كيت وينسلت تُعيد إحياء رحلة المصورة لي ميلر
رشا كمال
يقع عبء كبير على نقطة البداية التي تنطلق منها أحداث السيرة الذاتية، خاصًة إن كانت تخصّ شخصية تعمدت الاختباء من قلم التاريخ. فهل سيكون السرد مثلاً من المهد إلى اللحد، كما في فيلم “الطيار”- The Aviator لمارتن سكورسيزي، أم سيقتصر على حدث أو فترة معينة، سواء كانت حقيقية أو متخيلة، مثل فيلم “سبنسر” – Spencer لپابلو لارين؟ وما تأثير هذا الاختيار على المتلقي في التعرف على الشخصية؟
أختار مؤلفو فيلم “لي” Lee للمخرجة إلين كوراس، تسليط الضوء على مرحلة حاسمة من حياة المصورة الأمريكية لي ميلر، عندما تعيش تجربة صادمة في الحرب العالمية الثانية أثناء عملها كمراسلة ومصورة حربية لصالح مجلة “ڨوج” البريطانية، وتأثير ذلك على حياتها الشخصية والمهنية. الفيلم مقتبس من كتاب “حيوات لي ميلر” للمصور البريطاني أنثوني پينروس، وهو ابن لي ميلر، كمرجع للبحث عن التاريخ الحقيقي لهذه المرأة التي عاشت حياة غير تقليدية، متحديةً قيود وقيم المجتمع خلال عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. تأتي سيرتها كموضوع غني للتناول كإمرأة اختارت أن تعيش وفق شروطها الخاصة، تماشيًا مع توجهات السينما الحالية الداعمة للنسوية، التي تسعى لاستحضار نماذج نسائية تاريخية واجهن التحديات وتجاوزنها.
تقع أحداث الفيلم في عام 1977، خلال مقابلة بين المصورة لي ميلر (كيت وينسليت) وأحد الصحفيين (جوش أوكونر) حول تجربتها في الحرب العالمية الثانية. وتنتقل الأحداث إلى فرنسا عام 1938 قبل الحرب، حين تلتقي ميلر بزوجها المستقبلي المؤرخ والفنان البريطاني رولاند پينروس (الكسندر سكارسجارد)، ومن ثم انتقالها للعيش معه في لندن خلال الحرب. عملت هناك مع مجلة “ڤوج” البريطانية لدعم النساء أثناء الحرب، وسعت للذهاب إلى الجبهة رغم ما واجهته من تحيزات ضدها كامرأة. إلا أنها استطاعت الذهاب برفقة المصور الأمريكي ديفيد شيرمان (اندی سامبرج)، وخاض الاثنان رحلة لرصد ما يحدث في معسكرات النازية، حتى التقطت صورتها الشهيرة وهي تتحمم في حمام مسكن هتلر.
يسهم الانتقال بين الماضي والحاضر في تماسك الفيلم، بسبب تحكم راوية الفيلم في اختيار الفترات الزمنية التي تروي أحداثها غير أن أثر هذا الانتقال لم يتبلور بقوة إلا في الثلث الأخير مع توضيح طبيعة العلاقة بين لي ميلر ومحاورها.
يحمل اختيار نقطة بداية حكاية لي ميلر مخاطرةً بإغفال محطات مهمة من ماضيها؛ إذ يكتفي الفيلم بمقدمة تعريفية مختصرة ترويها المصورة للصحفي والمُشاهد بقولها: “كنت العارضة، الملهمة، والفتاة البريئة، لكن اكتفيت من كل ذلك.”
لأن قرارها بأن تكون خلف الكاميرا بدلًا من أن تكون أمامها أتى بعد تجارب وحيوات غنية، منذ نشأتها كعارضة أمام كاميرا والدها، وصولاً إلى عملها في ڨوج بنيويورك، ثم تعلمها فن التصوير في فرنسا وعلاقتها بالمصور الأمريكي مان راي في ذروة الحركة السيريالية التي ألهمتها في بداية مسيرتها الفنية، والتي استمرت حتى تزوجت وانتقلت إلى القاهرة، حيث سحرتها الصحراء فأبدعت في تصويرها. عادت بعدها إلى فرنسا وبدأت رحلتها مع التصوير من جديد، ليبدأ الفيلم أحداثه من هذه النقطة.
