كيرك دوغلاس: أيقونة هوليوودية وصهيوني حتى الرمق الأخير
أخيرا فارق النجم السينمائي الأميركي الشهير كيرك دوغلاس الحياة بعد أن تجاوز المائة بأكثر من ثلاث سنوات، فهو من مواليد التاسع من ديسمبر 1016، لعائلة من المهاجرين اليهود الروس. وكان دوغلاس الوحيد الباقي على الحياة من بين كوكبة من نجوم عصره وكبار السينمائيين الذين منحوا فن السينما ملامحه الأساسية الباقية حتى الآن.
يعتبر كيرك دوغلاس، واسمه الحقيقي إيشور دانيلوفيتش، من أكثر الممثلين نشاطا، وقد شارك في أكثر من 90 فيلما، كما عمل في التليفزيون والمسرح. وقبل التحاقه بالبحرية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، قام بتغيير اسمه إلى كيرك دوغلاس جريا على ما كان يفعله الكثير من أقرانه اليهود الذين التحقوا بصناعة السينما الأميركية، وذلك بغرض اخفاء يهوديتهم، والاندماج في أوساط الطبقة الوسطى الأميركية، ولكن أساسا- من أجل الحصول على القبول من جانب جمهور السينما. ولعل من المميز في تكوين دوغلاس أن ملامحه الشكلية الخارجية لم تشي بيهوديته شأن كثيرين غيره من نجوم السينما ذوي الأصول اليهودية مثل وودي ألين أو والتر ماتاو مثلا، فهو ينتمي إلى ما يعرف بـ “يهود اخزر” أي اليهود القادمين من القوقاز والذين اعتنق جدودهم اليهودية وليس اليهود الأصليين الذين ينتمون الى الشرق.
ظهر كيرك دوغلاس لأول مرة في السينما في فيلم «الحب الغريب لمارتا إيفرز» عام 1946. أما أهم وأكثر أفلامه بقاء في ذاكرة المشاهدين العرب فهو فيلم “سبارتاكوس” (1960) الذي أخرجه ستانلي كوبريك. وفيه يقوم بدور زعيم العبيد الذي يقودهم للثورة على الامبراطورية الرومانية، لكن الثورة تنتهي بمقتله والسيطرة على العبيد الثائرين.
عن “سبارتاكوس” كتب هنري شيهان في مجلة “سايت آند ساوند” عدد أغسطس 1991: عندما بدأ ستانلي كوبريك في إخراج “سبارتاكوس” كانت هناك خلافات حول المخرج الذي يصلح لإخراج ذلك الفيلم الكبير الذي رصدت له ميزانية من 12 الى 15 مليون دولار. وكانت الشركة المنتجة للفيلم قد طردت المخرج المخضرم أنطوني مان بعد أن أكمل إخراج المشهد الأول الذي يصور سبارتاكوس، العبد الذي سيتزعم التمرد فيما بعد، وكان يعمل في خدمة الرومان في الصحراء الليبية. ولاتزال أسباب طرد مايكل مان غامضة حتى اليوم، ولكن من خلال المشهد الذي أخرجه بلقطاته الحية والذي ظل في مكانه في بداية الفيلم، يمكننا القول إن تمسكه الشديد برؤيته للفيلم أزعج زملاءه ورؤساءه.
وقد امتد ذلك الإحساس إلى النجم كيرك دوغلاس الذي اشترك مع شريكه إدوارد لويس في إنتاج الفيلم من خلال شركة «برينا» التي أسساها سويا، فقد كانت لدى دوغلاس رؤية محددة عن الفيلم وعن الشخصية الرئيسية فيه، وهي رؤية لم يتردد في الإفصاح عنها أو حتى فرضها. وبسبب الميزانية الكبيرة للفيلم، فرض مديرو الإنتاج في شركة يونيفرسال إشرافا دقيقا على تنفيذ الفيلم، وكانوا يواجهون مشاكل أخرى في ذلك الوقت، فقد كانت ملكية الشركة في مهب الريح، الى أن استقر الوضع فيما بعد خلال التصوير، بعد أن قامت وكالة «إم سي ايه» بشراء شركة يونيفرسال، وهنا أصبح ليو واسرمان الذي كان وكيلا لبطل الفيلم ومنتجه كيرك دوغلاس، رئيسا له.
وإذا كان هذا كله يأخذنا بعيدا عن الأسماء الأهم التي ساهمت في صنع «سبارتاكوس» فلعل هذا يوضح الى أي مدى وصل صراع القوى في ذلك الوقت.
أما المضمون السياسي للفيلم فهو يرتبط بإثنين من أعضاء القائمة السوداء في هوليوود هما هوارد فاست مؤلف الرواية وناشرها، ودالتون ترومبو كاتب سيناريو الفيلم.
