كوينتن تارانتينو: جاء إلى السينما ليدفع المتفرجين للجنون!

أخيرا أعلنت الشركة المنتجة للفيلم الجديد للمخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو”الحاقدون الثمانية” The Hateful Eight الذي يجري تصويره حاليا، سيعرض في عدد من دور العرض الأمريكية في الخامس والعشرين من ديسمبر القادم (يوم عيد الكريسماس) في نسخ من مقاس 70 مم في سابقة لم ترها دور العرض الأمريكية منذ أكثر من عشرين سنة. ويقوم تارانتينو بنفسه بالتأكد من تزويد دور العرض المستهدفة في عدد من الولايات الأمريكية، بآلات العرض من مقاس 70 مم. وبعد أسبوعين من عرض الفيلم بهذه التقنية، سينزل الفيلم الى باقي الدور في أمريكا والعالم، في نسخ رقمية.

ظل تارانتينو يتكتم طويلا على موضوع فيلمه الجديد. وكان قد أعلن في العام الماضي، إلغاء مشروع فيلم جديد كان يعتزم البدء في تصويره بعد أن تسربت نسخة من السيناريو ونشرت على الانترنت. أما “الحاقدون الثمانية” فقد أصبحنا نعرف الآن أنه سيضم باقة من الممثلين، منهم بعض من ارتبطوا بالعمل في أفلام تارانتينو مثل تيم روث ومايكل مادسن وصامويل جاكسون، مع عدد من النجوم الذين لم يسبق لهم العمل مع تارانتينو مثل جنيفر جيسون لي ودميان بشير وكيرت راسل وبروس ديرن. ويصور الفيلم مغامرة يقوم بها عدد من الأشخاص بعد سنوات من نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، منهم رجل شرطة وصائد للمجرمين الهاربين ومجرمة هاربة من تنفيذ حكم بالسجن، وضابط أسود في الجيش الفيدرالي، تضطرهم عاصفة ثلجية للاحتماء داخل موقف لعربات السفر في منطقة جبلية في ولاية ويومنغ. ولا نعرف بعد أن تنتهي العاصفة هل سيصلون إلى هدفهم أم سيواجهون مشاكل من نوع آخر.

أصبح أي فيلم جديد لتارانتينو يعتبرحدثا يثير اهتمام الموزعين والنقاد والملايين من عشاق سينما هذا المخرج الذي أحدث ظهوره قبل 23 عاما مع فيلم “كلاب المستودع” Reservoir Dogs انقلابا في تاريخ السينما الأمريكية، خاصة في صياغة أفلام الجريمة التي تحولت على يديه إلى بناء سينمائي شديد الجاذبية، كأنها رقصات رعب ومرح، وقتل يمارس كلعبة عبثية، وهي عادة تمتليء بالشخصيات العدمية، التي لا تكف عن الصياح والشجار وتبعادل الاتهامات والشتائم، تقطعها مشاهد تسيل فيها الدماء أنهارا. لكن على الرغم من الاتقان الشديد في تنفيذ هذه المشاهد الدموية، واقتباس بعضها من أفلام أخرى تنتمي إلى ما يعرف بـ “الفيلم – نوار”، إلا أنها باخلاصها لما يدور في الواقع (من مشاحنات وصياح وهياج عصبي..الخ) تتخذ طابع الكوميديا مع بلوغ الإحساس بعدمية اللحظة نفسها. فكل شيء في أفلام تارانتينو لا معنى له، فما تفعله من الممكن جدا أن يؤدي، إما إلى النجاة، أو إلى الهلاك. وما تظنه ضعيفا يمكن أن يفاجئك بقوته الكامنة فجأة ويصعقك بها، فالقوة والحق والحقيقة كلها أمور نسبية، والواقع بالمعنى الكلاسيكي لا وجود له، بل لدينا واقع آخر نخلقه نحن من خيالاتنا وأوهامنا ورغباتنا، والصدام الذي ينتج ما هو سوى نتاج لرغبتنا في تطويع الواقع لما نريده ونسعى لتحقيقه: المال والجنس والسلطة!

نهايات أفلام تارانتينو نهايات خيالية، تعني أن الخيال مستمر، وهي نهايات غير تقليدية تكاد تدفع الجمهور إلى الجنون فرغم أنها ليست نهايات سعيدة إلا أنها لا تغلق الدائرة ولا تنفي الاحتمالات.

ظهور الفنان

جاء كوينتين تارانتينو (52 سنة) من الظل ليصبح واحدا من أهم المخرجين الأمريكيين في كل العصور. وهو لا يخرج الأفلام فقط، بل يكتبها وينتجها ويمثل فيها أحيانا. لم يدرس تارانتينو السينما في المعاهد الأكاديمية بل التحق في البداية بمدرسة للتمثيل لكنه لم يكمل دراسته وهجرها لكي يعمل لمدة 6 سنوات، في مستودع لتأجير شرائط الفيديو، حيث ظل يفحص مئات الأفلام ويستمع لآراء المترددين على المستودع ويدقق فيما يطلبونه من أفلام، إلى أن قرر في أواخر الثميانينيات أن يكتب للسينما قبل أن ينتقل للإخراج بفيلمه الأول “كلاب المستودع” (1992).

