسج صور وأصوات معتمدا في ذلك على استثمار ما يشبه «نسقا ثقافيًّا» وخزان صور سمح له بصياغة معنى كثيف للمشهد البصريِّ لدرجة الغموض أحيانا، وبإبراز ممارسات اجتماعيَّة وثقافيَّة يصر بلعباس على عرضها والاحتفال بها.

     وقد وظف حكيم بلعباس عُدَّته السينمائية «للقبض» على بعض جوانب الإنساني في عيْنِيَتِه كما في هذيانه، ولا سيما في هشاشته الساحقة، كما يعرضها في “فصول” أو حكايات هذا الفيلم – والمخرج يكتب، في بداية الجينيريك، أن الأمر يتعلق ب “حكايات من ذكريات طفولة في مدينة صغيرة”-؛ حيث يعمل على ترتيب اللقطات، ونحت الصور، والاجتهاد لتأطير الأجساد والكلام، من أجل التَّعبير عن الوجدان، والأهواء، وعن المواقف المتنوعة اتجاه الذَّات والوجود والمجتمع والآخر والأسطورة والغيب.

    وتمَكَّن بلعباس من صياغة حكايات استطاعت عرْض توتُّرات الكائن فيما يعبر عنه من جوهر ومظهر، وحياة وموت، وحضور وغياب، وهُنا وهُناك، وأنا وآخَر، وإيمان وغيب، وموجود ونقيضه، ومفارق ومتطابق، وفرح ناذر وحزن مستدام. وفي حكايات “لو كان يطيحو الحيوط” ما تسعف في إبراز مختلف تمظهرات هذه الجدليات؛ يقوم بذلك تارة بترتيب لقطات صوره من منطلق الحرص على إبراز تناغم الكتابة السينمائية، بالصورة والصوت الذي يحوز مكانة مميزة، سواء كان كلاما، أو موسيقى أو أصواتًا مُدمَجة؛ وتارة أخرى بالإصرار على إظهار مفارقات الوجود وتبايناته العنيفة، مع الحفاظ على رشاقة الشكل وصفاء الصورة وتوافق الصوت.

   تتسَلْطن الصُّورة في هذا الفيلم بشكل لافت، ليس لأنَّها نقطة عبور بين الواقعيِّ والمتخيَّل أو تشكل مِحْوَره، بل لأنَّها الفعل المؤسَّس والمتزامن من الواقعيِّ والتذَكُّري والمتخيَّل. ولذلك وجد المخرج نفسَه يبحث عن سُبل استجلاء كيفيَّات الانتقال مِمَّا هو ظواهريٌّ إلى ما هو رمزيٌّ، ومِمَّا هو تجريبي إلى ما هو تجريديٌّ، ومِمَّا هو واقعيٌّ إلى ما هو مُتخيَّل. وكأننا بحكيم بلعباس يدعونا إلى الإقرار بأن عُمق السِّينما يتمثَّل في كونها شاهدة على الوجود، أو بالأحرى على بؤس الوجود، وأن هذه الأداة التعبيرية تمتلك ما يلزم من قدرة على تجديد عُدتَّها لعرض الرِّوايات والشُّخوص، وتقديمها بطرق تفاجئنا باستمرار في عرض الحالات الصارخة لميلودراما الحياة.

    حكايات فيلم “لو كان يطيحو لحيوط” لحكيم بلعباس مُلْغِزة في طريقة عرضها والاشتغال عليها سينمائيا. ولو أن مخرجه يعلن، منذ الجينيريك، أن الأمر يتعلق ب”حكايات من ذكريات طفولة في مدينة صغيرة” فإن الحصيلة الإخراجية لهذه الحكايات تتجاوز الإطار المعلن عن “ذكريات طفولة”، لأن تصوير هذه الحكايات وبناءها، وتوليفها، وعرضها يتجاوز مجرد الحنين إلى ماضي، أو استحضار ذكريات، بمقدار ما يرصد العمل الفيلمي المُنجز وقائع لشخوص ووجوه لها وجود واقعي في الحاضر، منها من تشرئب عيونه نحو أفق ممكن، حتى ولو انطلق من نظرة قَدَرية واضحة. ولذلك لا يمكن استعراض وقائع هذه الحكايات أو تلخيص موضوعاتها بشكل جامع، اللهم إلا إذا اختار المرء التركيز على إحدى هذه الحكايات وعمل على التفاعل مع الأسلوب الفيلمي الذي نهجه المخرج لنسج هذه الحكايات العديدة.

