كوبريك وبولانسكى ومدرسة صناعة التشويق بين فيلمين
قد لا يتشابه موضوع الفيلمين، ولا تتماس طريقة تنفيذهما تحديدا إلا فى نقاط طفيفة، بينما يبقى المِنهاج واحدا، والأجواء لها مبدأها الواعى الرصين، لا تُحيد عنه، ولا يتوه منها. تطبخه على مهل، بمزاجية حِرفى، ورائقية صانع سينمائى كُفء. مدرسة مغايرة، اللقطة فيها لا تنطوى على ما يثير قبضة النفس، وإنما يبلغ بها ذروة الشغف، يموضعها فى مكان محدد من الذاكرة، لا تخرج منه أبدا. لقطة خُلقت لتبقى، لم تولد كى تمارس الفزع، بينما ولدت كى تخلق منه شهية سينمائية لا ترتبط بالضرورة بفن الرُعب.
مدرسة تواطأت فيها كافة العناصر لغزل حدوتة غريبة الأطوار، نُسجت بعين مخرج يضع الأسلوب فى مقامه الأول، فبدت ألاعيبه وحيله السينمائية أقوى فاعلية من سحر الحكاية ذاتها. فيلمان كل منهما يقوم على أصل أدبى، وفى كل منهما تنتفى لعنة سطوة هذا النص الأدبى، تستبقه الحالة السينمائية، وتتبدى هى الأزهى والأقيم من كل شىء .
السيناريو
فى فيلم “البريق” The Shining، يعتمد كوبريك فى بناء السيناريو، على التباطىء فى تقديم الحدث، على الرغم من دخوله فى صلب الموضوع رأسا، إلا أنه إختار أن يُمهد بنضج للحدث القادم، فمثلا، نراه لم يضيع وقته فى مشاهد للتعريف بجاك وأسرته، وإنما بدأ أولى مشاهده بالمقابلة التى يجريها جاك مع أصحاب الفندق الذى ستتمحور حوله الأحداث، مع توازى بسيط وذكى على عائلة جاك لتبيان موهبة التخاطر التى يمتلكها دانى ابنه.
فى لفتة شديدة الذكاء، تعمد كوبريك أن يوارى الحدث، فى أول المشاهد الذى تتبدى فيها موهبة دانى، بينما إختار لنا أن نرى الصغير يحادث نفسه أمام المرآة فى الحمام، ومن ثم يغرق السواد الشاشة، وبعدها تظهر الطبيبة وهى تتفحص دانى على خلفية حوار تفيد بأن ثمة حادث ما أصابه أثناء المشهد السابق.
حينما يرصد هذه الواقعة مخرج آخر، قد لا يُمرقها من دون استغلال، فهى فى مدرسة أخرى مادة خصبة لصياغة الرعب، وهذا بالضبط هو الفارق بين تناول مخرج مثل كوبريك لرواية ستيفن كينج بأكملها، وبين غيره من مخرجي سينما الرعب، فكوبريك طوع جمال الرواية لرؤيته، ومنحها طابعا سينمائيا خالدا، لم يكن له أى وجود من الأساس إن نفذها غيره، ونفخ فيها من روح الرُعب اللحظى .
التوازي
شدد كوبريك على فكرة التوازى بين الحدثين، مما ألهب وقع اللقطات وقوى من أثرها، فمثلا نرى التوازى بين المشهد الذى يصرخ فيه جاك، وبين خطوات ابنه دانى صوب الغرفة التى وقعت فيها الحادثة المشئومة بالفندق. وآخر نراه حينما يواجه جاك شبح المرأة فى حمام نفس الغرفة، بينما يحاول دانى أن يستنجد – عن طريق موهبته- بالطباخ الزنجى الذى أظهر له الكثير من الطيبة والترحيب فى بداية الفيلم، مما يؤهله للجوء إليه. إنها ذات الحرفية فى بناء السرد، إرجاء ما قد يراه البعض من مشهيات الرعب، والإتكاء فى خلق الفزع على شكل الحكى.
اعتمد رومان بولانسكى، نفس التمهل فى سيناريو فيلم “طفل روزمارى” Rosemary’s Baby، ففى ترتيب مدروس، بدأ فى سرد الأحداث رويدا روديدا، بل بدأ بداية ناعمة، مبشرة فى شكلها ومضمونها، خدشها ببعض اللقطات الموحية (مثل اللقطة التى يتعجب فيها السمسار وهو يبيع روزمارى وزجها الشقة من انتقال الدولاب من مكانه). واستمر الحدث على خطاه الموزونة، مُخلفا من ورائه أكثر من علامة استفهام، ما يمس العقل منها، مس المخيلة، وحمى وطاس ومضات التوتر. وعلى الرغم من أنه وشى بسر المبنى الذى انتقلت إليه روزمارى وزوجها منذ بداية الفيلم، إلا أنه حرص على أن يتأتى الكلام عنه فى سياق مطمئن هادىء، لم يستغله كنبتة مبدئية لزرع القلق، بينما خاض تحديا أكبر، بأن يجعل شكل ردات الفعل للممثلين، والمحاكاة المرئية عموما هى أهم عوامل الفزع.