وكان ترومبو وهو يقضي عقوبة السجن لمدة عشرة أشهر بسبب رفضه التعامل مع لجنة النشاط المعادي إبان الحملة المكارثية، قد بدأ حملته ضد القائمة السوداء، فقام بتهريب سيناريو باعه سرا بإسم مستعار. أما مع سيناريو «سبارتاكوس» فقد قرر ترومبو استخدام إسمه الحقيقي للمرة الأولى منذ عشر سنوات لتحقيق هدفين: الأول تحدي القائمة السوداء (وقد شجعه على ذلك ما أعلنه أوتو بريمنجر من أنه سيضع إسمه الحقيقي على فيلم «الخروج») وثانيا، إعادة الخط اليساري الليبرالي الى صناعة السينما الشعبية في هوليوود.
رغم ما يتمتع به كيرك دوغلاس من شعبية، ورغم أنه معروف مع أبنائه وأشهرهم مايكل دوغلاس بمواقفهم الليبرالية المؤيدة للحزب الديمقراطي، ورغم ذلك كان كيرك دوغلاس دائما صهيونيا متحمسا، ولم يجد أي تناقض بين رفض الفاشية وتأييد إسرائيل استنادا الى يهوديته. وقد كتب رسائل إلى السياسيين الديمقراطيين من أصدقائه. وهو يقول في مذكراته التي أصدرها بعنوان “دعونا نواجه هذا” (2007) أنه شعر بأنه مضطر للكتابة إلى الرئيس الأسبق جيمي كارتر في عام 2006 للتأكيد على أن “إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة الناجحة في الشرق الأوسط، وأنها كنت دائما تواجه المخاطر، وإذا خسرت إسرائيل حربًا واحدة، فسنخسر إسرائيل “.
زار كيرك دوغلاس إسرائيل مرات عدة، وشارك بالتمثيل في عدد من أهم الأفلام الصهيونية التي أنتجتها هوليوود منذ بداية تأسيس إسرائيل. وموقفه من العرب معروف وسافر، وقد أدلى بتصريحات معادية للعرب قبل وأثناء حرب عام 1967، وقام بالتبرع بالمال لإسرائيل مرات كثيرة أشهرها خلال الحملة التى بدأت فى أمريكا بعد اندلاع تلك الحرب لدعم المجهود الحربي الإسرائيلي، واستمر في كل الأوقات يوظف قدراته ومواهبه وشهرته لخدمة إسرائىل.
من الأفلام الصهيونية التي شارك فيها كيرك دوغلاس: «الحاوى» عام 1953، وكان أول فيلم يصور فى إسرائيل ويحتفل بتأسيس الدولة الصهيونية، و«الظل العملاق» عام 1966، و«نصر فى عنتيبى» عام 1977، و«تذكر الحب» عام 1983.
التقى كيرك دوغلاس مرات عدة بزعماء إسرائيل وظهر فى برامج تليفزيونية فى التليفزيون الإسرائيلى، وفى عشرات الصور واللقطات التى استخدمها الصهاينة فى الدعاية السياحية، ومنها صورة له مع مدير فندق «هيلتون» تل أبيب، وصور أخرى مع تيدى كوليك عمدة القدس الأسبق.
ورغم ذلك فقد حاول بعض الصحفيين العرب التقرب منه وإقناع الرأي العام العربي بأن كيرك دوغلاس «فنان أولا وأخيرا». ومثال على ذلك ما نشرته مجلة «المستقبل» التى كانت تصدر فى باريس فى عددها رقم 86 الصادر فى 14 نوفمبر 1978، أى بعد أشهر قليلة من الاحتفال الإسرائيلى بالذكرى الثلاثين لتأسيس إسرائيل التى شاركهم فيها كيرك دوغلاس بطريقته الخاصة. فقد نشرت المجلة المشار إليها، مقابلة أجراها رغيد الشماع بعنوان «كيرك دوغلاس: أنا نادم على اشتراكى فى فيلم «عملية عنتيبة» (والمقصود فيلم نصر فى عنتيبى). وفى المقابلة أشار كيرك دوغلاس الى أصله اليهودى الروسى، وكرر أنه فنان قبل كل شئ.
وعندما سأله الصحفى الذي أجرى معه المقابلة عن الفيلم الصهيونى الذي اشترك فيه عن عملية عنتيبى، قال دوغلاس: «أعتبر أننى لعبت دورا جيدا فى فيلم جيد لا أكثر ولا أقل.. أنا لم أشترك فى عملية دعائية. أنا مثلت دوراً ولم أبشر بعقيدة». وبعد حوار طويل قال إنه نادم على اشتراكه فى الفيلم المشار اليه. ومع هذا فقد قام بعد ذلك ببطولة فيلم آخر صهيونى فى إسرائيل هو فيلم «تذكر الحب».
