لماذا يعتبر موسم 1969 أفضل موسم سينمائى فى تاريخ السينما المصرية
إذا عدنا لعام 1969 أي الى ما قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال بعد الهزيمة العسكرية التى تعرضت لها مصر كانت السينما المصرية فى أسوأ أحوالها حيث توقفت معظم الاستوديوهات عن العمل وهجرها اصحابها للبحث عن فرص عمل فى لبنان وسوريا وتركيا وكانت أكثرية الأفلام وقتها تميل للكوميديا على شاكلة شنبو فى المصيدة و حواء والقرد، لكن جاء عام 1969 مبهراً وعادت السينما المصرية فتية بمجموعة من الأعمال المهمة التى اعتبرت روائع سينمائية فيما بعد.
اذا سألنا ما الرابط بين هذه الافلام: الارض، المومياء، شئ من الخوف، يوميات نائب فى الارياف، بئر الحرمان، أبى فوق الشجرة ، ميرامار ؛ الرابط هو انها كلها صدرت فى عام واحد نعم هذه الافلام صدرت فى العام 1969، هذا العام الايقونى الذى دخل ستة أفلام من إنتاجاته فى قائمة أفضل مائة فيلم مصر
المتأمل لهذه الافلام وتحديداً الارض، المومياء، شئ من الخوف، يوميات نائب فى الأرياف، سيجد انها من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما أى إنتاج القطاع العام ورغم كل الملاحظات والانتقادات التى وجهت للمؤسسة والإنتاج الحكومى الا أنه لا أحد يستطيع إغفال دور المؤسسة فى إثراء السينما المصرية حيث أنتجت مجموعة من الاعمال التى أضافت لتراث السينما المصرية وكان سيكون من الصعب ان يتصدى القطاع الخاص لهذه الاعمال، وكذلك المميز فى أفلام هذا العام أن معظمها مقتبس من قصص أدبية وهنا تأتى أهمية الأدب فى تحقيق قيمة مضافة للسينما.
فى التقرير التالى سنستعرض أهم انتاجات هذا العام:
1- الأرض
الفيلم الذي مثل مصر فى مهرجان كان ونافس بقوة على السعفة الذهبية وخروجه خالى الوفاض بدون جوائز كان علامة استفهام كبيرة، الارض هو صرخة الفلاح المصرى ضد الظلم والقهر، يوسف شاهين قدم قصيدة حزينة عن ارتباط الفلاح بالأرض بطلها محمد أبو سويلم.
فى هذا الفيلم الذي صنع قبل 50 عاماً استطاع شاهين تقديم لغة سينمائية شديدة التميز فعندما نشاهد الفيلم اليوم تصيبنا حالة من الانبهار كيف خرجت الصورة النهائية لهذا الفيلم بمثل هذه القوة من إضاءة وميزانسين وتكوين الكادر على الطريقة الشاهينية من (مقدمة – وسط – مؤخرة). و رغم ان الفيلم نفذ بإمكانيات تقنية بسيطة وهى إمكانيات المرحلة وقتها يجعلنا نتسائل ماذا لو توفر لشاهين كل الإمكانيات التكنولوجية المتاحة اليوم من درون (كاميرا طائرة) وكاميرات ديجيتال..الخ كيف كانت ستكون النتيجة؟.
شاهين صنع تحفة فنية قادرة على الصمود حتى الان وتجعل صناع الافلام اليوم يشعرون بالضآلة لعدم قدرتهم على صنع حالة مماثلة رغم توافر كل الوسائل التكنولوجية والتقنية وهذا دليل آخر ان المسألة ليست فى المعدات بقدر ما هى فى رؤية الفنان نفسه وان الفنان الحقيقى الموهوب هو من يستطيع ان يوظف المعدات المتاحة له فى خلق فن حقيقى.
2- المومياء
الفيلم الوحيد (روائى طويل) الذى أخرجه شادى عبد السلام وأحتل المرتبة الثالثة فى قائمة أفضل فيلم مصرى وأختاره المخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزى لترميمه فى مؤسسته لأهميته السينمائية والثقافية، أهمية هذا الفيلم هو مدى خصوصيته و انه ممثل حقيقى للحضارة الفرعونية، لغة الفيلم السينمائية لغة خاصة مصدرها الثقافة الفرعونية وهذا ما جعل العالم يهتم بالفيلم ويحصد عدد من الجوائز الدولية فى سنة عرضه وان يجعل مخرج عالمى مثل سكورسيزى مهتما بترميمه ؛ لدرجة أن سكورسيزى قال عنه :”تجربة مشاهدته كانت من أهم التجارب التى مررت بها فى حياتى”، كذلك الصورة التى خرج بها الفيلم شديدة الخصوصية لا يصنعها سوى فنان خاص مثل شادى عبد السلام بصحبة مصور فذ مثل عبد العزيز فهمى الذى يعرف تماما كيف يعبر دراميا بالضوء والظل.
