“قصص العابرين” سرد صوري شجي لقصص المنفيين

في دورته الرابعة التي أقيمت في الفترة من 13 إلى 18 سبتمبر في قاعتي المعهد الفرنسي ومعهد الفنون المعاصرة في لندن، اختار القائمون على مهرجان “سفر” للسينما العربية موضوعاً مثيراً لبرنامجهم السينمائي وذلك عبر حفنة أعمال سينمائية مقتبسة من أعمال روائية محلية او عالمية.

ورغم صعوبة تقديم جردة سينمائية وافية وموضوعية للعلاقة المتبادلة بين عالمي الرواية والسينما العربية، أقله للمشاهد الأوروبي، في زمن التطور الهائل لتقنيات الصورة وما فتحته من آفاق جديدة لصوت المؤلف السينمائي، فإن المهرجان سعى، كما يبدو، الى تقديم مختارات سينمائية اتكأت على عالم الرواية فضلاً عن ما حققته من نجاحات جماهيرية ونقدية عند عروضها الشعبية، وشملت أفلاماً كلاسيكية، منها شريط “الطريق” (1964) للمخرج حسام الدين مصطفى والمقتبس من أحد أعمال الحائز على جائزة نوبل للأدب الراحل نجيب محفوظ تحمل الإسم ذاته.

ومثله شريط “ورود سامة” (2018) لأحمد فوزي صالح والمأخوذة من عمل أحمد زغلول الشيطي والتي أثارت ضجة عند نشرها في بداية تسعينيات القرن الماضي.

ومن تونس حضر شريط “في بلاد الطررني” للمخرج فريد بوغدير المستل من أحد أعمال رائد فن القص في بلده علي الدوعاجي.

ومن الجزائر نجد العمل السينمائي المهم “العصا والأفيون” (1969) للمخرج أحمد راشدي والمؤفلم من رواية تحمل العنوان ذاته للكاتب والقاص مولود معمري.

وعلى المنوال ذاته نجد شريط “جنة الشياطين” (1999) لأسامة فوزي والمستوحى من رواية البرازيلي خورخي أمادو “كانكان العوام الذي مات مرتين”.

بالمقابل، حضرت اشتغالات سينمائية اعتمدت أساساً على الخيارات الشخصية لصناعها، إذ عصرنت اللبنانية زينا دكاش سينمائياً حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة في شريطها “يوميات شهرزاد” (2013)، أو في طلق الحورات وتداخل الحكايات مع بعضها كما في “نار في نار” (2016) لمواطنها جورج هاشم. فيما تتحول التجربة الحياتية والذاكرة الشخصية الى مادة توثيقية كما في شريط “قصص العابرين”(2017) للمصور السينمائي والمخرج العراقي قتيبة الجنابي.

ذلك وعبر سرد صوري شجي، يضيف الجنابي فصله الخاص الى جديده. وهو فصل أقرب الى الشهادة والتوثيق، بالمعنيين السياسي والفني، لحكاية بطله الشاب، مثله مثل من لاحقهم عسف النظام الديكتاتوري السابق إثر هجمته الشرسة على طيف واسع من القوى الديمقراطية والتقدمية نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينات منه.

ورغم ان الجنابي سبق وان قارب “ثيمة” شريطه الجديد في أكثر من عمل سينمائي سابق له، سواء كانت وثائقية، كما في “حياة ساكنة” (وثائقي قصير 12 د) مثلاً، أو كما صاغه في عمله الروائي الأول “الرحيل من بغداد” (2011)، هناك مسرد لاشتغالاته السابقة استعان بها تظهر في آخر الشريط. وجميعها دارت حول فكرة مركزية تطال الوطن/ المنفى، أو ذكريات الوطن الأم وآلام الغربة القاسية. إلا إننا هنا أزاء عمل شخصي بحت بكل ما في الكلمة من معنى، كما تقترحه السيرة الدرامية لراويها “الناجي” او “العابر” من جحيم بلده العراق والتي راكمها على شكل مادة صورية قاربت الثلاثة عقود.

