“قلب الليل”.. متاهة الطرد والاختيار
يحتل فيلم “قلب الليل” مكانة متفردة وسط أفلام المخرج عاطف الطيب، الذي عرف بأعماله الواقعية الهامة والمؤثرة، وهي أعمال تشهد على زمنها، بنفس القدر الذي تشهد فيه على بصمته كمخرج وكفنان واع بقضايا جيله، ولم يكن لهذه الأعمال أن تخرج بهذه القوة، لولا تعاون الطيب مع فنانين على نفس القدر من الموهبة والوعي، كتابة وتصويرا ومونتاجا وموسيقى تصويرية وتمثيلا وأداء أمام الكاميرا.. الخ
لكن “قلب الليل”، المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ أعدها محسن زايد، لا يقنع بالمستوى الواقعي البسيط والمباشر، وإن أخذ منه العناية بتفاصيل كل مرحلة زمنية يعيشها بطل الحكاية جعفر إبراهيم السيد الراوي، ولكنه يكتشف آفاقا أكثر اتساعا للواقعية، حيث تبدو الحكاية كقصة رمزية تتأمل ما حدث للإنسان في بحثه اللانهائي عن مرفأ لليقين، إثر نزوله الى العالم، حاملا خطيئته وحريته معا.
ما يسعدنا ونحن نشاهد الفيلم اليوم، أن عاطف الطيب يقدم هذا اللون من “الواقعية الرمزية” بنفس القوة والمهارة التي قدم بها أعماله الواقعية المباشرة، ويحزننا فعلا أنه لم يتح له انجاز تجارب أخرى من نفس اللون بين أعماله السينمائية.
لونان من النصوص
يمكننا أن نقارن بين حدود النص في فيلمين من أبرز أفلام عاطف، وعن عملين لنجيب محفوظ: الفيلم الأول هو “الحب فوق هضبة الهرم” (عرض عام 1986) والذي أعده للسينما ببراعة الكاتب مصطفى محرم، والثاني هو “قلب الليل” (عرض في 1989) من صياغة محسن زايد، والاثنان، محرم وزايد، من أفضل مقدمي نصوص محفوظ الأدبية سواء للسينما أو للتليفزيون.
“الحب فوق هضبة الهرم” يناقش مشكلة جيل سحقته التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وحرمته من أبسط حقوقه، ولا يتجاوز حدود المشكلة الواقعية الى آفاق أخرى، وجودية أو فلسفية، وقوته الأساسية في أن يشير الى الواقع المباشر بجرأة اجتماعية وسياسية.
أما “قلب الليل”، فرغم أننا أيضا أمام بطل أساسي هو جعفر الراوي، ورغم أنه أيضا ابن زمنه وواقعه، إلا أنه مثقل بأسئلة تتجاوز هذا الواقع، وفي تاريخ جعفر، وفي سيرة والده الراحل إبراهيم، وفي علاقة جعفر مع جده السيد الراوي، وفي علاقة جعفر كذلك مع زوجتين له هما مروانة وهدى، ما يحتمل مستوى رمزيا، يرتبط بالإنسان عموما، وأسئلته التي لا تنتهي، والتي لا تجد إجاباتها حتى اليوم.
وبينما يحمل عنوان “الحب فوق هضبة الهرم” جزءا واقعيا من تفاصيل الحكاية، عندما يهرب بطلا الفيلم الى سفح الهرم ليختلس مع حبيبته بعض القبلات، فيقبض عليهما، ويصبح التاريخ التليد شاهدا على مهزلة يعانيها الأحفاد، بل ويبدو الهرم نفسه وراء قضبان عربة الترحيلات، كعنوان دال على المأساة، فإن عنوان فيلم “قلب الليل” هو عنوان مجرد تماما، يحيلنا بالأساس الى ليل الاغتراب والتخبط الذي عاشه جعفر الراوي، مترجما تخبط الإنسان نفسه، وحلمه بالبحث عن نور وعن طريق، وبالمناسبة فإن الفيلمين احتفظا بالعنوانين اللذين اختارهما نجيب محفوظ في الأصلين الأدبيين، والفيلمان كتبا بذكاء وفهم يناسبان لون كل موضوع، وأخرجهما عاطف الطيب أيضا بما يناسبهما، ولذلك أصبحا من أفضل أعماله كمخرج.
