قراءة في أفلام الدورة الرابعة عشرة لمهرجان طنجة الوطني
النساء بين أزمة الهوية والجنس
عشرون فيلما هو عدد الأفلام الطويلة التي شاركت في فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان طنجة الوطني والذي اختتم فعالياته هذا الأسبوع متوجا فيلم المخرج نور الدين لخماري “زيرو” بالجائزة الكبرى.
أحد عشر فيلما من بين هذه الأفلام العشرين هي العمل الأول لمخرجيها وبالتالي يمكن من خلالها الوقوف على طبيعة الموضوعات والأفكار التي تشغل بال الجيل الجديد من صناع السينما المغربية وتوجهاتهم السياسية وميولهم الفنية، مما قد يرسم صورة خارطة الطريق السينمائية لواحدة من اهم السينمات في المنطقة العربية.
المتابع لأفلام هذه الدورة التي تمثل حصيلة الإنتاج السينمائي المغربي خلال عام 2012 يمكنه ان يرصد الكم غير القليل من الأفلام التي اتخذت من المرأة أو نساء المجتمع المغربي على مختلف فئاته إحدى الزوايا الأساسية في التعاطي الدرامي مع الموضوعات التي تطرحها.
الكثير من الافلام اتخذ من الشخصية الأنثوية بطلا لفيلمه مثل الوثائقي “نساء بلا هوية” من إخراج محمد العبودي الذي حظى بتنويه من لجنة التحكيم الدولية، ومثل “في يوم وليلة” للمخرج نوفل البراوي وبطولة الممثلة المغربية المخضرمة ثريا العلوي وفيلم “ملاك” من إخراج عبد السلام الكلاعي الحائز على جوائز لجنة التحكيم الخاصة وأحسن سيناريو وأحسن ممثلة دور أول للوجه الجديد شيماء بن عشا ومثل “البايرة” لعبد الرحمن التازي الذي تناول قضية العنوسة في اطار كوميدي ومثل “حدود وحدود” للمخرجة فريدة بو اليزيد الذي حاول أن يتعرض لقضية الصحراء المغربية من خلال شخصية مخرجة اسبانية تصنع فيلما تسجيليا عن العلاقة العضوية بين الصحراء والمملكة المغربية.
والبعض الأخر تعامل مع الشخصية الأنثوية على اعتبار أنها المحرك الدرامي الرئيسي للأحداث مثل فيلم “زيرو” لنور الدين لخماري، وبعضها تعامل مع الأنثى كعنصر تجاري في محاولة لجذب الجمهور مثل “حياة الآخرين” للمخرجة بشرى بلواد وهو أحد اضعف التجارب التي قدمت خلال المسابقة أو فيلم “فيها الملح والسكر” للاخوين النوري وبطولة الممثلة الكوميدية المعروفة أمينة رشيد وهو الجزء الثالث من الفانتازيا الكوميدية التي ظهرت قبل 13 سنة وتحكي قصة امراة عجوز متصابية ترغب في الزواج.
كما ان حضور الأنثى كمعادل درامي للوطن والمكان أو كموتيفة اسطورية تخص تقديم رؤية مختلفة عن قضايا الكون الكلية كالحب على سبيل المثال يبدو ايضا حاضرا من خلال أفلام مثل “خويا” للمخرج كمال المحاوطي و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” لحكيم بلعباس والحائزة على جائزة أحسن مونتاج.
أزمة الهوية والجنس
نستطيع أن نعتبر أن القوسين الأساسين اللذين تعامل معهما المخرجون خلال أفلام الدورة الحالية مع المرأة هما قوسا الهوية والجنس في مفهومهم الأعم، فحوالي نصف أفلام الدورة قدمت عبر بطولات نسائية بحتة أو بمشاركة درامية متساوية النصيب مع البطولة الذكورية.
والمقصود بأزمة الهوية في فرضيتنا هي الهوية بمشتملاتها الإنسانية والسياسية والإجتماعية لأن كلمة الهوية في عرف قراءة السينما المغربية تختص بأزمة التمزق ما بين الأصول المغربية والهوى الفرانكفوني والمهجر الفرنسي.
اما الجنس فالمقصود به حالات الإستغلال الجنسي للأنثى والتعامل الجسدي معها سواء اجتماعيا أو”سينمائيا” بالإضافة إلى عنصر التمييز الجنسي والتعاطي معها ككائن أدنى أو مواطن من الدرجة الثانية.
