قراءة في كتاب ” فن الأفيش في السينما المصرية ” للناقد سامح فتحي
ظهر الملصق (الأفيش) السينمائي في فرنسا بالتزامن مع ميلاد السينما، إلا أنه لم يشهد ولادته الحقيقية إلا في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ في هذا البلد أخد الأفيش أبعاده التجارية والفنية متأثرا بالنمو الكبير لصناعة الإشهار.
في البداية كانت وسائل الدعاية للفيلم السينمائي محدودة وتتمثل في الإعلانات في الصحف والمجلات و الوصلات الإذاعية عبر الأثير والأشرطة الدعائية في القاعات السينمائية، لذا فرض الأفيش نفسه كدعامة أساسية في الدعاية للفيلم السينمائي، وكان من وظيفته جذب فضول المارة في الشوارع وإثارة رغبتهم لمشاهدة الفيلم من خلال الرسم الورقي بتشكيلاته وتفاصيله التي تمتد على حيز مساحي ضيق جعل المخرج الكبير ستانلي كيبريك يصف فن الأفيش بأنه القدرة على اختزال ما صوره المخرج السينمائي في 350000 لقطة في صورة واحدة .
في عقد الخمسينات من القرن الماضي تحول الشغف بالأفيش السينمائي إلى هواية سينيفيلية، وباتت الكثير من الأفيشات تحفا فنية تضاهي في قيمتها الجمعية الأعمال التشكيلية.
لم ينل الأفيش السينمائي ذات الاهتمام في مصر والعالم العربي، فلم يؤرخ قط للأفيش، ولم يحظ باهتمام الدارسين وهي ملاحظة سجلها المخرج سمير سيف في تقديمه للكتاب، بينما يفاجئونك في أوربا وأمريكا بالحديث عن أول أفيش للفيلم السينمائي، ثم يثيرون دهشتك حين يميزون الأفيشات اللاحقة مرتبة بتواريخها بحسب المرات التي يعاد فيها طرح الفيلم بالقاعات السينمائية، في حين ضاعت ثروة سينمائية لا تقدر بثمن بفقدان أفيشات العرض الأول لكثير من أفلام السينما المصرية، وحتى الأفلام التي رصدنا لها أكثر من أفيش، يجد المؤرخ السينمائي صعوبة في القطع بترتيبها الزمني، اللهم إذا تضمنت بياناتها عناصر تدلل على تواريخها، وتعود الظاهرة في تقديري بجانب التحلل الطبيعي للأفيش الورقي في غياب أدوات للحفظ، إلى أن الأفيش كان يتعرض للإتلاف من تمزيق وحرق وعبث بعد أن يركن الفيلم في الرفوف، ومن وحي المشاهدة الشخصية عاينت استعمال الأفيشات لتلميع زجاج واجهات السينما، بينما حوفظ على هذا التراث السينمائي في الغرب بفضل جهتين مهمتين نفتقدهما في بلداننا العربية وهما الخزانات السينمائية Cinématiques Les والجماعون the collectors، وقد عجبت كثيرا أن جماعي الأفيشات في مصر وهي مهد الصناعة السينمائية في الشرق يقتنون أفيشات سينماهم من أوربا وأمريكا وبعض الدول العربية حسبما حكى مؤلف الكتاب في تقديم تجربته الشخصية .
لقد وجدت هذا التقديم ضروريا لوضع الكتاب في سياقه وإبراز أهميته، وقبل سامح فتحي، صدرت عدة كتب عن موضوع الأفيش، أخص منها بالذكر لا الحصر ” أفيش السينما المصرية ” لسيف سلماوي و”الأفيش في السينما المصرية والعربية” لمحمود قاسم، إلا أن كتاب سامح فتحي تميز عن غيره في اعتقادي، لأن مؤلفه جامع وهاوي أفيشات، ويستطيع الشغوف دائما أن يتجاوز العالم في مجال تخصصه.
من حيث الشكل والإخراج، اختار المؤلف مقاسا أثيرا عند مؤلفي هذا الصنف من الكتابة السينمائية في الغرب هو 28 × 22 سنتيمترا، وتضافر هذا الاختيار مع انتقاء الورق المصقول في إبراز جماليات أفيشات العصر الذهبي للسينما المصرية، وقد يعجب البعض من التركيز على هذه التفاصيل التقنية، لكني أرى بأنها اختيارات مفصلية، لأن الكتاب لا يقدم مضامين معرفية فقط، وإنما يتجاوزها إلى تقديم مضمون بصري يحتاج إلى إبراز جمالياته، وهيمنة الجانب البصري باد من خلال الحيز التي احتلتها صور الأفيشات من مجموع الكتاب ( 192 صفحة من أصل 248).