وبينما يمنح عاطف فيلم “الحب فوق هضبة الهرم” طابعه التسجيلي بانطلاق كاميرا سعيد شيمي المحمولة على الكتف وراء أبطاله في الشوارع، ويعطينا شعورا بأن الكاميرا قد تسللت لتصوير شخصيات تعيش بيننا في حياتها العادية، لتصبح اللوحة عموما حافلة بالحركة، فإن عاطف يمنح تكوينات “قلب الليل” رسوخا وثباتا نادرا في أفلامه، حيث يقل استخدام حركة الكاميرا الحرة المحمولة على الكتف الى درجة لافتة، وإن كان موجودا مثلا في مشهد المظاهرات أو للاقتراب من ضيوف صالون هدى من الكتاب والفنانين، ولكن أساس خطته الإخراجية عموما هو الثبات، الذي يتيح لنا أن نتأمل هذه العلاقات في واقعيتها ورمزيتها، بل إن عاطف، الذي يحتفي بالحركة في أفلامه، يضفي ثباتا مقصودا، ومسافة واضحة، وجلالا مطلوبا، في مشاهد لقاءات جعفر مع جده السيد الراوي، أو حتى في مشهد إبراهيم الوحيد مع والده السيد الراوي، وهو مشهد فلاش باك هام للغاية.
يكفي اضطراب الشخصية في داخلها، ويكفي قلقلها واغترابها، علينا فقط أن نتأملها، وألا تشوش حركة الكاميرا الحرة هذه التراجيديا العابرة للأزمان، والتي يمكن أن نطلق عليها تراجيديا ” متاهة الطرد والاختيار”، والأمران متلازمان، فلولا اختيار جعفر، ومن قبله والده إبراهيم، لحريتهما، لما تم طردهما من القصر أو البيت الكبير، والطرد عند محفوظ من البيت هو معادل الهبوط الى الأرض، ولولا الطرد لما كانت هذه المتاهة الوجودية، وهذا التخبط بحثا عن طريق.
هنا صورة تثبت مشهدا وجوديا متواصلا، ولكن دون أن يصل الطيب أبدا الى درجة الإبطاء أو السكون، مونتاج نادية شكري حقق للفيلم هذه المعادلة، بحيث يتم إشباع المشاهد الهامة بثباتها ورسوخها، مع عدم الإبطاء بالانتقال السلس الى المشاهد الأخرى، دون أن ننسى قدرة محسن زايد بالأساس على تقديم هذا المزيج المتقن على الورق، فلا المعنى الرمزي يضيع، ولا تدفق الحدث الدرامي يتلكأ أو يترهل.
سرد موضوعي
الرواية، كما هو معروف، تجعل جعفر الرواي يحاول أن يسترد ميراث جده الذي أوقفه للخير، فيحكي جعفر قصته كاملة من البداية للنهاية الى موظف الأوقاف، لكن محسن زايد اختار أن يدخل مباشرة في الحكاية، بسرد موضوعي لا يغيب عنه جعفر تقريبا، سواء في طفولته، أو في شبابه، أو في شيخوخته، هي بالتأكيد حكاية جعفر، وليس أي أحد آخر، ورغم أن الليل في عنوان الفيلم له معنى مجازي بالأساس، إلا أن مشاهد الليل الواقعية هامة ومؤثرة في الفيلم، والتناقض بين النور في بيت الجد، والظلام الذي يضربون فيه جعفر، ثم صراخه في الظلام بعد مغادرة مروانة ومعها ابنه، هذه المشاهد تترجم بصريا معنى التخبط في الليل الوجودي بعد الطرد والخروج من البيت الكبير، وكلها محاولات مميزة لترجمة المعنى المجازي باستخدام امكانيات الصورة والنور والظلام.