“كلاب المستودع”.. أسلوب جديد في أفلام الجريمة

على مستوى ما، نحن أمام شخصيات حقيقية من لحم ودم، تجتمع معا، كما نرى في المشهد الأول، في مطعم، يتناولون الطعام ويتبادلون الحديث والتعليقات الجنسية يخلطون الجد بالهزل، يبدون مثل الأطفال في مشاحناتهم. ولكن على مستوى ثانٍ، نحن لسنا هنا أمام “واقعية جديدة” على غرار واقعية دي سيكا، بل واقعية الفيلم- نوار، أفلام الجريمة الأمريكية التي كلما زادت الدماء فيها كلما أصبحت أقرب للسيريالية، أي تجاوزت نطاق الواقع إلى الخيال المطلق، خاصة وان تارانتينو لديه القدرة على أن يشدك داخل الفيلم، يجول بك في متاهات الشكل السردي المتعرج الذي يختاره عن قصد، لا لكي يفقدك القدرة على المتابعة والربط بين الأحداث والشخصيات، بل على العكس، لكي يجعلك تعيد قراءة الفيلم في ذهنك كما لو كان ممتدا ومستمرا حتى بعد أن ينتهي عمليا على الشاشة.

إننا أمام ثمانية من اللصوص المحترفين، يستعدون للقيام بسرقة محل للمجوهرات تحت قيادة زعيمهم المخضرم “جو كوبوت”. بعد ذلك سنرى اثنين منهم في سيارة وأحدهم ينزف بغزارة، ومن هذا المشهد الذي يستغرق 7 دقائق ونصف على الشاشة، محطما كل تقاليد أفلام الجريمة، سنعرف ان العصابة فشلت في سرقة محل المجوهرات بعد أن فوجئوا بهجوم الشرطة على المكان، وانهم هربوا وأن صاحبنا أصيب بطلق ناري من فتاة.. سنعرف يما بعد عندما يستعيد تارانتينو لنا المشهد، أن الفتاة أطلقت الرصاص لكي وهما بصدد الاستيلاء على سيارتها. وبعد أن يصلا ليهربا بها الى مخزن كبير، حيث يأتي عضو ثالث في العصابة، وتبدأ مناقشة طويلة حول احتمال اختراق العصابة من قبل عنصر تابع للشرطة. أما الشاب الذي ينزف بغزارة على الأرض، فلا يبدو أن أحدا يهتم به.

تارانتينو يسرد الأحداث دون ترتيب زمني، بل يبدأ مما انتهت إليه محاولة السرقة الفاشلة، ويستعيد ما حدث ثم يعود للماضي، وينتقل منه إلى الحاضر وهكذا وصولا الى النهاية. يستغرق المشهد الذي يدور داخل المخزن 9 دقائق و12 ثانية، ومع ذلك ليس من الممكن القول إننا أمام فيلم “مسرحي” رغم كثرة الحوار، فتارانتينو يستخدم حركة الكاميرا التي لا تكاد تكف عن الدوران، تماما كما في المشهد الأول الذي يدور في المطعم حيث كانت تلتف حول الشخصيات، ترصد وتراقب عن قرب ملامح الوجوه والشخصيات. وهو يينتقل عبر القطع المفاجيء إلى مشهد يمتليء بالحركة، حيث نرى من مطاردة الشرطة لمستر “بينك” وكيف يقتل شرطيين، ثم يهرب ليصطدم بزجاج سيارة يهشمه، لكنه ينهض ليستولي على السيارة بعد ان يلقي صاحبتها في الشارع. ونعود إلى المخزن حيث يحضر “الزعيم” أخيرا، لنصل إلى قمة العبث. ولاشك أن من أهم ملامح سينما تارانتينو ذلك الحوار الذي يبدو لا معنى له، لكنه يلخص ملامح الشخصيات بطريقة شديدة الإقناع، كما يفجر الكوميديا رغم أن الشخصيات تستخدمه في سياق الجدية التامة. وشخصيات الفيلم، هؤلاء الرجال الأشداء الذين يسرقون ويقتلون بدون تردد، هم مجرد أطفال كبار، ويوجد بينهم أيضا من يتمتع بحس إنساني وطيبة القلب مثل “هوايت” الذي يصر على الدفاع عن الشاب الذي ينزف مستبعدا كونه عميلا للشرطة.

خيال رخيص

في فيلمه التالي “خيال رخيص” (1994) Pulp Fiction  يعمق تارانتينو السرد السينمائي من خلال أسلوب تداخل الأزمنة وتقاطع مصائرالشخصيات، مع بعض الاقتباسات من أفلام أخرى شهيرة، ولكن الفيلم يبدو أكثر “سينمائية” وجرأة من الفيلم الأول وقد حقق مفاجأة عندما حصل على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان.

