“قصة حب”.. الواقعية التلقائية

قد يدخل في النظر إلى العمل الفنيّ وتقييمه عوامل أخرى غير فنيَّة، منها ما يتعلق بإدارة الفنّ في خطّ سيره. هذا المعيار قد يرجِّح كفة فيلم “قصة حب” الذي اهتمّ أن يقدم فيلمًا عاطفيًّا رومانسيًّا وحسب دون مزجه بتصنيفات أخرى كالإثارة أو الغموض أو غيرها؛ إلا بإدخال لتصنيف الكوميديا عليه ولمْ يغير من تصنيف الفيلم ولا من إخلاصه الأول والأخير للرومانسيَّة. هذا التصنيف الذي كان غالبًا ومتربِّعًا على عرش السبعينات، وظلّ يتضاءل ثم انكسر تحت موجات الضحك مع ظهور جيل “محمد هنيدي”، وظهور سينما الحركة ثم الرعب، ثم سينما اللاشيء -إنْ صحَّ تشريفها بوصف سينما-.

فيلم “قصة حب” إنتاج 2019. من تأليف أماني التونسي، وإخراج عثمان أبو لبن. وموسيقى أشرف محروس. قام بتمثيله: أحمد حاتم، هنا الزاهد، ياسر الطوبجي، حنان سليمان، علا رشدي، فرح يوسف.

الفيلم يدور حول “يوسف” (أحمد حاتم) الذي يعمل مُهندسًا. وهو شاب تبحث له أخته (فرح يوسف) عن زوجة طوال الوقت. حياته مقسمة بين عمله والمقهى الذي يجاور بيته، وصديقه “إبراهيم” (ياسر الطوبجي) وزوجته (علا رشدي) اللذان يساعدان أخته في العثور على الزوجة له. وفي يوم من الأيام يذهب يوسف لرؤية فتاة مُرشحة عند إبراهيم، ويبدأ الجميع في الاستبشار بقرب الزواج. وفور خروجه من بيت صاحبه تصدمه سيارة لتغير حياته بالكامل حيث يصيبه الحادث بالعمى.

وفي أيام تعرُّفه على العالم من حوله بوضعه الجديد الذي فقد فيه حاسّة النظر نجد الفوضى تعمّ حياته بشدة. ولا تجدي محاولات المساعدة من إبراهيم صديقه الذي يحضر له كلبًا للتسلية والصحبة إلا أنّ يوسف لا تروق له الفكرة. ويخرج من بيته محاولاً الوصول إلى المقهى وفي أثناء تخبطه في الطريق يصطدم بـ”جميلة” (هنا الزاهد) التي توصله إلى المقهى بدافع من ضميرها رغم ما يحدث بينهما من سوء تفاهم.

ثم تبدأ الأيام تحمل التغيُّر الكبير بينهما حيث كلاهما معتاد الذهاب إلى المقهى نفسه كل يوم تقريبًا. ويبدأ شعور الشفقة يستولي على جميلة لتساعد هذا الإنسان الذي فُجع بإصابته بمحاولة ترتيب حياته وشقته التي تعمها الفوضى. وفي أثناء تلك المحاولات يبدأ الثنائي في الاقتراب أكثر فأكثر. وتتعرف على صديقه وزوجته، ويذهب هو إلى الحضانة التي تساعد فيها الأطفال اليتامى. لكنَّ أمَّها (حنان سليمان) لا تروق لها هذه العلاقة وتريد أن تزوجها لطبيب صديق للأسرة. لكنَّ قصتنا لن تمضي في هذه الأجواء العائليَّة فقط فهناك الكثير من المفاجآت التي تحملها الأحداث.

الفيلم فيلم تقليديّ، بل في نظرة أخرى نمطيّ بشدة. غير ما قد تلحظه من اقتباسه أفلامًا أجنبيَّة مثل “الخطأ في أقدارنا”. لكنَّه فيلم لطيف ليس سيئًا وبالعموم النمطيَّة ليست عيبًا وحدها، لكنَّ المُعوَّل عليه هو درجة الاتقان في العمل والتجديد الجزئيّ، وهناك أفلام وكتب دخلت التاريخ لتجديدها في الجزئيات البسيطة لا في البناء الكُليّ. بالقطع لن يدخل فيلمنا هذا التاريخ لكنَّه فيلم يتمتع بملامح اجتهاد كثيرة وهذا كافٍ على أيَّة حال في تجربة مشاهدة عادلة وممتعة.

الفيلم يشعرُك بالطول وقد تتمنى أن ينقص عشر دقائق أو اثنتَي عشرة دقيقة -وهذا عدد عملاق لصانع الفيلم فقد لا يبدو مثلما يبدو للمشاهد-. لكنْ من زاوية أخرى تجد أنَّ هذا الشعور قد تسرَّب إلى نفسك فقط من البداية البطيئة واستمرار هذا التنفيذ البطيء فيما يقرب نصف الفيلم تقريبًا. والحقّ أنَّ نصفه الآخر أجود من نصفه الأول بشدة.