في المستوى الأول للحكاية، يبدو جعفر الراوي ابن زمنه الحافل بالثورات والمساجلات الفكرية، فمن زمن سعد باشا وثورة 1919، تثمر النهضة طوفانا من الأفكار، وعددا معتبرا من المثقفين، نرى بعضا منهم في صالون هدى هانم صديق، وبينما يحتفظ التعليم الأزهري بأهميته عند بعض الفئات المحافظة، فإن الفن أيضا ينتقل من مرحلة الأغنيات الخليعة، الى مرحلة المسارح التي يرتادها الأكابر، وحيرة جعفر في اكتشاف ذاته مبررة واقعيا في إطار تلك التغيرات الفكرية والاجتماعية السريعة، والتي ستتواصل في الأربعينيات بظهور سعد الدين كمحام اشتراكي يحلم بالعدالة والمساواة.
حكاية جعفر في مستواها الواقعي مقنعة أيضا، فهناك حكايات كثيرة مشابهة في زمنها عن أبناء البيوتات، الذين احترفوا الفن، والذين انقطعت صلتهم بأسرهم، وهناك حكايات أخرى معروفة، عن أبناء الذوات الذين اختاروا أن يتزوجوا بنساء لا تلقن بمكانتهم الاجتماعية، وما تطورت إليه هذه الحكايات من مشكلات قضائية أو قانونية.
وقد أراد محسن زايد أن يعطي هذا المستوى قوته الكاملة، بحيث لا يبدو جعفر منفصلا عن عصره، ولذلك ظهر المفكرون والفنانون بأسمائهم (طه حسين/ كامل الشناوي/ سلامة موسى/ بيرم التونسي) في بيت هدى هانم، وكان جعفر في وسطهم، شاعرا بالضآلة والخفة، مما سيدفعه لكي يؤلف كتابا يجيب عن كل أسئلة البشرية، وبالمناسبة فإن تلك السنوات، شهدت مساجلات فكرية وأدبية شهيرة، بل ومساجلات فلسفية جعلت كاتبا يصدر كتابا بعنوان ” لماذا أنا ملحد؟”، فيرد عليه كاتب آخر بمقال عنوانه: “لماذا أنا مؤمن؟”.
هنا تأسيس واقعي ممتاز لحكاية رمزية بالأساس، لأن حكاية جعفر، تكرر حكاية والده إبراهيم، ولذلك يقوم نور الشريف بدور جعفر وإبراهيم معا، ولأن إبراهيم قد تحدى والده، وتزوج بمن أراد (امرأة دلالة)، ولأن جعفر تحدى جده وتزوج بمن أراد (مروانة راعية الغنم)، فإن دور أم جعفر، ودور مروانة تلعبهما نفس الممثلة (هالة صدقي)، ولعل جعفر كان يرى في مروانة صورة الأم التي افتقدها منذ طفولته، والتفاوت بين حارة مرجوش، التي عاش فيها جعفر مع أمه الدلالة بعد الطرد، وبين البيت الكبير بجلاله وبهائه، ليس تفاوتا طبقيا فحسب، ولكنه تفاوت بين السماوي والأرضي.