في فيلمه الوثائقي “نساء بدون هوية” يقدم لنا المخرج محمد العبودي رصدا لحالة هند الفتاة التي تعرضت للإغتصاب وهي في الرابعة عشرة من عمرها مما ترتب عليه طردها من المنزل وبالتالي تتحول إلى راقصة وعاهرة وتضطرها الحياة والطفل الذي تحمله بين ذراعيها إلى أن تعيش مع رجل مدمن في سكن عشوائي بدون اساسيات الحياة، هذا الفيلم هو تجلي صريح لازمتي وضع الأنثى بين قوسي الهوية والجنس اللذان طرحناهما في البداية.
فالهوية التي ورد ذكرها في عنوان الفيلم لم يقصد بها المخرج بطاقة الهوية التي لا تحملها هند بحكم كونها لا تملك شهادة ميلاد ولا ذكر رسمي في سجلات الدولة إنما هي هويتها الانسانية كأمرأة تحتاج إلى نظام اجتماعي ناضج ومختلف لكي يستوعب حالتها الأستثنائية التي هي اصلا نتاج نسق اجتماعي وأسري فاشل, فالأنثى محكوم عليها بالذنب حتى لو كانت مغتصبة.
لقد اطلق المخرج على فيلمه نساء بلا هوية ولم يقل امرأة بلا هوية فقط, لأن نموذج هند هو عينة لشرائح نسائية كثيرة تعاني من نفس أزمتها التي تسبب فيها الأعتداء الجنسي الذي تعرضت له في صغرها، ثم طريق الجنس المحرم الذي لم تجد سواه كي تستطيع أن تعيش وتكسب رزقها ورزق وليدها، وهو اتهام واضح للمجتمع الذي يسقط من حساباته هذه الفئات المحرومة من أي دعم مادي او معنوي, وأكبر دليل على هذا أن هند نفسها الشخصية الرئيسية في الفيلم لم تتمكن من حضور المهرجان نتيجة دخولها السجن عقب تصوير الفيلم.
ونستطيع ان نعتبر أن أزمة هند هي الانعكاس الواقعي لأزمة “ملاك” تجربة عبد السلام الكلاعي الأولى، فملاك المراهقة الصغيرة التي تسلم نفسها بناء على إنجراف عاطفي مشبوب لحبيبها تكتشف أنها حامل، ولا تجد بدا للحصول على المال الازم لعملية الأجهاض سوى بالعمل كعاهرة، وبعد أن يطردها أخاها الأكبر المتزمت من المنزل تتلقها حياة الشوارع والمغامرات العاطفية والجنسية الفاشلة حتى تنجب طفلها، وتصبح أما وحيدة في مجتمع لا يسامح المرأة ولا يغفر لها خطيئتها فهي كائن درجة ثانية.
ورغم ميلودرامية الفيلم الفاقعة وكونه أشبه بكولاج من أفلام السينما المصرية في عصرها الميلودرامي الشهير خلال الأربعينيات والخمسينيات إلا أن وجود فيلم مثل “نساء بلا هوية” في نفس سياق العرض معه عضد من واقعيته وجعله اقرب للقصة الحقيقة منه للميلودراما التي لم تترك مصيبة ولا كارثة ولا أزمة إلا وتعرضت لها بطلتها.
وفي فيلم المخرج كمال الماحوطي”خويا” يتعامل المخرج مع الأنثى كرمز للتمزق بين هويته الفرنسية وأصوله المغربية والذي يعاني منه بطل الفيلم الرسام موبنصلاح, حيث أستخدم المخرج موتيفة الأنثى/ الوطن ليصيغ منها أسباب المعاناة، فهو يحب زميلته الفرنسية في العمل التي ترمز لكل ما هو فرنسي في حياته بينما يصر أباه على أن يعود إلى المغرب كي يتزوج من بنت عمه المغربية التي تمثل جذوره وأصوله التي لم يتمكن من التخلص منها رغم حياته ونشأته في فرنسا منذ هاجر هو وأهله.
وفي حين تمنحه حبيبته الفرنسية الجنس بدون مقابل في المشهد الذي نراها تنام فيه إلى جانبه عندما تشعر بضيقه وعذابه, تظل خطيبته المغربية محكومة بالأطر الشرعية والاجتماعية التي لا تجعلها في متناول يده إلا بعد الزواج.
وفي تنويعه اخرى لفكرة الهوية الأنسانية والجنس يقدم لنا المخرج نوفل البراوي فيلمه”في يوم وليلة” حول امرأة تعيش في قرية منعزلة لم يسبق لها أن نزلت المدينة من قبل، ولكنها تضطر إلى النزول لأحضاء دواء أبنتها بعد أن نسي زوجها أرساله كعادته، وهناك تصطدم المرأة ذات الخصال الريفية البحتة بالمدينة المتوحشة التي بلا قلب, فتتعرض للنصب والسرقة ولا تجد من تساعدها سوى عاهرة من عاهرات الدار البيضاء التي تتعاطف معها وتحاول أن تعثر لها على زوجها.