وهناك نقطة في حوار هذا الفيلم تستحق الاهتمام وهي أنَّ الحوار كان شديد الطبيعيَّة والواقعيَّة للدرجة التي فقد فيها وصف “الحوار الدراميّ”. إنَّه حوار سيشعرك بأنَّ هؤلاء الشخوص لا يمثلون أيْ لا يؤدون أمامك ما يسمى بالتمثيل الدراميّ؛ بل يشعرك أنَّهم الممثلون حقًّا دون تمثيل أصلا. خاصة مع الممثلة “هنا الزاهد” التي ظهر هذا الملمح في كامل مشاهدها تقريبًا. ومثل هذه الأنماط في الحوار لا تأتي من الحوار المكتوب من المؤلف بل تأتي في الغالب من إضافات الممثلين أثناء التصوير.

وليس الحوار وحده هو الذي امتاز بالواقعيَّة الشديدة والتماسّ مع طبيعة الشخصيات، بل تنفيذ كثير من المشاهد حيث يؤدي الممثلون أمورًا ليس من الأصل أن تظهر في التمثيل بل هي تحدث في الحياة الطبيعيَّة مثل مشهد فيه تذهب جميلة أول مرة لبيت يوسف لتأخذ كلبه، ومحاولة يوسف إغلاق الباب -ذي الضلفتَيْن- بعد خروجها. إنَّه ليس مشهدًا سينمائيًّا بل هو موقف حياتيّ صرف يخلو من تهذيب التمثيل الدراميّ له.

كل السابق ليس عيبًا بل هو اختيار؛ اختيار للواقعيَّة التلقائيَّة شديدة الطبيعيَّة. لكنَّ هذا الاختيار نفسه هو ما يجعلك تتساءل عن مشاهد أخرى لماذا خالفتْ الطبيعيَّة تلك؟! بل لماذا خرجت في شكل من أشكال السذاجة الشديدة؟! مثل مشهد خروجه أول يوم من بيته بعد العمى والمشهد التالي حتى الاصطدام، ومشهد غرقه في المسبح.

وبالعموم ليس التركيز في مثل هذه النوعية من الأفلام إلا مُفسدًا لجوانب من تجربة المشاهدة. لأنَّ الفيلم لا يقدم نفسه على أنَّه فيلم مُتحدٍّ، بل قدم نفسه كفيلم بسيط يحقق لك انفعالاً أو مزيجًا من الانفعالات ما بين التأثر والحزن والكوميديا. هذا العنصر الأخير الذي برع فيه حصرًا الممثل “ياسر الطوبجي” الذي أبان عن فشل زملائه في توليد الكوميديا أصلاً، وهذا هو عيب تجاور مُتفاوتي القدرات أثناء تأدية النوع نفسه. وانظر إلى قدرته في توليد الضحك مقارنة ببطلَيْ الفيلم اللذين جرَّبا توليدها في عديد المشاهد.

وقد امتاز المخرج بسمة الاستعراضيَّة في التصوير، ولن يجد المُشاهد مشقةً وهو يطالع المشاهد الكثيرة للتصوير الطائر في أن يجزم بهذه السمة في أداء المخرج. ولعلَّ كثيرًا من مُخرجي الإعلانات والمقاطع الغنائيَّة الذين تحولوا إلى السينما يتميزون بهذه السمة. لكنَّه قد نفذ مشهدًا يستحق الذِّكر فيه تتحرك الكاميرا بسرعة شديدة وهي تسبق “هنا الزاهد” في أثناء تحولها الانفعاليّ أو تدرُّجها في الانفعال الذي واكبه المخرج بتدرُّج أيضًا في حركة الكاميرا. وهو مشهد يستحقّ المشاهدة منفردًا، ويستحق التحية. كما أنَّه أضاف لمسة التصوير البطيء ليقلل من حدة حركة الكاميرا، وكي لا تؤثر على ثبات اللقطة المُستمرة.

أمَّا بالنسبة للممثلَيْن أحمد حاتم وهنا الزاهد فقد يفاجئك أداؤهما؛ فقد أدَّيا بتلقائيَّة تستحق الذكر. والحق أنَّ الأداء في النصف الآخر من الفيلم شهد تطورًا شديدًا منهما. وفارق ضئيل هو الذي يجعلك تصنف أداء كليهما انفعاليًّا أو مفتعلاً. كما لا يمكن إغفال الحديث عن الأداء الجيد الذي قدمته الفنانة حنان سليمان. وبالعموم يقدم لك الفيلم تجربة رومانسيَّة بسيطة لكنها جميلة.

Visited 145 times, 1 visit(s) today