هناك افلام من الممكن ان يصنعها أى مخرج وستظهر بشكل جيد لكن هذا الفيلم فقط شادى عبد السلام من يستطيع صناعته.المومياء يجعل من شادى عبد السلام فنانا استثنائيا ويجعلنا نتسائل ماذا لو كان حقق أكثر من فيلم بالتأكيد كان سيأخذ مكانة وشهرة عالمية تجعله واحداً من أهم صناع السينما فى العالم على غرار فيللينى، انطونيونى، كوروساوا وغيرهم.
المومياء قد لا يكون فيلما جماهيريا لكنه فيلما مهما من الناحية البصرية والثقافية ومرجعاً لأى سينمائى فى كيفية توظيف الفن التشكيلى، الضوء وأحجام اللقطات فى تقديم لغة سينمائية مميزة تكون الصورة فيها هى البطل الاول فى التعبير عن الموقف الدرامي وليس فقط اللجوء الى الحوار والثرثرة كعادة الكثير من الافلام.
3- شئ من الخوف
من ينسى الشعار الشهير “جواز عتريس من فؤادة باطل” والتى تعتبر أشهر صرخة فى السينما المصرية، فى عام 1969 صنع حسين كمال واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية فيلما ملحميا قائم بالاساس على إستخدام الاغنية فى التعبير عن المواقف الدرامية بدون اللجوء إلى السرد التقليدى للحكاية، هذا الفيلم الذي أستطاع خلق أسطورة فى التراث الشعبى المصرى هى اسطورة عتريس وفؤادة، شئ من الخوف هو حكاية الخوف والقهر والظلم.
حسين كمال استطاع نسج هذه الحكاية بلغة سينمائية بليغة قائمة على المزج بين الاغنية والتراث الشعبى فمن خلال كلمات عبد الرحمن الابنودى الذى كتب الاشعار والحوار وألحان بليغ حمدى تجسدت أمامنا حالة فريدة فى الصراع بين عتريس وأهالى قرية الدهاشنة.
شئ من الخوف هو فيلم محظوظ لأن حسام الدين مصطفى هو من كان مقرراً ان يقوم بإخراجه لكنه أعتذر عنه لتشابه موضوعه مع قصة لنفس الكاتب ثروت اباظة وهى “هارب من الايام” كان قدمها فى فيلما سينمائيا من قبل وتصدى حسين كمال لهذا الفيلم جعله فيلما اسطوريا خالدا وفتح الباب واسعا لشكل حكى جديد قائم على توظيف الموروث الشعبى سينمائيا ويضرب كذلك المثل بهذا الفيلم فى كيف يتفوق الفيلم على القصة المقتبس منها ؛ فالمعتاد ان تأتى الافلام أقل من الروايات المقتبسة منها وتوجه اللائمة للمخرج كيف أنه شوه الرواية لكن هنا استطاع حسين كمال بمساعدة فريق من الموهوبين يضم عبد الرحمن الابنودى، بليغ حمدى، كاتب السيناريو صبرى عزت ومدير التصوير أحمد خورشيد صناعة فيلم شديد الاصالة يشبه البيئة المصرية ويجعلنا نتسائل هل نحن قادرون اليوم على صناعة عمل فنى بمثل هذه الأصالة خاصة وإن معظم الموجود على الساحة حاليا هو هجين من أفلام اجنبية.
4- ميرامار
ميرامار من اهم الروايات التى كتبها أديب نوبل نجيب محفوظ وتصدى كمال الشيخ لتحويلها لشريط سينمائى عن سيناريو كتبه ممدوح الليثى، ميرامار فيلم جرئ وجه سهام نقد جريئة للتجربة الناصرية وصنع وصدر فى السينمات فى فترة حكم جمال عبد الناصر بعكس افلاما صنعت فى العصر الذى يليه بغرض تشويه العصر الناصرى لاسباب سياسية، ميرامار قد لا تكون اقتباس سينمائى ممتاز عن رواية محفوظ ولكنه فيلما مهماً قدم فيه الشيخ شخصيات الرواية الاصلية الذين يجتمعون فى فندق ميرامار على شاطئ الاسكندرية حيث يظهر لنا دواخل الشخصيات وتداخلهم مع بعضهم البعض.
