كيفن سبيسي بريء قضائيا لكنه مذنب في الصحافة
كان من المثير للدهشة بل للصدمة، أن يخضع الممثل كيفن سبيسي للمحاكمة بتهمة التحرش والاعتداء الجنسي بعد أن اتهمه ممثل شاب يدعى أنتوني راب بالاعتداء عليه خلال حفل عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، أي في منتصف الثمانينات.
ثم كان من المدهش أيضا أن يبادر سبيسي الذي بلغ القمة بعد أن تألق في بطولة فيلم “مشتبهون عاديون” ثم في المسلسل التلفزيوني الشهير “دار الألعاب” House of Cards ليعتذر عن فعلته، ثم يعترف علانية للمرة الأولى بأنه “مثلي”، قبل أن يظهر رجل آخر يتهمه بجذبه من جسده بطريقة غير لائقة داخل مشرب في 2016، عندما كان هذا الشخص في الثامنة عشرة من عمره في مقصف. لم يكن هناك تحرش أو اعتداء بل مجرد تلامس ما.
إلاّ أن هذا كان كافيا لكي تقوم القيامة ولا تقعد. لماذا؟ لأن هذه الاتهامات ظهرت فقط في أعقاب الضجة الكبرى التي أحاطت بما وجه من اتهامات إلى قطب كبير من أقطاب صناعة السينما في هوليوود هو المنتج الشهير هارفي ونستين مؤسس شركة “ميراماكس” التي قدمت للعالم عددا من أفضل الأفلام خلال العشرين عاما الماضية.
المهم أن الأمر وصل إلى القضاء. وعوقب كيفن سبيسي من قبل هوليوود بأن أوقفت التعامل معه، بل إن المخرج ريدلي سكوت قام باستبعاد دوره بالكامل من فيلم “كل مال الدنيا” وأعاد تصوير جميع المشاهد التي يظهر فيها بعد أن كان الفيلم قد أصبح جاهزا للعرض، واستعان بممثل آخر هو كريستوفر لي للقيام بدور سبيسي، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السينما على حد معرفتي. ومن ناحيتها استبعدت شبكة “نتفليكس” منتجة مسلسل “دار الألعاب”، ظهوره في المسلسل الذي ارتبط من البداية باسمه!
أصبح هذا كله معروفا الآن. لكن ما حدث مؤخرا هو أن القضاء الأميركي أسقط التهمة التي كان قد خضع كيفن سبيسي للمحاكمة بشأنها، ولم يعد بالتالي مطلوبا أمام القضاء في اتهامات جنسية في الولايات المتحدة، وإن ظل ملاحقا باتهامات أخرى مماثلة يتم التحقيق فيها حاليا في بريطانيا.
ورغم ذلك، كان من المدهش أن تنبري مجلة “فاريتي” الأميركية المتخصصة في الصناعة السينمائية (تأسّست عام 1905) وتكتب في افتتاحيتها مؤخرا، تطالب باستمرار مقاطعة الممثل الكبير، وهي المجلة التي يفترض أن تدافع عمّن صنعوا تاريخ السينما طالما لم تثبت عليهم قضائيا أي تهم ممّا وجهت إليهم بعد. فما هو السبب أو المبرّر.
تقول الصحيفة “إن إفلات سبيسي من المحاكمة نتيجة أخطاء في الإجراءات سيجعل أقارب وأصدقاء كل من تعرضوا للتحرش الجنسي يشعرون بخيبة الأمل بخصوص النظام القضائي الأميركي. لذلك لا يجب التعامل مجددا مع كل من حامت حولهم الشكوك بإجماع عدد كبير من الآراء، بارتكاب أفعال مشينة”. وهذا في الحقيقة أغرب وأعجب ما يمكن أن يقرأه المرء من صحيفة يفترض أنها تتمتع بسمعة خاصة مرموقة في الأوساط السينمائية، فهل الإدانة تقع بالشبهات وطبقا لما يتقوّل به البعض؟
تعترف “فاريتي” بأنه من حق من يرغبون في التعامل مجددا مع كيفن سبيسي أن يتعاملوا معه (شكرا لفاريتي طبعا). إلاّ أنها تحذّر وتنذر وتقول إنه يتعين على سبيسي أولا أن يبذل جهودا حقيقية لنفي الاتهامات الموجهة إليه ولا يكتفي بإزاحتها بعيدا عنه. ولكنها تضيف بثقة “ولكن دعونا نكن صرحاء. عند هذا الحد، وآخذين في الاعتبار حجم المزاعم الموجهة ضده، المؤكد أنه لن يتمكن”!
هذا القطع في الحكم يثير التساؤل عن مصلحة مجلة تمثل صناعة السينما في هوليوود في هدم طاقة فنية وموهبة حقيقية مثل موهبة كيفن سبيسي؟ ولماذا لم يكن هذا على سبيل المثال موقف “فاريتي” من موهبة أخرى أميركية وأقصد حالة
وودي ألين نجح أخيرا في العثور على شركة إسبانية تقبل توزيع فيلمه الجديد “يوم مطير في نيويورك”، بعد أن كانت شركة “أمازون” التي أنتجت الفيلم قد رفضت عرضه بسبب المقالات الصحافية التي نشرتها ابنة وودي ألين بالتبني تتهمه فيها اتهامات مشينة، تقول إنها حدثت عندما كانت طفلة. وهي اتهامات متكرّرة سبق أن نفاها ألين وسبق أن عجزت التحقيقات الأولية عن إثباتها، ولذلك لم يتم قط تقديم وودي ألين أمام القضاء.
ومع ذلك هناك حملة مستعرة في الإعلام لهدمه، كما وصلت الضغوط حاليا إلى مهرجان فينيسيا الذي سيقيم دورته الـ76 الشهر القادم، بهدف منع المهرجان من عرض الفيلم الجديد الموقوف واستضافة مخرجه.
الواضح أننا نعيش عصر “مطاردة ساحرات” شبيه بما كان يجري في القرون الوسطى في أوروبا “المسيحية” قبل أن تخرج من عصور الظلام إلى النور. فإلى متى تستمر هذه الحملة؟ وهل ستمضي لكي تدمر أقدم وأكبر صناعة سينمائية في العالم؟