بدأ المؤلف كتابه ببوح شخصي وسمه بـ”رحلتي مع الأفيش” في عرض لتجربة شخصية تشابه تجارب جميع جماعي الأفيش، من استعجاب الآخرين والمحيط بالشغف وصعوبة استكمال المجموعة ومما يستتبعه ذلك من تكاليف مادية باهظة يٌبدل فيها الغالي، وتحتاج إلى التنقل والبحث المضني. هذا التقديم كان لابد منه لتثمين مادة الكتاب، فالمؤلف على العكس ممن سبقوه، لم يعتمد ما تقدمه محركات البحث على الانترنت، وإنما لمس كل أفيش وضعه في الكتاب بدليل إشارته إلى أن أفيشاته خضعت للمسح الضوئي بطريق الكومبيوتر قبل وضعها في الكتاب.
ينتقل المؤلف إلى قسم أضحى ثابتا في مثل هذه المؤلفات وهو التقديم للأفيش وأهميته وبداياته ورحلة تطوره، لكنه هنا يقدم معطيات تاريخية عن الأفيش المصري محقبا له بعقود القرن العشرين متوقفا على مميزات كل فترة على حدة والتطور الذي أضافته لهذا الفن مع التمثيل لكل فترة بعينة من الأفيشات توقف عندها الكاتب بالتحليل، والجميل أن القارئ يستطيع أن يتابع تحليلات الكاتب بمطابقتها بالأفيشات الملحقة بالدراسة، وكان بإمكان للعملية أن تتم بيسر لو أن الكاتب أحال على رقم الصفحة بجانب كل أفيش تعرض له بالإشارة أو التحليل في الصفحة ذاتها.
بعدها يتفرغ المؤلف لظاهرة مشهودة في العالم كله وهي ظاهرة الاقتباس التي قاربها من منظور تأثر الأفيش المصري بالأجنبي، والظاهرة ليست قاصرة على الأفيش المصري، وإنما هي عامة وناتجة عن نضوب الأفكار في مجال تصميم الأفيش وتشابهها، وقد قدم الكتاب نماذج من الأفيشات المصرية المنحولة، وإن كانت النماذج المعروفة أكثر من تلك التي أحصاها وعرض لها بالمقارنة.
يتوقف المؤلف على ظاهرة أخرى تتصل بعلاقة الأفيش بالرقابة، وسجل أن الأفيش المصري تمتع طويلا بحرية ملحوظة في التعبير عن الفيلم، وهي حرية مشهودة إذا ما تمت مقارنتها بتشدد الرقابة في كثير من الحالات مع مضامين بعض الأفلام، إلا أنه يستطرد ويورد أمثلة ليس من الرقابة الرسمية، وإنما من الرقابة الشعبية التي حاكمت جرأة بعض الأفيشات بالتعرض لها وإتلافها.
بعد تمهيد عن تأثير المرحلة اليونانية في تطور الأفيش في السينما المصري، ينتقل الكاتب للتعريف بأبرز رسامي الأفيش، واختار منهم ثماني فنانين هم على التوالي حسن جسور ومحمد عبد العزيز وفاسيليو ووهيب فهمي وأنور علي ومرتضى أنيس ثم ناجي شاكر فسارة عبد المنعم، وقد توقف عند أسلوب كل منهم، مستعرضا بالتحليل نماذج من الأفيشات التي خطتها أناملهم، وحتى يجري نوعا من التسلسل المجسد لمساهمة كل منهم في تطوير فن الأفيش خص كل منهم بلقب ؛ فوصف جسور بشيخ الطريقة المصرية في صناعة الأفيش ؛ ووسم عبد العزيز بفنان البراويز ؛ وفاسيليو بعمدة فناني الأفيش من اليونانيين ؛ واعتبر وهيب فهمي من أفضل منفذي الأفيش ؛ وأصبغ على أنور علي لقب رائد الأفيش المعبر عن طبيعة العمل ؛ وعلى مرتضى رسام ومصمم أفيش التساؤل وخص ناجي شاكر برائد الفن التشكيلي في الأفيش وسارة بمصممة الأفيش الحديث.
ختم المؤلف كتابه بمجموعة مواضيع وهي إن بدت متفرقة إلا أن قاسمها المشترك يبقى اتصالها بالأفيش ؛ فعرض لتقسيمه للأفيش من الناحية الفنية والتقنية ولتفريعاته من جانب المضمون، بجانب مسائل تقنية بحتة كحجم الأفيش وأنواع الطباعة ومراحل صناعة الأفيش وتنفيذه، وكلها مسائل قد تبدو تقنية محضة، إلا أنها تبقى مفيدة للقارئ غير المتخصص الذي قد يتملكه الفضول لاستكشاف عوالم الأفيش السينمائي.