   يُدشن حكيم بلعباس حكاياته (أو أفلامه الكثيفة داخل فيلمه) بتأطير أيادي امرأة عجوز عمياء تُقرشل الصوف وتغزله بإيقاع بطيء؛ ينقلنا، بعد ذلك، إلى لقطة خارجية لنفس المرأة وكأنها تتأمل بِركة ماء صافية، تصاحبها أصوات عصافير ومؤثرات سمعية أخرى؛ ثم يُصور مجرى مائي يشي باستمرار الحياة والتغير، إلى أن يزُجَّ بنا في قاعة سينمائية مهجورة يواكبها شريط صوتي لأغاني هندية، ومصرية، وموسيقى أفلام عالمية، ليركز على نفس العجوز العمياء، في لقطة مُكبرة، وكأنها جالسة على عرش داخل فضاء هجرته الأضواء والحياة.

بعد ذلك تتحول الحكاية لعرض قصة أخرى تُصور شابا صموتًا يتحرك ببطء، يراقب – كما تراقبه في نفس الآن قطة فوق السور المقابل- حركات امرأة وهي تسقي نباتاتها، وتهيئ فطور أبنائها، وتحضر ابنتها للذهاب إلى المدرسة؛ وكأن حضور هذا الشاب/الأب يعبر عن غياب ترك جروحا عميقة في نفوس أعضاء هذه الأسرة الصغيرة. ثم يقدم المخرج نفس المرأة وهي تُحضر الأرغفة في إحدى المقاهي، لكن يبدو عليها حالة سهو وشبه غياب، وعلامات شقاء دفين يشع من عينيها. وزاد المخرج من هذا الإحساس بإطلاق أغنية “فكروني” لأم كلثوم؛ إذ تحكي عن نار الشوق الذي “في قلبي، وف عيوني. رجعو لي الماضي بنعيمه، وغلاوته، وبحلاوته وبعذابه وقساوته…”. ومباشرة يركز المخرج على الطفلة وهي تناجي القمر والسماء لكي يعود أبوها. وبطريقة انزياحية يصور، بشكل مواز، رجلا يغسل حصانه، وابن المرأة – الذي تبدو عليه علامات إعاقة- وهو يغتسل؛ لكي يركز على صاحب الحصان وهو يصرخ وكأنه في لعبة تبوريدة؛ وبطريقة “هستيرية” يشكي آلامه التي ينسبها إلى “ثقل الأيام”.

   لا يبدو أن حكيم بلعباس يعرض لحكايات تمخَّضت عن ذكريات في مدينة صغيرة، كما يقول، وإنما يقدم، منذ الحكاية الأولى، نساء ورجالا يعانون من خراب داخلي لافت، ومن شقاء وجودي دائم. كل نساء حكايات الفيلم مُحطَّمات. وجلُّ الرجال يعانون من تمزق ما – باستثناء الحكاية الثالثة التي يصور فيها خيَّاطا شغوفًا بالعصافير، وينهيها بصور رجل وامرأة عجوزين يمسك كل واحد منهما يد الآخر في هيئة تساند وتعاطف، ومصحوبين بشريط أغنية “الأطلال” لأم كلثوم – مرة أخرى – التي تنتهي بالدعوة إلى التسليم: “لا تَقُلْ شَئْنا، فإن الحظ شاء”.

     وفي الحكاية الثالثة يروي حكيم بلعباس قصة امرأة يموت زوجها غير آسفة عليه، بسبب ما أذاقها من محن ومن اضطهاد، يلتقط لوجهها الباكي صورا مكبرة تضج بالشقاء والحزن. وفي حكاية أخرى يعرض لميلودراما حقيقية عن عُقم شابة متزوجة تبحث، بكل الطرق الممكنة، بما فيها زيارة الأضرحة وتلقي الدعوات، لكي تسْعَد بسماع “كلمة مَامَا” من مولود تتشوق إلى إنجابه. وهي تسعى إلى ذلك بإشهار ألمها الشديد، ومعترفة بالنار المشتعلة في قلبها، متطلعة إلى ربها لكي “يحِن عليها” ويخرجها من هذا العذاب. أما في الحكاية السادسة، وبغض النظر عما يقدمه حكيم بلعباس من تشخيص حذِق لوضعية منظومتي التعليم والصحة، فإنه في تركيزه على وجوه وأجساد المرضى الذين ينتظرون دورهم لرؤية الطبيب، الذي يأتي أو لا يأتي، يعرض لحالات إنسانية في منتهى الهشاشة والشقاء. وفي الحكاية الموالية تظهر فيها امرأة بلباس ثياب الحِداد بجانب بناية مطعم وفندق مهجور، يغمرها حنين إلى زمن مضى من خلال التحرك وسط فضاء المطعم وما بقي من متلاشيات وقنينات؛ لتنتهي بمناجاة وبكاء تطلب من الله أن يفرج عليها كُربَها وعذابها.