الصورة
اختزل كوبريك الكثير من المعانى باستخدامه الصورة فى لقطات معينة، مثل اللقطة التى يظهر فيها انعاكس جاك نيكلسون فى المشهد الذى توقظه فيه زوجته ليتناول الإفطار معها، ويتحدثا سويا فى رواق عن سهرتهما معا ليلة البارحة، ومن ثم وبعد مضى وقت من تطور الحدث فى الفيلم، تعيد لقطة أخرى انعكاس شكل نيكلسون فى المرآه بعدما بدأت روحه تتأثر بالشر الموجود بالمكان، فنرى ابنه دانى يدخل الغرفة ليحضر شيئا، وبالصدفة يقابل والده جالسا على السرير فى حالة من الغياب بعينين نصف طيبتين، وفى انعكاس مغاير تماما عما تبدى فى اللقطة السابقة.
اللقطات اللاهثة التى كان الصغير يتبدى فيها راكبا فوق عجلته، يجوب أروقة الفندق الفارهة فى لُهاث ملفت، دون حدوث شيىء بعينه، وموازاتها فى المرة الأولى، بلقطة خطوات الأم وهى تُزك بعربة الإفطار فى الرواق وصولا لغرفة زوجها. وبالرغم أن اللقطتين لم ينتهيا على ما توحيان به من فاجعة، إلا أن لحظات الترقب ذاتها، زادت من رصيد الشغف، وجمالية الإنتظار، ورسبت للعلاقة السلبية التى يرغب بها كوبريك، بين المتفرج وبين أبوهة هذا المكان الشَرِه المخيف.
هذا بخلاف الإصرارعلى اللقطات الضيقة التى تتوسع فى تباطىء مُلهم، والتى استخدمها كوبريك طوال الفيلم، سواء فى رصد تعبيرات الوجوه، أو فى تبيان فخامة الفندق، وهى اللقطات التى ساهمت فى خلق جو من الغموض، ومنحت الفيلم لغة خاصة.
وفى مشهد حادثة دانى بالحمام فى أول الفيلم، ساهمت الصورة فى إضفاء نفس الأجواء، حينما التقطت لمدة ثوانى صوت دانى وحده، فى كادر من بعيد، يتبدى فيه بعض أجزاء من جسده وهو يعتلى الكرسى ليواجه المرآه، ويتحدث أمامها، تماما مثلما فعلها بولانسكى فى فيلم “طفل روزمارى” حينما رصد كادرا فى غاية الجمال، وقتما نظرت روزمارى وهى فى المطبخ مع جارتها غريبة الأطوار إلى الصالون فى الخارج، فنقلت الكاميرا صورة جزء من الصالون يشوبه الصمت والسكون، تستقر فيه قطع الأثاث فى هدوء مُقبض على سجادة حمراء قانية، وبعض من نفثات الدخان تتأتى من الناحية اليمين للصورة، وهى الناحية التى يجلس فيها زوج روزمارى مع زوج الجارة العجوز، فأسهب بولانسكى فى إيجاز عدد من النزعات التآمرية التى تحدث فى هذا الوقت بين الزوج والجار، لم تشهد عليها الكاميرا تفصيلا، وإنما شعرت بها ونقلتها موضوعا. المؤامرات التى يفتش الفيلم سرها فى النهاية، بينما تظل على صورتها الغامضة وبهذا الكادر الرائع، أيقونة مرئية بديعة فى بعث القلق والغرابة.
مشهد آخر تعمد فيه بولانسكى أن يبتعد عنه بالكاميرا، وهو المشهد التى تهدى فيه الجارة طبقين من الحلوى لروزمارى وزوجها، حيث يتبدى صوت الجرس، فيخرج الزوج للباب والكادر ثابت على وجه روزمارى، وهى تتنصت للحديث بين الجارة وزوجها، يرِن صوت الجارة فى صدى له وقعه، ويظل متواريا خلف رنته إلى نهاية دوره فى المشهد، فى إيحاء رائع وتحفظ يماثله روعة، يُقوى من شكوك المتفرج وفى الوقت ذاته ينفيها صوب هذه الجارة الودودة، التى تتحدث بإنطلاقة وطفولة لم يُذهبها أصداء الصوت، وفى آن واحد يوشى بأن ثمة ما يستعدى القلق فى اخفاء الرؤية وتحييدها بهذا الشكل.