هنا نلمح تماس مع فيلم “خويا” في الجانب الفلسفي او الدلالات الذي تستخدم فيها الأنثى كرمز للمكان، فالعاهرة التي تساعد المرأة وتستغلها في نفس الوقت هي رمز للمدينة بوجهيها الجيد والقبيح. ويعكس الفيلم في الجانب الجاد منه رغم بناءه الهزلي وأحداثه المفبركة ونهايته الساذجة جزء من نظرة المجتمع المغربي للمرأة، فهي تائهة بدون الرجل، جاهلة بما يحاك حولها من مؤامرات بهدف الوصول إلى جسدها.
أن المرأة”الشريفة” في المجتمع الشرقي لا تكتسب هويتها بحكم نظرة هذا المجتمع إلا عن طريق أنتسابها لرجل وهو جزء من تخلف مجتمعاتنا وترديها حضاريا بينما نجد العاهرة تبدو أكثر قوة منها فهي تشق طريقها وسط ضباع المجتمع وذئابه عن طريق جسدها أو لنقل عن طريق “الجنس” فهو الذي يمنحها القوة والقدرة على البقاء على قيد الحياة بل والوصول إلى كل ما تريده من مال ومعلومات وتحقيق مصالح. وقد قدمت الممثلة الأيقونية ماجدولين الادريسي دور العاهرة القوية بشكل ناضج رغم نمطية الشخصية وتكرارها في كثير من التجارب.
وما بين قوسي الهوية والجنس والأستخدام الدلالي للأنثى نجد التماس أيضا جليا بين التجربتين السابقتين وبين “زيرو” لنور الدين لخماري، مع الفرق الواضح في مستوى اللغة السينمائية والجودة التقنية والعلو الدرامي، فالزيرو ذلك الضابط الذي يعيش في قولون المدينة حيث عالمها السفلي المليئ بل ما هو فاسد وعطن يجد نفسه منجذبا إلى الطبيبة الحسناء ذات الطابع الفرانكفوني تلك الشقراء التي تمثل النقاء والحب والراحة اللذان لا يجدها في حياته المليئة بالفشل والعفن النفسي.
أنها تمس فيه جانبه الفطري السليم، حتى أن ممارسة الجنس معها تتحول إلى فعل تطهيري من آثام وخطايا المدينة التي هو جزء من عفونة احشائها، وفي مقابل تلك الحسناء الرقيقة ثمة العاهرة الشابة (زينب سمارة)التي هرستها المدينة وجعلتها تلجأ إلى التعاون مع الزيرو في عمليات نصب على زبائنها واقتسام الغنيمة معه.
ولكن يزيد على هاتين الإثنتين تلك الفتاة/ الفراشة التي تأتي أمها بحثا عنها بعد أن جاءت للمدينة بحثا عن عمل فتلقفتها أيدي القوادين وتجار البشر، حيث يخوض الزوير رحلة طويلة بحثا عن الفتاة إلى أن يجدها وسط بيت الدعارة الكبير/ رمز المدينة والذي يتواطئ فيه تجار الرقيق مع مفتش البوليس الفاسد ورئيس زيرو لتبدأ عملية تنظيف المدينة من هويتها الملوثة بحمام دم كامل ومذبحة لكل هؤلاء الفاسدين على يده, كي ينقذ تلك الفراشة الصغيرة في النهاية قبل أن يحرقها الجحيم.
الحديقة السرية
نلاحظ هنا عدد الأفلام التي تمثل فيها الدعارة أو شخصية العاهرة أو المرأة التي تضطر إلى بيع جسدها عنصرا رئيسيا، وهي ملاحظة تستحق التوقف أمامها، فالبعض يعتبر وجود شخصية العاهرة في الفيلم المغربي جزء من عنصر الجذب التجاري بما يحيطها من ألق حسي أو وهج “الأغراء”- رغم ابتذال المصطلح واستهلاكه- ولكن النظرة الموضوعية والأكثر تحليلا لوجود شخصية العاهرة تجعلنا امام إنعكاس لجانب من هوية المرأة في المجتمع المغربي وإطارها الحياتي والأجتماعي.
لقد اطلق التقرير الذي قدم لرئيس الوزارء المغربي بنكيران عن الدعارة في المغرب اسم “الحديقة السرية” على نشاط الدعارة الغير شرعي والمستفحل في المجتمع، وقد ذكرت الصحف أن رئيس الوزار صدم من حقائق الأرقام التي وردت له في هذا التقرير عن نشاط الدعارة داخل وخارج المغرب، وحجم وجود المغربيات في تجارة الرقيق التي هي الرافد الرئيسي للدعارة العالمية والمحلية.