    وتشكل الحكاية الثامنة أكثر الحكايات قوة ودلالة وعمقا، حيث برع المخرج في تقديم صور بالغة الكثافة، والجمال، والرمزية، وقدم قصة، شبه سوريالية، لصبَّاغ يصبغ كل شيء بما فيها نفسه، يجر سُطوله ورجليه وحركاته بصعوبة، ويقف لحظة لكي يعبر عن معاناته، على طريقة مسرحية تراجيدية، حيث يجهر بألمه، معترفا أنه إنسان نذل، بغير أفراح، أمُّه ماتت يوم مولده، وعاش وحيدا.

     نفس مشاعر الألم والمكابدة تعبر عنها الأم التي انتظرت صديق ابنها المتوفى، في حكاية أخرى، حين تقر بفقدان عقلها منذ وفاة ابنها، وعن حرقتها ووحدانيتها. ويقوم المخرج بتقديم لقطة مكبرة لوجه المرأة الباكي في نفس الوقت الذي يصعد فيه صوت الآذان، وهي تنطق بما يفيد الإذعان لمشيئة الله وقدرته. أما حكاية العريس والعُرس، (وهي أطول حكايات الفيلم)، فهي الفصل الوحيد الذي يصور فيها حكيم بلعباس شخصيات تظهر عليها علامات الفرح، والابتهاج وتحتفل، حقا، بمناسبة زواج بالرقص والزغاريد. غير أن موت الجدة في لحظة إقامة العرس سوف يْحول هذا العرس إلى مأثم شخصي لأم العروس؛ التي توزعت بين كتمان سر موت أمها، وبين رغبتها العارمة، كأي أم، في أن يتم عرس ابنتها بسلام. وهكذا، وبالرغم من الموت المفجع لأمها، تستجمع قوتها لكي تنخرط، وهي باكية، في جذبة راقصة مع من يرقصن ويولولن. وفي هذه المتوالية تمكن حكيم بلعباس من إنجاز عملية تركيب بارعة بين إيقاع الاحتفال الجماعي، ورقصة الأم المكلومة، وبين الشريط الصوتي الذي أحضر فيه ولولات وزغاريد النسوة تبدو وكأنهن يصرخن، مصحوبا بإيقاع آلات “التْعَارج” والبنادير التي منحت للمشهد تصعيدا دراميا مُنشطًا.

    تتفاوت قصص وحكايات فيلم “ولو كانوا يطيحو لحيوط” من حيث الموضوع، والشخوص، وتختلف مصائرها، ولكن غالبيتها تلتقي في تجسيد مظاهر التمزق، والشقاء، والمعاناة، والفقدان، والحزن. إلا في بعض الاستثناءات النادرة. وكأن الفيلم جُماع أفلام قصيرة تعْبرها سمفونية ميلودرامية تتشكل من شخوص مُحطَّمة، وكائنات تمشي في الأرض وكيانها مشدود إلى جروح، ومآسي، وصدمات، وتبحث عن عزاء لها في الغيب وفي المناجاة اللامتوقفة. يعلن حكيم بلعباس أن ما يعرضه في الفيلم من حكايات هي ترجمة لعمليات تذكُّر مرت عليه خلال طفولته، وأن الشخوص الرئيسية وكأنها تنمي لعالم اندثر؛ والحال أن الصور المعروضة في أكثر حكايات هذا الفيلم تنتمي للحاضر أكثر من ارتباطها بزمن مضى؛ فصور السينما المهجورة لا تحيل على مرحلة مرَّت، وإنما على واقع ممتد في الحاضر. قد تكون مجازا عن شعور مشفوع بحنين إلى سينما أسست لمشاعر وذكريات، لكن متلاشيات وغبار ما يبدو قد مضى هي علامات على حاضر.