الكادرات المُلفتة التى بدا عليها كل من وجه رومان ومينى (نفس الزوجين الفضوليين فى الشقة المقابلة لروزمارى)، فى أول ظهور لهما، حيث أطل كل منهما فى كادر بمفرده، فى صورة مقعرة بعض الشىء، لا يسهل ملاحظتها، بينما حرص بولانسكى على وجودها رمزيا بشكل غير فاضح، يشى ولا يُفصح كعادته طوال استخدامه للكاميرا على مدار الفيلم. مثلها مثل اللقطات الأولى للشقة وقت انتقال روزمارى وزجها، الكادرات النصفية لأرجلهما وهم يتحركون فى داخلها، والأجواء العادية والمنتظرة من شقة خالية من الأثاث، تتأهب لساكنيها فى ليلتهما الأولى، ولكنها تنقل فى الوقت ذاته شبح الغموض والتوتر. إضافة إلى الكادر الرائع فى المشهد الذى ضبطت فيه روزمارى نفسها وهى تتلذذ أكل اللحم النيىء.
اللقطات المبدئية التى بدأ بيها كوبريك فيلمه أثناء التتر، هى ذاتها التى اعتمدها بولانسكى، الكادرات الموحية فى الأول لشكل الطرق المؤدىة للفندق، وفى الثانى للمبنى الذى ستنتقل إليه روزمارى وزوجها.
الإضاءة
تجلى شغل الإضاءة فى فيلم كوبريك، أثناء مشاهد بعينها، بغض النظر عن براعتها طوال الفيلم، بينما بدى مشهد المطاردة بين جاك وزوجته على السلم قبل أن تضربه بمضرب البوسيبول، من المشاهد الملفتة فى استخدام الإضاءة، التى تركزت فى حُمرة دامية على وجهه، قصدته هو دون الأشياء من حوله، فتبدت شيطانية جاك واضحة. مشهد آخر، ظهر فيه التباين بين النور والعتمة، وهو المشهد الذى يتحدث فيه دانى لوالدته بشخصية تونى قائلا ” دانى ليس موجودا الآن “.
وتباين النور والعتمة من النظريات النى تبناها بولانسكى بكثافة فى “طفل روزمارى”، حيث انتصب وجود مينى ورومان دوما فى بقاع معتمة مقارنة بروزمارى، ظهر هذا بوضوح فى المشهد الذى هرولا فيه لمباركتها الحمل، فدخلا من الباب فى خطوات طويلة ومزعجة داخل الرواق فى عتمة شديدة حتى وصلا إليها فطالهما بعض من النور. فى الوقت ذاته، نجد روزمارى قرب نهاية الفيلم، وهى تدخل إلى شقتهما باحثة عن رضيعها الصغير، تسير فى نفس العتمة فى رواق مُشابه وكأنها بشكل أو بآخر، تفض مساحة عالمهما المعتم بأكمله وليس شقتهما وحدها. وهى لقطة لها دلالتها أيضا عند التفكير فى نهاية الفيلم، حينما تناست روزمارى شيطانية هؤلاء القوم، فى سبيل مزاولة أمومتها فأصبحت تنتمى لعتمتهم بشكل أو بآخر.
الموسيقى
اعتمد كوبريك على الموسيقى بشكل ملحوظ، فأسهب فى استخدامها طوال الفيلم إلا فى مواضع نادرة، وبعيدا عن النظرية التى تتبنى إرساء مبدأ ضعف النص وقت تكثيف استخدام الموسيقى التصويرية، فإن كوبريك خلق معجزة بصرية ونفسية لا تخضع لقواعد، وأجاد توظيف موسيقاه المقبضة فى أماكنها حتى وإن كثُرت، أفسح لها دوار عظيما فى فيلمه، لم ينفى أبدا قوة نصه أو محاكاته المرئية، أو حتى دور ممثليه المختارين فى أناقة وألق مخرج واعى.
أما بولانسكى، فاختار نوعين من الموسيقى، استخدمهما فى حرص شديد، النوع الأول هادىء له سمة طفولية وحميمية، لجأ إليه فى المشاهد الأولى، وفى مشاهد إعدادات روزمارى لمستلزامات ما قبل الولادة، وابتياع حوائج الطفل، رغم أن الفيلم قد مرق بنصف أحداثه، ومر بالعديد من المشاهد المتأزمة التى استخدم فيها النوع الثانى من الموسيقى المقبضة المفزعة، فكان من الجرأة التى تؤهله بأن ينقل الفيلم من حاله لأخرى نقيضة لها، دون أن يُفقد المتفرج شغفه أو يُفقد الفيلم ايقاعه المنسجم.
آخر كلمتين:
– اللقطات التى يضرب فيها جاك بالفأس، فى فيلم “البريق”، تتحرك فيها الكاميرا مع الفأس بتكنيك مميز، ومتفرد، وخصوصا وأن الفأس هى ذات الأداة التى استخدمها نظيره السابق فى قتل ابنتيه وزوجته.
- برع بولانسكى فى تصوير مشاهد الهلاوس المتتالية، فى حلم روزمارى الذى يبنى عليه الحدث بأكمله فيما بعد، تنفيذا وتوظيفا للموسيقى .