من هنا يمكن أن نعتبر ان وجود شخصية العاهرة ليس من قبيل الأستغلال التجاري-فقط- ولكنه جزء من رصد واقع حياتي ملموس من قبل صناع السينما في المغرب, وليس أدل على ذلك من أن فيلم مثل “حياة الأخرين” للمخرجة الشابة بشرى بلواد لم يقدم شخصية عاهرة كي يجذب الجمهور ولكنه قدم ما هو أفدح من ذلك حيث تعاطي مع فكرة تبادل المواقع الحياتية بشكل جنسي من خلال زوجين في منتصف العمر يعانيان من فتور حياتهم الزوجية مما يجعلهم يتلصصون على الحياة الجنسية لخادمتهم وزوجها الطباخ, ثم يوقعون معهم إتفاقا لأجراء عملية تبادل زوجات”شرعية”، حيث يطلق كل من الرجلين زوجته ويتزوج بامرأة الآخر ليذوق طعم حياته وجسد امرأته, وهي تيمة تشبه تيمات أفلام البورنو خاصة مع إصرار المخرجة على تقديم حالة شاذة من ممارسة المشاعر الحميمية بشكل علني وجماعي، يكفي لها مثلا مشهد الدخلة الجماعية بين الأزواج الأربعة، حيث كل رجل ينام مع زوجة الآخر بعد أن تزوجها ولكن أربعتهم في فراشين متجاورين في غرفة واحدة وهو أحد أحط استغلالات موتيفة الجنس في السينما المنجزة خارج إطار افلام البورنو.
في فيلم خارج التغطية للمخرج نور الدين دوكنه تقدم لنا شخصية العاهرة على نفس أرضية فساد الهوية الإجتماعية للمرأة واضطرارها اللجوء لبيع جسدها من اجل المال وتربية ابنها حتى لو كانت متعلمة، أن عاهرة “خارج التغطية” حاصلة على إجازة في اللغة الفرنسية، ولكنها تضطر مع كساد الحال والبطالة وكونها امرأة إلى العمل بالدعارة حتى ينتشلها مشروع شعبي لتعليم أهل الحي على يد باحماد ولبشير، العجوزين اللذان تخلى عنهما أبنائهما وتركوهما نهبا للشوارع ودور العجزة.
هناك إصرار من المخرجين على أن وضع المرأة في المجتمع المغربي لا يتيح لها دورا هاما أو مكانة مناسبة وأن اغلب العاهرات هم ضحايا المؤسسة الأجتماعية بكل ترديها وسوء نظرتها للمرأة.
وعودة إلى ما طرحناه بخصوص أن هوية المرأة في المجتمع الشرقي تتحدد بانتسابها للرجل فإننا نجد في فيلم “البايرة” لعبد الرحمن التازي صياغة كوميدية لمشكلة العنوسة كما يراها العم الوصي على مرزاقة البايرة من وجهة نظره– والبايرة هي اللفظة الدارجة لكلمة عانس اي التي بارت كالتجارة الكاسدة- ومرزاقة التي اشرفت على الثلاثين وتعمل كمضيفة تجد نفسها مضطرة إلى مجارة العم من أجل ترضيته، ودون أن يأخذ العم في الاعتبار عناصر التوافق أو الشروط الواجب توافرها في العريس يسحب كل رجل يلتقيه كي يعرض عليه الزواج من أبنة أخيه.
ورغم أن الفيلم يأتي في اطار الكوميديا الإجتماعية الخفيفة إلا إنه يعكس النظرة الذكورية للمرأة في مجتمع يحدد هويتها بناء على الرجل الذي تقترن به، أيا كان هذا الرجل وسواء كان مناسبا أو غير مناسب وسواء أحبته أو كرهته.
وتتوازي تلك النظرة إلى هوية المرأة مع ما قدمه المخرج رؤوف الصباحي في فيلمه “الفردي” وهو دراما اجتماعية ذات اطار بوليسي حيث نجد الخيط الدرامي الخاص بأبنة مفتش البوليس التي تنتظر عريسها وتصاب بحالة إحباط شديدة مع عملية أفتضاح أمر العائلة أمام العريس, خاصة عند اكتشاف أن اخاها سرق المسدس (الفردي) الخاص بأبيها، رغم أننا نراها فتاة جميلة ومحجبة- ي متدينة نسبيا- بينما العريس شاب أهبل ضعيف الشخصية، لكنها تحرص بكليتها على ألا يطير من يدها، في مقابل أختها التي نكتشف في النهاية أنها تعمل كعاهرة- أيضا- وتتعرض للقتل على يد أخيها بمسدس والدها عندما يراها مع رجل الأعمال الغني الذي حاول الاخ وأصدقائه إقتحام بيته بمسدس الأب.