الحقيقة أن الحكاية بالأساس يمثلها طرفان: جعفر من ناحية، والجد السيد الراوي من ناحية أخرى، وعلاقتهما شديدة التعقيد، فالجد، باضاءته الخاصة وملابسه ولحيته البيضاء وبصوت فريد شوقي الضخم وردوده المقدسة وتكرار التركيز على يده الكبيرة وعل مسبحته، مكانته أعلى وأسمى، ومعرفته شاملة، وسيطرته على عالمه وعالم ابنه وحفيده مكتسحة، وهو بالتأكيد لا يكرههما، ولكنه يريد أن يختار لهما، بينما يرى إبراهيم وجعفر أن هويتهما تتلخص في الحرية، وهو معنى يعبر عنه جعفر بقوله إن حريته هي التاج الذي يضعه على رأسه، أي أنها أثمن ما يمتلك الإنسان، وهي لذلك جديرة بأن يدفع ثمنها حتى النهاية.
جعفر يرى جده متسلطا وقاسيا، لأنه طرده هو ووالده إبراهيم، ولأنه تركه في حارة مرجوش وهو يعلم بظروفه الصعبة ماديا واجتماعيا، والجد لا يرى الصورة من هذه الزاوية، وإنما يرى أن ابنه وحفيده سيضلان بعيدا عنه، وسيتخبطان بلا نور أو طريق، وهو ما يحدث فعلا، ولكنه ثمن مقبول تماما بالنسبة للرجلين مقابل ممارستهما لحق الحرية، ولحق الاختيار.
رحلة الإنسان
على المستوى الرمزي، فإن رحلة جعفر من حارة مرجوش الى قصر هدى هانم مرورا بقصر السيد الراوي، تكاد تلخص رحلة الإنسان المعرفية: في مرجوش طفولة تعتمد على الخرافة، وعلى حكايات العفاريت، وفي بيت السيد الراوي، تفسير ديني يحيل الأسباب الى قوة قاهرة وعظيمة، وفي زواج جعفر بمروانة، بكل فجاجتها، ارتباط بالغريزة الجامحة، ومع هدى هانم، يبزغ عصر العقل والحضارة، ولا ننسى علاقة جعفر الهامة مع صديقه المغني محمد شكرون، هنا يكتشف جعفر الفن، بكل ما يمثله من عالم ساحر وحر.
هل أجابت هذه التجارب عن سؤال جعفر في اكتشاف طريق خاص؟
لم يحدث مع الأسف، وهذا ما جعله شخصية قلقة ومغتربة تماما، أي شخصية وجودية بامتياز، وبدلا من أن يجيب جعفر في مؤلفه الوحيد عن كل الأسئلة، فإنه أفرز فوضى بلا معنى، وكتابا غير مفهوم يعكس العجز عن الخروج من قلب الليل، وليس اكتشاف الضوء في نهاية النفق، انتهت الرحلة بمتاهة وجريمة قتل عبثية ضد سعد الدين، فلا استرد الإنسان البيت الكبير الذي طرد منه، ولا نجح في صنع عالمه المتماسك، ولا وصل الى طريق يكافيء ما منح من عقل، وحرية في الاختيار.
أرجو أن تلاحظ أن الجد رغم حضوره كان غائبا دائما في اختيارات جعفر، ولذلك فإن موت الجد في النهاية لم يضف جديدا بالنسبة له، إلا بأن يقوم بكتابة مؤلفه الضخم خلال عام كامل، فكأن موت الجد جعل الحفيد متحمسا لأن يدير ينفسه العالم كله، وهي محاولة نرى بوضوح أنها لن تتحقق.
لا يحاول الفيلم، وقد نجح في نقل جعفر من الواقع الى الرمز، أن يوجد حلولا لهذه الأسئلة الصعبة التي طرحها، ولكنه يريد أن ينقل الى المتفرج قلق جعفر وحيرته، وأن يثير تأمله بحالة رجل اختبر الخرافة والدين والفن والغريزة والعقل فلم يستقر أو يتحقق، رجل لا يمتلك إلا حريته وعقله ووحدته، وكلها أمور تدخله في تجارب أثقل من الجبال، فإذا أراد أن يجمع بين أمور متعددة، بدا الأمر كما لو أنه يجمع بين الماء والنار، ظهرت سطور الكتاب كما لو كانت تخاريف مجنون، فكأن هذا السعي وصولا الى طريق، يمكن أن يقودنا أحيانا الى الجنون.