ميرامار قدم تشريح دقيق لمجتمع ما بعد ثورة يوليو 1952، شخصيات الرواية مثلت نماذج واتجاهات مختلفة من الشعب المصرى ومن غير نجيب محفوظ قادر على فعل هذا، سيناريو الليثى مع إخراج الشيخ حاول بقدر المستطاع تقديم عمل سينمائى مخلص للرواية فجاء فيلماً مصنوع بشكل جيد لكن لم يقترب من استثنائية الرواية.
البطل فى ميرامار هو المكان الذى يجتمع فيه الشخصيات وهو الفندق الذى تأتى إليه مجموعة شخصيات من خلفيات اجتماعية مختلفة فهناك الصحفى الوفدى السابق الذى لم يعد يعمل فى العصر الجديد وهناك الباشا الناقم على كل شئ بسبب تأميم جزء من ثروته وهناك الشاب صاحب الاطيان الحاقد على العصر الجديد لإقتطاع جزء كبير من ارضه وعلى الطرف الآخر هناك شخصيات تمثل العصر الجديد شاب قادم للعمل بأحد الوظائف المرموقة بالاسكندرية وشخصية الرواية الرئيسية هى الفلاحة زهرة التى تخدم بهذا الفندق والتى يتجه اليها انظار رواد الفندق.
5- يوميات نائب فى الأرياف
توفيق صالح أكثر مخرج مصرى تعرض للتهميش ولم تأخذ افلامه مساحات كبيرة فى العرض على شاشات التليفزيون وكان دائما فى مشاكل مع الرقابة بسبب جرأة افلامه ومنها هذا الفيلم، توفيق صالح فى عام 1969 قدم رواية توفيق الحكيم الشهيرة “يوميات نائب فى الارياف” هذه الرواية التى تعد من كلاسيكيات الادب المصرى، صالح قدم اقتباس سينمائى شديد الإخلاص للرواية عن وكيل نيابة مصرى يشهد حادثة قتل فى إحدى القرى النائية التى كان يخدم بها وينجذب لفلاحة تدعى ريم هى المتهمة الرئيسية فى الجريمة.
صالح قدم فيلما واقعيا بأمتياز يمكن تصنيفه لفئة الواقعية النقدية؛ والواقعية هنا ليست فقط تقديم الواقع كما هو وإنما مسائلته وانتقاده. الفيلم لا يسرد فقط قصة هذه النائب وما يدور فى كواليس المحاكم والاقسام وما يحدث فى الارياف فى هذه الفترة قبل عام 1952 ولكن يُظهر اشياء سلبية كانت تحدث وقتها من تزوير الانتخابات وتهاون النظام القضائى والشرطى فى التعامل مع حياة المواطنين، هذا الفيلم دخل بسببه صالح فى معركة شرسة مع الرقابة بل وطًلب منه ان يصنع فيلما بالالوان عن الشرطة يعرض قبل هذا الفيلم فى السينمات وكان رد صالح عليهم ان هذه الاحداث مأخوذة من الرواية التى دارت أحداثها فى عام 1930، إلا ان الفيلم عند عرضه على الرئيس المصرى جمال عبد الناصر نال إعجابه وسمح بعرضه بل وصرح وقتها لو صنعت المؤسسة العامة للسينما أربعة أفلام مثل يوميات نائب فى الارياف لقام بزيادة ميزانيتها.
يوميات نائب فى الارياف كان الفيلم الاخير الذي ينفذه صالح فى مصر قبل ان يتجه الى سوريا والعراق لتقديم أفلام هناك وأنتهت مسيرة هذا المخرج المبدع مبكراً بسبب توقفه عن الإخراج بعد ذلك.
بالتأكيد ان موسم 1969 كان موسم استثنائى فى مسيرة المخرج الكبير حسين كمال حيث صنع فيلمين شديدى الاختلاف مثل شئ من الخوف وابى فوق الشجرة، عندما نتذكر ابى فوق الشجرة نتذكره بأنه واحداً من الافلام التى حققت اعلى الايرادات فى تاريخ السينما المصرية واحتوائه على عدد هائل من القبلات لكن فى المقابل الفيلم تم توجيه نقد لاذع لمخرجه بأنه تخلى عن الافلام صاحبة الطموح الفنى الكبير واتجه للسينما التجارية التقليدية التى تدر أعلى الأرباح والتى لا تهتم بالجودة الفنية وفى الحقيقة هناك تجنى كبير تجاه هذا الفيلم ، بداية فيلم مثل ابى فوق الشجرة صنع من البداية بغرض مخاطبة جمهور عبد الحليم حافظ الذى يريد ان يستمع لصوته بالاساس لا ليشاهد تمثيله.
