كياروستامي الذي وضع السينما الإيرانية على خريطة العالم

(من أجل الوصول/ إلى الجنة/ يتحتم العبور/ من طريق الجحيم)

كياروستامي


جاءت مجموعة عباس كياروستامي “ذئب متربص/ الفن السابع 151- ترجمة ماهر جمّو” مفاجأة سارة في الأوساط السينمائية والشعرية، وهي مجموعة قصائد تمتزج فيها الصور السينمائية بالصور الشعرية، لدرجة لا ينسى القارئ العارف أن من كتب هذه الصور الشعرية  هو صانع صور أفلام، تدل إشاراته إلى طبيعة المواضيع الصعبة، التي يتناولها في أفلامه.


*  ساهيا/ ألج بيتاً/ لا يتقد فيه سراج. أو أنوي الخروج/ من حفرة كبيرة/ خطوة خطوة.

كتب الشاعر والناقد السينمائي  بندر عبد الحميد في المقدمة: إن اللقطات السينمائية “مكتوبة بالكاميرا القلــم” وإنها مقبلة إلى الورقة في لمحات ذكية ومكثّفة، “على شكل إشارات برقيــة في جمل قصيرة خالية من الحشو”.


تلتقي رباعيات الخيام وشعر الهايكو الياباني ورؤى ناسك السينما الفرنسية روبير بريسون في كتابه النادر ملاحظات في السينماتوغرافيا والزوايا العالية لعين الصقر أو الزوايا المتحركة لعين “الذئب المتربص” وعين الكاميرا الذكية في القصائد – اللقطات التي كتبها كياروستامي”:


* مهر أبيض
ولد
من فرس سوداء
في مطلع الفجر.


في 2 فبراير 1979 أنهى آية الله الخميني أعوامه الأربعة عشر في المنفى وعاد إلى إيران منتصراً.  وفي 19 يناير 1981 استطاعت الثورة أن تطيح بالنظام البهلوي وأمر الخميني بإجراء استفتاء وطني اختار فيه أغلب ألإيرانيين دستورياً، أن تكون جمهوريتهم إسلامية. وابتداء من 15 أكتوبر 1979 أصبح عباس كياروستامي، شأنه شأن آلاف المثقفين والفنانين، يعيش في جمهورية إسلامية.


* هذا التعب/ ليس تعب اليوم/ إنه ميراث/ وصلني من أسلافي..
ولد كياروستامي وترعرع  في العصر المجيد للحداثة الشعرية الفارسية وكان تاريخ إبداعها الشعري وراء نشأته رؤيته البصرية للواقع واستطاع أن يزاوج بين شعرها الحداثي والسينما الإيرانية على أفضل وجه. وحين لفَّت إيران حماسة ثورية هائلة شغلت كياروستامي قضية مختلفة تماماً وكان برنامجه يختلف عن وعود الثورة وآلامها، عن ثقافة الموت والإنكار، عن الميتافيزيقيا والصوفية وعن الكتمان والشك. وقد حقق باستمرار في برنامجه السينمائي رؤيا الحياة على الأرض والتيقن من الواقع ومعانقة الوجود البهيج الآني.


في كتاب المفكر والمؤرخ والمنظر حميد دباشي عن السينما الإيرانية “لقطة مقربة” الذي أصدرته المؤسسة العامة للسينما في سلسلة الفن السابع (56 / 2003)- ترجمه عارف حديفة)، يقدم قراءة نقدية شاملة وعرضاً تاريخياً غنياً وموثقا لماضي وحاضر المجتمع والسينما ألإيرانية ويسلط الضوء على مخرجيها البارزين. ويذهب بعيداً عن تلك القراءة المألوفة للسينما الإيرانية التي تسقط في فخ الدعاية وتستحسن أفلام ما تسمى سينما المؤلف أو الأفلام الفنية التي هي في الواقع، كما يرى غير ذات صلة بالناس، لا تنجح في العروض المحلية ويجدها أكثر واقعية من الواقع، تتقبل الواقع القائم، لكنها تعجز عن تشكيل الفعالية التاريخية لشخصياتها كما يجد أن أفضلها تجاوز مركز أرض المجتمع الراهن إلى العالمية.

* زورق بلا شراع/ بحر بلا رياح/ سماء بلا قمر
في أواسط الثمانينيات شغل المشهد السياسي الإيراني بوقائع شديدة القسوة، إذ احتدمت الحرب الإيرانية العراقية، وفي جو الحرب وأزمة الرهائن الأمريكيين اقر منظمو الجمهورية الإسلامية، بناء على الدستور الجديد، دمج جميع منظمات المجتمع المدني في جهاز الدولة، وفرض مجموعة قواعد للسلوك تعود إلى العصر الوسيط. وفي ردة فعل على عمليات مجاهدي خلق سحقت كل أنواع المعارضة، وسقط قادة ثوريون عديدون من بينهم الرئيس بني صدر. وفي مثل هذه الأحداث المثيرة انصرف كياروستامي يصنع سينما” سياسية” بعيدة عن السياسة ويتجاهل من حوله العالم ليجعله يستسلم لأنواع بديلة من الدلالات والمعاني بدل الاستسلام لميتافيزيقيا الأخلاق.


بعد عقدين من الزمن علاوة على قرنين من الصدام العنيف مع استحالة بناء مجتمع حديث متحرر اختار جيل سميرة مخملباف أخيرا أن ينظر بصرياً ألشيء في ذاته، فبعد ثورة أريد منها أن تنهي كل الثورات ينفي جيل سميرة تجربة كل شيء بالنسبة لنا ليعيده إلى “الشيء في ذاته”. إن صانعي الأفلام الجدد عندهم مناعة ضد تحويل ذواتهم المبدعة إلى ذوات عامة، والسبب إنهم أبناء ثورة وحرب، ومن ثم هبة ديمقراطية، تجاوزوا ذواتهم ” فهم، من جهة، شاهدو في الثورة أبا البلاد يموت ميتة مهينة، كما شاهدوا جدهم يرسل إخوانهم ليهلكوا بالملايين في الحرب. وهم في انتفاضتهم المجيدة، من جهة أخرى، لا ينصاعون إلى أي أب، ميتاً كان أم حياً، لأنهم صاروا “أبناء السماء والأرض”.


* أقف على جرف عال/ وفي قعر الوادي/ ظلي/ يناديني.
من المؤكد أن لدى السينما الإيرانية الكثير مما يمكن أن تقدمه إلى العالم ولقد ناقش المؤلف حميد دباشي الموضوعات الشديدة الإثارة في أعمال مخرجيها الكبار وأكد أن كياروستامي، الذي ورث موهبة غنائية ترى الجمال والحياة وسط حتمية وجود لا يطاق، هو أول شاعر بصري في الأمة الإيرانية، وضع السينما الإيرانية على خريطة العالم.

Visited 39 times, 1 visit(s) today