كل تلك التجارب السابقة أسهمت في تكوين شخصيتها، لذا بدت الجمل المختصرة في الفيلم وكأنها تفتقر إلى العمق، مختزلةً حياة امرأة عاشت حياتها عن وعي بأنها تُعاش مرة واحدة فقط، متحديةً قيود المجتمع التقليدية المفروضة على المرأة. ربما لهذا السبب اختارت خوض تجربة الحرب، مصممةً على ألا تفوّت تلك التجربة مهما كلفها الأمر.
يتعامل النص بسطحية مع الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية، معتمدًا على معرفة المُشاهد المسبقة بهوياتهم مثل شخصية النبيلة الفرنسية ومحررة الصحيفة سولانج داين (التي أدت دورها ماريون كوتيار)، الشاعر بول إيلوار، وحتى الرسام بابلو بيكاسو، الذين يظهرون ضمن أصدقائها في بداية الأحداث.
ومن أبرز الشخصيات التي أهمل النص تعميقها هما المصور الأمريكي ديفيد شيرمان، الذي رافقها في تصوير فجائع الحرب، ومديرة التحرير أودري ويزرس (أندريا ريزبورج) التي حاربت لنشر المادة التي ترسلها إليها من الجبهة. اقتصر تقديمهما على حضور سطحي في مسرح حياتها، ومرافقتها دون التمهيد لأهميتهما أو توضيح عمق العلاقات الواقعية التي كانت تربطها بهما.
افتقرت شخصية لي ميلر أيضًا إلى التعقيدات التي تثريها؛ إذ يركز النص على صراعها مع القيود الاجتماعية والصورة النمطية للمرأة، مثل منعها من حضور الاجتماعات العسكرية أو دخول الثكنات، فتضطر للتخفي في ملابس الجنود. حتى أنها تُمنع من الوصول إلى الجبهة خلال الحرب، وتُكلف بتصوير جرحى الحرب بدلًا من ذلك. مر النص مرور الكرام على التحدي المهني الذي واجهها حين تطلّب منها التعبير عن صورها بالكلمات ونقل ميدان الحرب للقراء. كما لم يتناول السيناريو صراعها الشخصي مع زوجها بسبب الحرب، بينما ركز بشكل رئيسي على الصراع النفسي الذي شكّل ملامح شخصيتها تدريجيًا، وصولاً إلى ذروته في الجزء الأخير من الأحداث.
يُعزى افتقار الشخصيات للعمق إلى الحوار المباشر والمتكرر الذي جاء سطحيًا في أغلب الأحيان، حيث اعتمد السيناريو عليه للتفسير بدلًا من الصورة. وفي مشاهد أخرى، كانت الشخصيات تبوح بمشاعرها بشكل صريح، رغم تواجد مشاهد غير حوارية أبلغ في إيصال معاناتها من الكلمات، مثل مشهد انهيار ديفيد شيرمان بعد رؤيته للفظائع التي ارتكبتها النازية بحق شعبه من اليهود، حيث جاءت اللقطات الصامتة للممثل أبلغ من أي حوار.
يبدو أن الفيلم ركز على فكرة المحظورات التي كانت تواجهها النساء آنذاك، حيث يتكرر سماعها على لسان البطلة أو تأكيدها على مدار الأحداث. نهاية الفيلم ستلقى إعجاب المشاهد الذي لديه معرفة مسبقة بحياة لي ميلر، وكذلك السبب وراء إخفاء هوية الصحفي الذي يحاورها.