في المشهد الأول نرى كيف يقرر “بومبكين” (تيم روث)، وصديقته سرقة زبائن المطعم الذي يجلسن فيه، ثم ننتقل إلى “جولز” (صامويل جاكسون) الذي يعمل لحساب زعيم عصابة أسود شديد القسوة هو “مارسيلوس” مع زميله “فنسنت” (ترافولتا)، ومن هذا المدخل نعود لمتابعة كيف سينتقم الرجلان فيما بعد من هذا الفتى الأحمق، ثم كيف سيصاحب فنسنت “ميا” (أوما ثيرمان) زوجة مارسيلوس، الى ملهى ليلي يحتفظ بطابع الخمسينات، ليجد نفسه بعد انقضاء السهرة وبعد أن تفرط المرأة في تعاطي الكوكايين، في مأزق بعدما تسقط “ميا” فاقدة الوعي ولا يعرف كيف يتصرف. ثم ننتقل الى الملاكم العجوز “بوتش” (بروس ويليس) الذي يتفق مع مارسيلوس على أن يخسر مبارة للملاكمة عأمام خصمه، لكنه يقتل الملاكم الخصم ويهرب ليتورط في مغامرة، يكتنفها الكثير من العنف. ونعود الى فنسنت وجولز لنرى كيف يتورطان في قتل رجل في سيارتهما ثم لا يعرفان كيف يتخلصان من آثار الجريمة، فيرسل لهما مارسيلوس رجلا متخصصا في تنظيف مسرح الجريمة هو “مستر وولف” (هارفي كيتل)، الشخصية المقتبسة من فيلم “نيكيتا” للوك بيسون.

حقق فيلم “خيال رخيص” نجاحا مذهلا رغم جرعة العنف الكبيرة  

في الفيلم كثير من مشاهد العنف والقتل، كما يمتليء بالأحاديث الطويلة عن الأفلام مثل “مدافع نافارون”، وقصة “الساعة الذهبية” التي يتوارثها الأبناء جيلا بعد جيل، ثم التعليقات العنصرية الفظة، إلى جانب مناقشات حول الولاء والالتزام الأخلاقي والمعجزات الربانية واحترام الكبير ويد “العناية الإلهية” والرغبة في التوبة عن الجريمة والعودة إلى الصواب. لكن الفيلم ينتهي من حيث يبدأ لكي يترك للمشاهدين العثور على الترتيب الذي يتفق مع تفكيرهم.

قصة خيالية

في فيلم “أوغاد مجهولون” (2009) يروي تارانتينو قصة خيالية تصور كيف تمكن يهود أمريكا من تجنيد قوة خاصة للقضاء على النظام النازي وإنقاذ أقرانهم اليهود من مصيرهم الأسود خلال الحرب العالمية الثانية، كانت تلك القوة تتسلل خلف خطوط العدو في أوروبا، تقتل ثم تسلخ رءوس الجنود الألمان.

ينتقل تارانتينو هنا بين أساليب عدة، من الويسترن، إلى الفيلم الحربي، إلى الكوميديا، ويبدو متأثررا بأفلام قديمة مثل “حدث ذات مرة في الغرب” لسيرجيو ليوني ، و”مزيد من الدولارات”، و”العصبة القذرة”، وهو يصور باستمتاع عالم السينما (نرى مثلا هتلر ورفاقه يشاهدون فيلما طويلا عن أمجادهم قبل أن تنفجر دار السينما)، ويصور التلصص على الجنس من فتحة في الباب، يسخر من التاريخ المروي، ويهتم أكثر هنا بدور المرأة، وكلها من مفردات ما بعد الحداثة.

وفي فيلمه الأكثر طموحا “جانغو طليقا” Django Unchained يخوض بطله “جانجو” وهو عبد أسود في الجنوب الأمريكي، مغامرة مع رفيقه (دكتور شولتز) الذي يطارد الهاربين من العدالة ليقتلهم ويعود بجثثهم لمبادلتها بالمال!

وبعد أن يساعد جانجو شولتز في الكشف عن ثلاثة أشقياء وقتلهم، يمنحه شولتز حريته ثم يتخذه شريكا له، وينتقل الاثنان من ولاية إلى أخرى، يحققان النجاح ويجنيان الثروات، وأخيرا يقرر شولتز أن يساعد رفيقه في تحرير زوجته من العبودية بعد أن يعرف أنها موجودة في ضيعة رجل اقطاعي يمتلك عددا كبيرا من العبيد والجواري.

ما يجعل من هذا الفيلم عملا كبيرا سياقه السردي وقدرة تارانتينو الشهيرة على التلاعب بالأسلوب، مسلطا الضوء على الكثير من الأفلام يحبها، مستخلصا منها ما يناسبه، فهو يستعيد أجواء “الويسترن سباجيتي”، من الستينيات، ويحمل فيلمه بالكثير من التعليقات السياسية التي تعكس موقفا سياسيا  ناضجا غير مسبوق في سينما تارانتينو.

ترى ماذا سيقدم تارانتينو في فيلمه الجديد القادم؟ هذا  ما نتطلع إليه.

Visited 57 times, 1 visit(s) today