ولكن هناك ثلاثة أمور لم تتغير في مسيرة جعفر الراوي: تمسكه بالحرية والاختيار رغم صعوبة ما يترتب عليهما، وحرصه على كتب وجرامفون وآثار والده، وقد أضيف الى هذه الأشياء مسبحة الجد برمزيتها الواضحة التي تحيل الى الأصل المقدس، أما الأمر الثالث الهام للغاية، فهو تمسك جعفر بأن يرث البيت الكبير، الذي أوقفه الجد لغيره، هذا التمسك بالميراث هو عامود الرواية، ودلالاته أيضا هامة، ولكنه يأتي بصورة عابرة في مشاهد الفيلم الأخيرة، عندما ينتقد جعفر في هذيانه فوق الجسر جده الراحل، لأنه أوقف ثروته وبيته للحسين، وليس لحفيده البائس.
هذا هو الإنسان المتخبط في اختياراته، المثقل بحريته، والحائر بين غريزته وعقله، الباحث عن استقلال وهويته، والمشدود الى عالم وميراث الجد العظيم الجليل، الإنسان ابن عصره وبيئته، وثمرة خياله وفنه وعلمه، لا شيء يصل لديه الى مرتبه اليقين، ولكنه لن يتوقف أبدا، مهما كانت المصاعب، ولن يمنعه شيء في البحث عن مرفأ وبيت، وفي محاولة الوصول الى معنى والى يقين.
إنجاز فني
“قلب الليل” إنجاز عظيم في التعبير الفني والأدبي عن موضوع الرواية الشائك والصعب، الرمز الناضج فيه يخرج من قلب تفاصيل الواقع، بلا تكلف أو افتعال، الفيلم أيضا صناعته الأسئلة، وليس الإجابات، إنه وصف حالة، وليس نقطة في نهاية السطر، وعاطف الطيب يقدم هنا واحدة من أفضل حالاته كمخرج، كل تفصيلة أو حركة كاميرا وأو لمبة نور تشهد بأنه قد فهم السيناريو تماما، ونجح في توصيله الى كل العاملين معه.
اختار عاطف ممثليه باقتدار: نور الشريف في دور جعفر الراوي وفي دور ابراهيم الراوي في مشهد واحد، تتلون الشخصية مع كل تجربة، وينجح الممثل الكبير في الانتقال ببراعة بين تعبيرات مختلفة، وبين لغة جسد متغيرة، ما بين جمود الجسد في مواجهة الجد، الى حيوية عارمة أمام مروانة، كل شيء في مكانه، وكل تحول للشخصية محسوب بدقة، الطفلان اللذين لعبا شخصية جعفر في طفولته، كانا أيضا رائعين.
فريد شوقي في دور استثنائي، شخصية الجد السيد الراوي بكل رمزيتها وقوتها، لا يتحرك الجد إلا في لقطات قليلة، وهناك مسافة تفصله دوما عن الجميع، ولكن تأثيره ينبع من صوته، ومن نظرات عينيه الثابتتين، ومن قبضته التي تمسك بالمسبحة، حضوره الجسدي مذهل، والإضاءة الخاصة صنعت له هالة من الوقار والإشعاع، حتى في مشهد موته، فإن نظرته لم تنكسر، كان آسفا وحزينا، لأن الحفيد ضاع منه، مثلما ضاع منه ابنه الوحيد إبراهيم.
محسنة توفيق وهالة صدقي ممثلتان من جيلين مختلفين، ولكنهما كانتا مدهشتين في دوريهما: هدى هانم، ومروانة راعية الغنم.