خرج سامح فتحي في عمله بمجموعة من الانطباعات؛ أبرزها تقاطعه مع كل الهواة والمتخصصين في الكتابة في هذا الفن، في أن الكرافيك وبرامج الكومبيوتر أنهت اللمستين الفنية والجمالية في الأفيش السينمائي، ويحسب له – ولو عن طريق الغير- عناء ترجمة مضامين الكتاب إلى اللغة الانجليزية، ففتح بذلك لكتابه آفاق رحبة للذيوع في العالم بأسره.
لا أخفي سرا أن ما دفعني لتقديم هذه القراءة عن الكتاب، هو اشتراكي مع المؤلف في الشغف بفن الأفيش السينمائي، وكنت أتمنى لو قارب ثلاثة مواضيع كانت ستجعل مؤلفه متكاملا من جميع الجوانب؛ أولها أن فن الأفيش المصري لا يتوقف عند الثمانية الذين قدم لهم، فلم يتطرق لتجارب جميع رواد الأفيش المصري، وكنت أتمنى على سبيل التمثيل لو قدم نبذة عن سيرة وأسلوب أحمد عدلي الذي كان نشاطه مشهودا من بداية الأربعينات حتى عهد تأميم السينما في بداية الستينات، وقد تخصص بشكل خاص في أفيش الفيلم الاستعراضي والغنائي، وصمم أجمل أفيشات أفلام فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد وغيرهم.
وددت أيضا لو انبرى سامح لتتبع تأثير مدارس الفن التشكيلي على مضامين الأفيش المصري، وقد تطرقت دراسات في كثير من بقاع العالم لتأثير المدارس الكبرى للفن التشكيلي في فن الأفيش، قد يشفع فقط للكاتب أن الأفيش المصري كسينماه، ظل في معظمه محافظا وافيا للمقولة المعروفة “الجمهور عايز كده”، بتركيز تصاميمه على نظام النجم، وتسخير جميع أدوات الرسام لإبراز النجم الذي يحمل العمل كتوظيف تقنية البورتريه واللقطات المقربة التي تركز على الوجه.
تتركز المؤاخذة الثالثة على اقتصار الكتاب على الأفيش المصري المنجز في مصر، مغفلا أفيش الفيلم المصري المنفذ بالخارج، ففي العصر الذهبي للسينما المصرية، كان الأفيش الأصلي للفيلم يٌصمم وينفذ في مصر، وبالموازة مع ذلك كان الموزع الخارجي مخيرا بين أن يحتفظ بالأفيش الأصلي مع إضافات طفيفة ترتبط بترجمة العنوان وكتابة أسماء الطاقم باللغة الأجنبية أو أن يصمم أفيشا خاصا مختلفا عن الأفيش الأصلي.
كانت أغلب شركات التوزيع الخارجي كريجان فيلم ووابر فرنس وفرنكوريكس مستوطنة في فرنسا وتتمتع بامتياز توزيع الفيلم المصري في فرنسا ودول المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس)، وكانت تقوم – بالنسبة لبعض الأفلام دون غيرها ولاعتبارات نجهلها- بتنفيذ أفيشات مختلفة في تصاميمها وأفكارها عن الأفيش الأصلي المنجز في مصر.
في معظم الأحوال كان الرسام المصري متفوقا على الرسام الأجنبي بحكم انتمائه للبيئة المصرية ومعرفته الدقيقة بنجوم السينما المصرية، لكن في حالات محددة رصدنا تفوق الأفيش المنفذ بخارج مصر على الأفيش المنفذ داخلها، لذا يستحسن لو قُدر للكاتب أن يستمر في نهجه في التعريف بالأفيش المصري فيما يستقبل من كتب أن يراعي هذه الخصوصية التي لا تخدم إلا تنوع الأفيش المصري.
يٌعد كتاب “فن الأفيش في السينما المصرية” الإصدار الثاني للمؤلف في هذا الصنف من الكتابة بعد كتاب “الأفيش الذهبي في السينما المصرية” الذي لم تتح لي فرصة الاطلاع عليه للأمانة العلمية، ولا أملك كهاوي للأفيش السينمائي الفني إلا أن أثمن هذا المجهود حاثا المؤلف وغيره على الاستمرار في هذا النهج، لأن حفظ ذاكرة السينما المصرية يحتاج إلى مثل هذه الأعمال ذات البعد التوثيقي التي يغذيها الشغف.