ورغم أن الفيلم قد يكون موضوعه شديدة البساطة بعكس موضوعات افلام حسين كمال السابقة الا ان الأولوية هنا للأغانى وليس الموضوع. حسين كمال استطاع فى هذا الفيلم تقديم شكل جديد للأغنية المصورة لم يحدث من قبل وان يصل الى حالة ما يسمى “الفيديو كليب” فى عام 1969 حيث كانت أغانى الافلام وقتها تصور بشكل بسيط قائم بالاساس على ان يغنى المطرب للممثلة التى امامه بدون اى حركة لكن حسين كمال كان له السبق ان ينفذ أغنية مصورة جديدة ومبتكرة ويحقق مفهوم (الفيديو كليب) فى عام 1969 قبل زمن الفيديو كليب بعقود وهذا يحسب له بالتأكيد.
الفيلم لم يجنح للبساطة والاستسهال بحجة انه بطولة نجم جماهيرى اقبال الجمهور عليه شئ مضمون ولكن كان هناك تجريب كبير فى تقديم الاغانى فمثلا استعراض “قاضى البلاج” تم تقديمه بشكل مبهر وجديد احتوى تأثر واضح من الفيلم الأمريكى “قصة الحي الغربى” سواء فى المونتاج أو حركة المجاميع، أغنية “جانا الهوا” دارات فى أكثر من موقع تصوير وتميزت بصورة بصرية جذابة وكذلك مشهد الظهور الأول لنادية لطفى والذى يمكن إعتباره أفضل تتابع رقص قدمته السينما المصرية.
حسين كمال مخرج يمتلك خيال واسع واستطاع تقديم فيلما غنائيا استعراضيا مميزا على صعيد الصورة وأكبر دليل على تميز الفيلم هو ان أغانيه لازالت متواجدة حتى اليوم وتُعرض على الشاشات وبها خيال ومشهدية بصرية لا يقدمه مخرجى الفيديو كليب اليوم.
7- بئر الحرمان
بئر الحرمان يعتبر من اهم وأفضل افلام الدراما النفسية التي قدمتها السينما المصرية، فالفيلم تصدى له مخرج يمتلك من الوعي والموهبة مثل كمال الشيخ أستطاع تحويل قصة احسان عبد القدوس عن فتاة لديها فصام فى الشخصية إلى بورتريه سينمائى مميز قدمت فيه سعاد حسنى واحدا من افضل ادوارها وأثبتت انها ممثلة قوية ليست فقط تؤدى ادوار الفتاة الخفيفة لكنها قادرة على تقديم الادوار المركبة.
8- شئ من العذاب
من الافلام المميزة التى قدمها المخرج الكبير صلاح ابو سيف ولكن يمكن اعتباره من الافلام المظلومة التى لم تحصل على الانتشار والتقدير النقدى المستحق، ابو سيف دائما متوقع منه تقديم الافلام الواقعية مثل الفتوة والوحش، لكن هنا قدم ابو سيف فيلم شديد العذوبة للوهلة الاولى عندما تراه تشعر انه من اخراج بركات وليس ابو سيف لما يحتويه من انسيابية ومشاعر تفتقدها افلام ابو سيف التى تميل لإظهار غلظة الواقع.
أخيرا اذا نظرنا اليوم لحال السينما المصرية فى 2019 بعد 50 عاماً فهو ليس فى أفضل حال فعدد الافلام قل بشكل كبير والافلام أصبحت تفتقد للأصالة والطموح الفنى وأصبحت معلبة تلعب فى المضمون فنجوم الإخراج فى السينما المصرية اليوم يذهبون لما يسمى بأفلام الاكشن والخرافات والميزة التى منحتهم إياها التكنولوجيا أستخدموها فقط فى صناعة إبهار بلا أى مضمون، فحين ان هناك قطاع كبير من المخرجين أصحاب الرؤى يجلسون فى منزلهم دون عمل مثل داود عبد السيد ويسرى نصر الله لعدم وجود ممول لمشاريعهم، منذ السبعينات يقولون ان السينما المصرية فى أزمة لكن كان هناك صناع أفلام أستطاعوا التحايل على هذه الأزمات وتقديم أفلام متميزة ونجوم سينما يمتلكون من الوعى ما يجعلهم يدعمون مشاريع مختلفة عن السائد وهذا هو ما نفتقده اليوم.