كان 70: دراما السقوط في روسيا وخيال الصغار وشبح اللاجئين

فيلمان من روسيا والمجر، وفيلم من الولايات المتحدة حصيلة عروض المسابقة الرسمية حتى الآن في الدورة الـ70 من مهرجان كان. البداية قوية تبشر بمنافسة شديدة على “السعفة الذهبية”، التي تتيح أمام الفيلم الذي يحصل عليها الكثير من الفرص في أسواق التوزيع العالمية. هناك تميز على مستوى الفن وعلى مستوى الصنعة وعلى مستوى الخيال، ولاشك بالتالي أننا أمام اختيارات تمت بدقة وتدقيق شديدين من إدارة المهرجان.

من دون حب

الفيلم الروسي “من دون حب” Loveless للمخرج أندريه زفيغنتسيف صاحب التحفة “لفياثان” (أو وحش البحر) يعود ليرسخ إسم قدمي بقوة ويجعله مع زميله الكسندر سوكوروف، أهم مخرجي السينما الروسية حاليا. ورغم عناصر مشتركة يمكن أن نلحمها بسهولة في طيات هذا الفيلم المثير للتأمل، مع أفلام أخرى لكبار المبدعين السينمائيين وعلى الأخص انغمار برغمان، إلا أن الفيلم ينتمي أولا وأخيرا إلى عالم وأسلوب مخرجه الروسي.

نحن في موسكو المعاصرة، أمام زوج وزوجة: “بوريس” و”زينيا”، وهما زوجان في المرحلة الأخيرة من الطلاق، يعرضان الشقة التي يشتركان فيها للبيع، الرجل مندوب مبيعات في إحدى الشركات، يبدو من البداية ضعيفا مهتزا، يخشى أن يخبر رئيسه في العمل بأنه يطلق زوجته لأن الرجل أرثوذوكسي متشدد يرفض أصلا فكرة الطلاق ولا يحتفظ بموظفين من غير المتزوجين أو ليس لديهم أبناء. أما المرأة فهي تدير صالونا للتجميل وتبدو مشغولة كثيرا بنفسها وجسدها. كل من الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، لا يكفان عن تبادل الاتهامات، وبينما يبدو بوريس أكثر انطواء وجبنا عن المواجهة، تبدو زينيا شرسة، حادة الطباع، تختلق أي مناسبة لصب لعناتها على الرجل وتوجيه أبشع الاتهامات له. الطلاق واقع لا محالة، لكن المشكلة الآن تكمن في ابنهما “الكسي” (أو أليوشا) طفل الثانية عشرة الذي تصيبه مشاجراتهما بالاضطراب الشديد بل ويصدمه أن يسمع أمه تعتبر وجوده في الحياة خطأ كبيرا. هذا الهذيان المستمر يؤدي إلى اختفاء اليوشا بينما لا تعرف أمه المشغولة بنفسها وبعشيقها عن غيابه سوى في اليوم التالي. من هذا المدخل الذي ربما كان يصلح لصنع فيلم بوليسي مشوق، يبدأ زفيغنتسيف في تشريحه الدقيق لمجتمع متصدع يعاني من غياب القيم، وتدهور العلاقات الإنسانية، وغياب القدرة على التواصل بين الأجيال، وزراعة الكراهية والأنانية ومحاولة ستر الشعور بالضعف والفراغ والفشل بوهم الوقوع في الحب، وإدمان الجنس.

كل من الرجل والمرأة اختار شريكا آخر، يمارس معه المتعة الجسدية ويحلم ببناء مستقبل بديل. بوريس يقيم مع “ماشا” التي أصبحت حامل منه، وهي أيضا متمسكة بالاقامة في نفس الشقة مع أمها، ونتيجة شعورها بغياب الاطمئنان، تحاول دوما التأكد من حقيقة مشاعره وأنه لن يتخلى عنها. وزينيا أقامت علاقة مع أحد رجال الأعمال (من الطبقة الثرية الجديدة) التي لا تعرف الفرق بين أماكن العشق الرومانسي واصطياد العاهرات كما يتضح من خلال مشهد بديع تجوس فيه الكاميرا في أرجاء مطعم يتردد الاثنان عليه، لنرى عاهرة محترفة تملي على أحد الزبائن (من وراء الكاميرا) رقم تليفونها.

والدة زينيا تبدو وقد عزلت نفسها تماما عن العالم، تقيم في منزل قرب غابة في ضواحي موسكو، وعندما تواجه ابنتها فإنها تبدي لها كل ما لا يمكن تخيله من نفور ورفض وكراهية، تصب عليها اللعنات وتطردها شر طردة من منزلها. إنها نموذج للعقلية المتسلطة التي أرادت أن تصنع ابنة على شاكلتها، ولعل نجاحها يكمن في أنها نجحت فقط في نقل تيار الكراهية إلى دماء ابنتها التي تعترف صراحة بأنها لم تحب زوجها قط، بل ولم تحب ابنها وكانت ترغب في التخلص منه أثناء الحمل.