محسنة بالطبع يتوقع منها هذا الفهم والأداء الرصين، لشخصية تجسد قوة العقل، وأهمية التحضر، وذلك بسبب خبرتها المسرحية والدرامية المعروفة، ولكن المفاجأة فعلا في أداء هالة صدقي، لأن عاطف الطيب قدمها بشكل جديد تماما عن أدوارها السابقة، شخصية مروانة صعبة ومتعددة المستويات والمراحل، في بعض المشاهد مثلا لم تكن تعبر ألا بعينيها فقط، بسبب طبيعة غطاء الوجه الذي ترتديه، مروانة بأداء هالة كان لامعا ومميزا.
محمود الجندي في دور محمد شكرون والراقصة عايدة نور في دور زوجته كانا ثنائيا ممتازا، خففا كثيرا من تراجيديا حياة جعفر، وجسدا حيوية وسحر وحرية الفن والفنان، وقد لعب دور محمد شكرون صبيا الطفل محمد نجاتي، الذي سيقدمه عاطف الطيب بعد ذلك في سن أكبر في دور هام في فيلم “ضد الحكومة”، وقد استمر نجاتي كممثل حتى اليوم.
في أدوار مساعدة قصيرة لدينا أيضا ممثلون بارعون: صلاح شوان في دور سعد الدين بثقته في نفسه، وعثمان عبد المنعم في دور الرجل الفظ المسؤول عن مروانة، وصافيناز الجندي في دور أم مروانة المسكونة بالخرافة، وعطية عويس في دور الشيخ العامل في خدمة السيد الراوي، وكريمة الشريف في دور الدادة بهجة بوجهها الهادئ المريح، وسيد صادق في دور شكرون الفقير صاحب الكارو، ونهير أمين في دور زوجة شكرون، وحتى صلاح عبد الله في دور محفّظ القرآن، ومحمد هنيدي فى دور بندق الآلاتى، كانا مميزين في دورين قصيرين وظريفين.
عاطف الطيب هنا لا يفتت المشاهد الى لقطات قصيرة جدا، ولكنه يقدم لوحات كاملة مدهشة، سواء في حارة مرجوش، أو في البيت الكبير، أو في قصر هدى، مستفيدا من جماليات كل مكان، ومن ديكورات رشدي حامد العظيمة، بالذات في مرجوش، بل إن الإكسسورات مثل الجرامافون والمسبحة والكتب، تحقق حضورا إضافيا يثري الصورة، ولا يقل أهمية عن الشخصيات، كل مكان له دوره، وكاميرا وإضاءة عبد المنعم بهنسي، وموسيقى مودي الإمام، تعبران بالضبط عن المطلوب وفقا لمستوى كل مشهد، ودوره فى التعبير عن الدراما واقعا ورمزا: فهذا النور الغامر على وجه الجد، تترجمه موسيقى مودي الإمام أصواتا تتجاوز المألوف، وتأخذك الى أجواء روحانية صافية، وهذه الصرخة المدوية ل جعفر بعد ضربه، وفقدانه لزوجته وابنه، تنطلق من قلب الظلام وليس النور، وتتحول في ترجمتها مع موسيقى مودي الإمام الى نغمات تصرخ، بما يتجاوز حتى الألم الشخصي، إلى الألم الإنساني.
“قلب الليل” نموذج فذ في تحويل الأعمال الروائية الى أفلام سينمائية، ودليل آخر على قدرة عاطف الطيب كمخرج، ومحسن زايد كممثل، ومغامرة حقيقية باقية بجرأتها وطموحها الفني.
ولعل الفيلم من قبل ومن بعد تحية عميقة للإنسان الذي يغرس قدميه في الأرض، وترتفع رأسه تطلعا للسماء، لا يتوقف عن السعي بحثا عن طريق، رغم أنه يعرف أنه لا طريق ولا وصول، محكوم عليه دوما بالحيرة، ومحكوم عليه أيضا بالحرية والمسؤولية، ومثقل الى الأبد بالتمرد والطرد، وبميراث قديم لا يمكن التخلص منه، مهما اختلف الأبطال، ومهما تعددت الحكايات.