“بين الشوق والحنين” تتوضح ملامح هذه السردية ومناخاتها من لقطات الشريط الأولى، ومن خلال تواتر صوري متأن لهروب شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وبدفع من والدته خوفاً عليه من تكرار مصير أسود كان قد لف قدر والده، بالرحيل بعيداً عن “غبار الحرب” و “القهر القمعي” و”صوت المذياع والبيانات العسكرية” و”الموت المجاني”.

أما عدته فكانت كاميرا اعتبرها أداته الماضية لتوثيق رحلته نحو المجهول وهو طائر من على بساط الريح.. لحظة افتراق مأسوية لشاب في مقتبل العمر.

المفردات السالفة تأتي على لسان الراوي وهو يودع مدينة بغداد إبان الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) التي انطلقت شرارتها الأولى في 4 سبتمبر 1980. ما سجلته الكاميرا من تداعيات وهواجس وأسئلة في مستهل الشريط، سرعان ما تعود بالمشاهد الى بيت الراوي وصاحب القصة، ما تشي به محتويات صالة وفضاء حديقة البيت تحدد هوية الراوي من جهة، وتستحضر زمناً مليئاً بالذكريات الشخصية والحميمية والمرة من جهة ثانية.

تمر الكاميرا على أثاث بسيط وغير متكلف يحاكي موضه ستينية، هاتف قديم يرن دون أن تُرفع سماعته، مذياع خشبي يطلق بلاغات التعبئة العسكرية وصورة لضابط عسكري برتبة كبيرة لم يمنع تهشم زجاج إطارها الخارجي من إخفاء سماحة وجه صاحبها، في حقيقتها صورة والد الراوي/ الجنابي. ولتكثيف حس خلو البيت من سكانه، تجول الكاميرا على مابقي من ذكريات زمن ولى: حفنة مفاتيح صدئة، أرجوحة مهجورة في زاوية حديقة وسيارة قديمة تحولت الى خردة. فيما تتوالى الصور، أغلبها بالأسود والأبيض، عبر تنقلات بين مدينة بغداد وبين بلدان المنافي البعيدة، حيث البرد والشحة المادية وغياب الحلول الشخصية، فضلاً عن الإنتظارات الممضة.

الصور إياها بمجموعها تروي سيرة رحلة قاسية لبطلها أو من لفه المصير ذاته. إذ لا تترك صور محطات القطارات الفارغة من المسافرين، أو تلك النائية التي لا تتوقف في فيها، أو التهديد بالطرد بفعل العجز عن تسديد إيجار السكن، أو ترك الصديقة لصديقها، أو رفض طلب اللجوء السياسي سوى المرارة لمن عاش تفاصيلها.

يستحضر مشهد بطله في “الرحيل من بغداد” حيرة العالق وسط الطريق ولمن يريد العبور الى الجهة الأخرى، ومثله مشاهد مستلة من شريطه “حياة ساكنة”، حيث برودة الأماكن وعزلتها القابضة على النفس، وعلى المنوال ذاته حين يقرر جندياً هارب من أتون الحرب ان يدفن مصادر عذاباته من مذياع عذبه ببياناته العسكرية وذكرياته الشخصية تلك التي أثقلته بصدى أوجاعها.

شريط الجنابي توثيق فني مهم لفصل قاس عاش تفاصيله المرة أكثر من جيل من العراقيين، وفي بلد تتناسل حروبه الداخلية والخارجية، وعبر سرد فني هادئ يضمر خلف تشكيله الصوري غضب داخلي عاصف. ولعل صوت الراوي المتحرر من صنعة الإلقاء الفني غدا جزءاً أصيلاً من نسيج الشريط السينمائي، فضلاً عن الموسيقى التصويرية وتنقلاتها في إقتفائها المعاني الجوانية لسيل الصور، مزيج من اللقطات الفوتوغرافية والتوثيقة والروائية، أضافا نفحة فنية وجمالية تحسب لصالح المخرج ولشريطه السينمائي في آن.

Visited 42 times, 1 visit(s) today