لم يتمكن الفيلم من استغلال كوكبة الممثلين المشاركين فيه، بسبب ضعف شخصياتهم المكتوبة، إذ لم تُتح لهم المساحة الكافية للتألق، فتواروا خلف كيت وينسليت التي أنقذت الفيلم بأدائها المتميز. وينسليت لم تكن هنا ممثلة فحسب، بل شاركت في الإنتاج وساهمت في العمل على الفيلم لنحو 11 عامًا لتقديم حكاية لي ميلر إلى النور. رغم غياب التشابه الظاهري بينهما، منحت وينسليت الشخصية حياة مؤثرة، مركّزةً على تجربتها الثرية وتأثرها بالأحداث، ما أظهر بوضوح الخبرة الفنية التي اكتسبتها وينسليت طوال مسيرتها.
أبدت وينسليت وعيًا عميقًا بإقصاء النظرة عن جسدها للتركيز على تجربة المرأة وتأثرها بالأحداث التي عاشتها. في هذا الفيلم، تتبدّى الخبرة الفنية المتراكمة التي اكتسبتها وينسليت طوال مشوارها الفني، وقد حملت معها هذا الإعداد الطويل للدور.
يشير الكاتب بول وارن في كتابه خفايا نظام النجم الأمريكي إلى أن لقطة رد الفعل تساهم في خلق النجم السينمائي، فوصف أداء الممثل بـ”الإسفنجة” التي تمتص الأحداث، ويطلقها عبر ردود الفعل. وقد حضرت وينسليت تدريجيًا لتأثير الصدمة على لي ميلر، بدءًا من قرار الشخصية بخوض الحرب، مرورًا بمنعها من الذهاب للجبهة وتكليفها بتصوير الجرحى. أعطتها المخرجة لحظة وجيزة، وهي تستعد لدخول خيمة المصابين، ظهرت ردود فعلها بسيطة في البداية، مع تركيز الكاميرا الكامل على وجهها. لم تستعرض المخرجة الحرب بشكل تقليدي، فهذا ليس فيلمًا آخر عن الحرب العالمية الثانية، بل عن آثارها على امرأة اختارت أن تكون فاعلة في نقل الحقيقة، مما منح الفيلم أولوية لنظرة لي ميلر للحرب، وتحديدًا من خلال وجه وينسليت وامتصاصها التدريجي للصدمة.
تتأزم الشخصية في الثلث الأخير من الفيلم عندما تقرر لي الذهاب إلى معسكرات النازية لكشف سر اختفاء أصدقائها. كانت رحلتها من المدينة إلى خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال النازية أشبه بالهبوط الأسطوري إلى الجحيم، حيث رأت أجساد اليهود المتعفنة مكدسة في القطارات، ومعاناة الناجين الذين يعيشون في ظروف غير إنسانية.
تجسدت هذه المشاهد بوضوح عبر نظرات لي ميلر، حين خيم عليها الصمت وأصبح وجهها مرآة للصدمة، ليعبر عن هول ما تراه دون الحاجة للكلمات، مثل الفزع الذي شاهدته في عيون طفلة مرعوبة من رؤية زيها العسكري، مما أعاد إليها صدمة قديمة من الطفولة، أظهرته المخرجة بالقطع المتبادل بين نظرات الطفلة المذعورة ووجه كيت وينسليت الذي يعكس هلع الطفلة.
تألقت وينسليت بشكل خاص عند دخولها غرفة الغاز مع صديقها شيرمان، حيث أجلت المخرجة ظهور المنظر البشع للجثث المتكدسة فوق بعضها، ومنحت الفرصة لرؤية الخوف والاشمئزاز والحزن على وجهها، ليتبدى أثر الصدمة عليها، والشرخ الذي تصدع بداخلها.
قدمت المخرجة بعد ذلك، مشهدًا – يعد كوحدة بنائية رد فعل لما سبقه – في عام 1977 كاستجابة مباشرة، حيث نرى تأثر الصحفي عقب رؤيته للصور المفجعة التي التقطتها ميلر في غرف الغاز، لتظهر اللقطة العكسية في النهاية حالتها، والشراب الذي تعاقره لتخفيف معاناتها.