مع اختفاء أليوشا يبدأ السعار المجنون يتدفق بجنون وصولا إلى الهستيريا التي تعكس تصدعا اجتماعيا خطيرا. هنا يسرع الإيقاع، وتتداعى الأحداث، لكن الدائرة المغلقة تضيق تدريجيا بحيث لا يبدو أن هناك مخرجا ما. تتذرع الشرطة بكل ما في حصيلتها من اجراءات بيروقراطية لتبرير تقاعسها عن البحث الجاد عن الولد المختفي، بينما تتكفل إحدى جماعات المجتمع المدني من خلال المتطوعين الأفراد بالقيام بالمهمة ولكن دون جدوى. هل سيظهر اليوشا من تلقاء نفسه كما يقول ضابط الشرطة للأم؟ هل سيعثرون على جثته مقتولا؟ أو هل تم اختطافه على يد إحدى العصابات؟ لا نعرف وليس مهما أن نعرف فاختفاء الطفل ليس سوى مدخل لكي يدلف بنا الفيلم داخل العالم السفلي الرهيب الذي يعكس بتدهوره وتعفنه مرادفا بصريا ودراميا للانهيار الاجتماعي الكلي. فيلم مصنوع بدقة شديدة، يكشف كل مشهد من مشاهده عن جانب جديد وتفصيل جديد يكثف ويعمق من الشخصيات ومن الحبكة، غالبية مشاهده تدور ليلا، من خلال صور قاتمة وإضاءة معتمة، وعندما يتجمد الموقف يبدأ الجليد يهطل قرب النهاية.

 حس تشكيلي

يتميز الفيلم بلغة بصرية عالية، وبحس تشكيلي يتبدى في كل لقطة من لقطاته، وموسيقى تصنع نسيجا صوتيا منذرا باستخدام الآلات الوترية وخاصة آلتي الكونتباص والتشيللو، مع سيطرة مدهشة على أداء الممثلين، وخاصة الممثلة الرائعة ماريانا سبيفاك في دور زينيا، بكل تقلباتها وهستيريتها وعفونتها وعنفوانها وجبروتها ورغبتها العنيفة في السيطرة عن طريق الجنس، ودفع القارب نحو أي وجهة هربا من حياتها التي تعتبر أنها لم تنتج سوى حطاما حتى الآن.

لقطة من الفيلم الأميركي “صدمة السعادة”

صدمة السعادة

الفيلم الأميركي “وندرستراك” Wonderstruck (صدمة الشعور بالسعادة) للمخرج تود هاينس (صاحبا فيلم “كارول” الذي عرض في مسابقة كان قبل عامين)، يبدو للوهلة الأولى كأحد أفلام الأطفال، لكنه في الحقيقة للكبار والصغار، بل يمكن القول إنه أحد أشجع التجارب السينمائية التي خرجت من هوليوود في السنوات الأخيرة ربما منذ تجربة سكورسيزي في “هوغو” (2011). والفيلم مقتبس عن رواية مصورة لبريان سلزنيك، تدور حول طفلة وطفل في الثانية عشرة من عمرهما، كلاهما أعمي. القصة الأولى (وبطلتها طفلة) تدور عام 1927، والقصة الثانية (وبطلها طفل) تقع بعدها بخمسين عاما أي في 1977.  القصة القديمة مصورة بالأبيض والأسود، والثانية بالألوان، والقصتان تتداخلان لأن هناك ما يربط بينهما على الصعيد الروحي والفيزيائي أيضا، فالطفلة في القصة الأولى هي التي ستظهر قرب نهاية القصة الثانية لنعرف أنها جدة الطفل الأصم الذي يبحث في نيويورك عن والده ووالدته وما وقع لهما، والطفلة في القصة الأولى كانت قد جاءت من نيوجيرسي الى نيويورك بحثا عن والدتها، فرارا من والدها الفظ الغليظ القلب.

ليس من الممكن تلخيص الفيلم دون الاخلال به فهو عمل يعتمد على التجسيد البصري، وعلى الابتكار في رسم الشخصيات والمزج بين الحقيقة والخيال، وبين الأسطورة والواقع، بل واكساب الأسطورة ثيابا علمية أيضا أو بالأحرى، علمية مفترضة قريبة من عالم جول فيرن. إنه باختصار فيلم للمشاهدة فقط.

قمر المشترى

نصل إلى الفيلم المجري “قمر المشترى” Jupiter’s Moon للمخرج كورنيل موندروزو الذي يجعل بطله اللاجئ السوري الذي تطاره الشرطة في بودابست بل وتحاول قتله أيضا، لا يموت، بل وغير قابل للموت، يظل يرتفع فوق البشر يطير في الفضاء ليحلق فوق المدينة كما لو كان قدرا يذكر الأوروبيين ببقاء القضية.. قضية اللاجئين والمهاجرين الفارين من جحيم الحرب في سوريا والذين توصد الأبواب في وجوههم. إنه العمل الأكثر سينمائية بين كل أفلام المهرجان التي شاهدناها حتى الآن، بل والأكثر طموحا في المزاوجة بين الخيال والحقيقة، وبين الفيلم الفني والفيلم الجماهيري. لكنه يحمل أيضا فلسفة مخرجه ومبدعه. ولاشك أنه يستحق مقالا منفردا لعرضه ونقده تفصيلا.

Visited 33 times, 1 visit(s) today