     للمخرج اختياراته الفلسفية والمذهبية الخاصة به، وله الحرية التامة في أن يعبر عن قناعاته القدَرية وتسليمه بقوى سحرية، وقد استعمل العُدَّة السينمائية التي يحسن التعبير بواسطتها عن هذه الاختيارات والقناعات؛ التي توفق، بشكل كبير، في ترجمتها سينمائيا في العديد من حكايات الفيلم. غير أن القصص الغالبة التي عرض فيها لشخوصه المُحطَّمة، وحالات الخراب النفسي المعبر عنه من طرف النساء بالأساس، وبعض الرجال، فإن المُشاهِد يشعر بنوع من المغالاة، وأحيانا من الضجر في الإصرار على تكرار الصور البكائية، والنحيب، والتشكي المأساوي من شراسة الحياة، وانكسارات الوجود الإنساني.   

   ومع ذلك، لقد تمكن حكيم بلعباس، مرة أخرى، من عرض منجز فيلمي بالغ العمق والدلالات، والجمالية. قد لا يتفق المرء مع القَدَرية المهيمنة على الرجل والتي تسكن حكايات الفيلم كلها، أو مع “مذهبه” في النظر إلى العالم والوجود والمصير؛ لكن أكثر حكايات هذا الفيلم تنتزع المشاهد من عوالمه لتدمجه أو تشركه في إيقاعات لقطاتها، ومتوالياتها؛ ويتقصد ترك منسوب الغموض في العديد من القصص، وأحيانا ينتقل من متوالية إلى أخرى بدون مبرر مقنع، لكنه في جميع الأحوال يدعوك إلى الانتباه، أو إلى طرح الأسئلة على الصور وعلى الشخوص.

حكيم بلعباس

     ولعل مجموعة من الحكايات القوية في هذا الفيلم تشكل لحظات إبداع سينمائي من أعمق ما قام بتصويره حكيم بلعباس، فقصة الخياط المولوع بالعصافير، والتركيب السوريالي لحكاية الصباغ والفرَّان، وتخيُّلات الشاب الذي يروي ما حصل له مع السيارة التي طارت به مع أبيه، وقصة الشيخ الذي أصرَّ على تحدى الأطفال في سباق أراد به تجاوز كل حدود الجُهد لينتهي بوضع حد لحياته، وحكاية العرس التي استطاع من خلالها تكثيف مشاعر مُفارقة بين ضرورة كتمان فجيعة الفقدان والرغبة في إنجاح الاحتفال بالعرس. يبدو لي البناء السينمائي لهذه القصص والحكايات من أكثرها توفيقا على صعد استدعاء التخيُّل، والهاجس الوجودي، والمزج الحدِق بين الصورة والصوت، وانسيابية السرد، والصياغة الجمالية.

   كما أن المخرج احتفل بعرض بعض مظاهر الطبيعة من سماء، وقمر، وأشجار تتمايل، وخرير مياه، وغيرها من العناصر بطرق جاذبة وبالغة الكثافة الجمالية. ومنذ الحكاية الأولى بدا هذا الميل الظاهر للاشتغال على الأبعاد التعبيرية للطبيعة، سواء في صورة القمر غير المكتمل الذي كانت الطفلة تناجيه بحرارة مؤثرة أو في حكاية الشيخ الذي يريد تجاوز عجزه حيث قدم حكيم بلعباس صورة شجرة تتعرض لريح عاتية بطريقة تحيل، بشكل من الأشكال، على الطريقة التي يدمج فيها المخرج الأشوري الأمريكي “تيرانس ماليك” عناصر الطبيعة في كل أفلامه، ويحولها إلى عناصر سردية يمنح بها لخطابه أبعادا وجودية ظاهرة.

     لقد حرص حكيم بلعباس، في هذه الحكايات، على الارتفاع باللغة السينمائية إلى مدارج عالية لمَّا تحرر من صرامة السرد الخطي، وعبأ كل ما يملك من مهارة تقنية للغوص في أعماق الحالة النفسية للشخوص بواسطة كاميرا تصرُّ على اكتناه بواطن الشخوص، ومن خلال استثمار الشريط الصوتي المتنوع المصادر، وخصوصا في حالات التصعيد الدرامي باستعمال آلة التشيلو الحزينة، وغيرها، وجعل من الصوت والكلام عناصر نشِطة لتقوية العمق الدلالي والتشكيلي للصورة، مما أكسبها سلطة ناطقة بكثافتها ومأساويتها، غالبا، في سياق مكاني ورمزي يوحي بتجذر ثقافي منح للصورة بعضا من أبعادها الروحية.

Visited 2 times, 1 visit(s) today