وفى عام 1983 وبمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس «إسرائيل»، وجه كيرك دوغلاس رسالة تحية إلى إسرائيل مليئة بعبارات الحب والغزل، واستخدم الصهاينة هذه الرسالة فى الدعاية لإسرائيل سياحياً وسينمائياً ونشرتها مجلة «سكرين إنترناشيونال» البريطانية ضمن ملحق دعائى مدفوع عن السينما الإسرائيلية. وقال فيها:
«لقد حققت فيلمي الأول فى إسرائيل «الحاوى» قبل ثلاثين عاما. فى ذلك
الوقت كان الطعام فى إسرائيل قليلا، وكان الجميع يقتصدون فى الطعام باستثناء طاقم
العاملين فى الفيلم. واقتضى الأمر مرور شهر إلى أن أدركت أننى بينما كنت أتناول كل
صباح عجة البيض، كان الإسرائيليون يحصلون على بيضتين فقط شهريا. الآن هناك مطاعم
فاخرة أنيقة تقدم مختلف أنواع الطعام فى أرجاء تلك الدولة الصغيرة. وقد رأيت هذا
كله عندما كنت هناك مؤخراً أثناء حرب لبنان (يقصد الغزو الاسرائيلى للأراضي
اللبنانية فى عام 1982) وبالمناسبة، نصحني كثيرون بعدم الذهاب إلى إسرائيل فى ذلك
الوقت، وقالوا لى إن الوضع قد أصبح محفوفا بالمخاطر. على العكس، فقد شعرت وشعر معي
كل العاملين فى فيلم «تذكر الحب» بالأمان التام. إن القيام بجولة على الأقدام فى
المساء لتجربة استرخائية جميلة.
ظل دوغلاس نشطا رغم تقدمه الكبير في العمر، وكان يتمتع بالقدرة على المشي والحديث بل ظل يكتب مدونات على الانترنت. وقد كتب دوغلاس 10 كتب في السيرة الذاتية والرواية من أهمها كتاب “أنا سبارتاكوس: إنتاج فيلم، واختراق القائمة السوداء”، وفيه يكتب عن الفيلم الشهير الذي قام ببطولته مع توني كيرتس ولورانس أوليفييه وتشارلز لوتون وجين سيمونز. وقال: ”
كان هناك ضعف في جميع أنحاء البلاد”. “كانت لجنة مجلس النواب المعنية بالأنشطة غير الأمريكية تبحث عن الشيوعيين الذين كانوا يعتقدون أنهم سيسقطون حكومتنا. لقد اتهم العاملون في السينما بوجه خاص ولا سيما الكتاب. لقد كان وضعًا مروعًا في هوليود بعد أن أصبحت قائمة سوداء “.
وقد كتب رسائل إلى السياسيين الديمقراطيين من أصدقائه. وهو يقول في مذكراته التي أصدرها بعنوان “دعونا نواجه هذا” (2007) أنه شعر بأنه مضطر للكتابة إلى الرئيس الأسبق جيمي كارتر في عام 2006 للتأكيد على أن “إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة الناجحة في الشرق الأوسط، وأنها كنت دائما تواجه المخاطر، وإذا خسرت إسرائيل حربًا واحدة، فسنخسر إسرائيل “.
تزوج مرتين، وكانت زوجته الأولى الممثلة ديانا ديل، والدة ابنيه مايكل وجويل. وقد استمر الزواج ، وبعد الطلاق استمرت الصداقة بينهما حتى توفيت ديانا عام 2015. وأنجب دوجلاس من زواجه الثاني من آن بويدينز الألمانية المولد، ولدين آخرين هما إريك وبيتر. وفي عام 2004، توفي إريك بسبب جرعة مخدرات زائدة، وهو ما أحزن دوغلاس كثيرا وظل طويلا يزور قبر ابنه كل أسبوع.
في عام 1988، حصل كيرك دوغلاس على أعلى جائزة مدنية في أمريكا، وسام الحرية، لجهوده الإنسانية كسفير أميركي غير رسمي في جميع أنحاء العالم. وكان يشعر بالفخر وهو يرى ابنه مايكل يسير على خطاه.
وفي كتاب سيرته الذاتية الذي أصدره عام 1988 بعنوان ابن راغمان، يتذكر قائلا: “قبل سنوات، حاولت أن أنسى أنني كنت يهوديًا”، لكن في وقت لاحق من حياته المهنية بدأ “يسيطر على ما يعنيه أن يكون يهوديًا” “وأصبح هذا موضوعًا مهما في حياته”. وفي مقابلة أجريت معه عام 2000 شرح مغزى الانتقال الذي مر به من انكار يهوديته أو اخفائها، ثم إعلانها والتباهي بها. وهو ما حدث مع سينمائيين كثيرين من أمثال سبيلبرغ وكلود ليلوش وبولانسكي.
هذا المقال نشر في جريدة “العرب” اللندنية