هنا تكمن قوة وينسليت كممثلة، حيث استخدمت الصمت كلغة للتعبير عن الألم والذهول، انعكست مشاهد القسوة في تعابير وجهها وتعبيرات جسدها المتوترة، مقدمة أداء عاطفيًا مؤثرًا.
تعاونت المخرجة مع مدير التصوير البولندي المخضرم باول إيدلمان صاحب الباع الفني الطويل مع المخرج البولندي رومان بولانسكي، مثل رائعته عازف البيانو- the pianist. تختلف بالطبع رؤية المخرجة لطبيعة الحرب وتأثيرها على بطلتها، عن رؤية بولانسكي ومحنة بطله، لأن الحرب في فيلم لي تعتبر شخصية ثانوية، لم تظهر بقدر ما كشفت عما خلفته على البطلة، لذا خلق مدير التصوير عالم ما قبل الحرب بألوان زاهية تستدعي الحنين لزمن جميل، وبهتت هذه الألوان وأصبحت أكثر قتامة أثناءها، وازدادت حدة كآبتها في القسم الأخير من الفيلم بعد انتهائها.
رغم جهود مدير التصوير، والقائمين على التدرجات اللونية، لكن هناك ما يشوب الإحساس العام بمصداقية الفترة الزمنية في الفيلم، مثل حركة المجاميع في خلفية المشاهد المتفرقة كان لها إيحاء مصطنعًا وليست أجواء حرب ومأساة واقعية.
كما لم تتحل المخرجة ولو بمقدار بسيط من جرأة الشخصية التي تتناولها، فمثلا مشاهد النزهة الخلوية في فرنسا في بداية الأحداث، إذا رأيناها في الصور الفوتوغرافية بعيون لي ميلر، سنجد أنها كانت تحاكي ما قام به الرسام الانطباعي مانيه في لوحته الشهيرة طعام الغداء في الحقل، عندما وضع الجسد العاري للمرأة الجالسة في مقدمة لوحته. كذلك فعلت لي ميلر مع صديقاتها في مقدمة الصورة، والى جانبهم الرجال بكامل ثيابهم، فخلقت حالة جريئة تتميز بها أعمالها من هذا التباين في الصورة.
لم تحاول المخرجة أن تكن بمثل هذه الجرأة في تصوير المشهد، ربما حتى لا تجذب عين المُشاهد بعيدًا عن الحوار الدائر بين لي ميلر ورولاند پينروس، لكن يحتسب لها نشاط الكاميرا وهي تلاحق لي ميلر طوال الفيلم، كانت نشيطة ومندفعة مثل الشخصية، ولم تكن سلبية ثابتة تحدق فيها من بعيد.
تلاءمت الملابس والمكياج والإكسسوارات مع تلك الفترة، لعل ابرزهم مراعاة طبيعية المكياج الذي لا يكاد ملحوظا للبطلة أثناء خوضها للحرب، أما الموسيقى فلم تكن موفقة دوما في اللحظات التي كان يجب أن يسودها الصمت، مثل مشاهد المعسكرات، استخدمت فيها موسيقى ذات طابع كئيب، لكن في أكثر اللحظات رعبًا ومأساوية إضافتها لتعزيز هلع المشهد.
إن الصدمات التي تعرضت لها لي ميلر في سبيل الكشف عن الحقيقة جعلتها تخفي نفسها عن عيون التاريخ، وانعزلت عن العالم الخارجي، مثلها مثل المصورة ڤيڨيان ماير التي تسببت التحيزات الجنسية في فناء موهبتها الفنية في التصوير الفوتوغرافي، ربما يفشل الفيلم في خلق توازي واضح بين التحيزات ضد المرأة في تلك الفترة مع ما اقترفته الآلية الذكورية للحرب ضدها، لكن من المؤكد أن هذا العمل له مكانته الخاصة في مشوار كيت وينسلت، التي حرصت على إعادة لي ميلر للحياة في وقتنا الحاضر.