قبل إعلان الجوائز: دورة مهرجان كان الـ75 هي الأسوأ!
أمير العمري- كان
اختتمت يوم السبت 28 مايو، الدورة الـ 75 من مهرجان كان السينمائي التي كان يفترض أن تكون دورة استثنائية مميزة من جميع النواحي غير أنها جاءت، في الواقع، مخيبة للآمال، على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي يتابع المهرجان منذ أكثر من 30 سنة.
توقفنا في البداية أمام فشل المهرجان في تنظيم عروض الصحافة عن طريق بطاقات المشاهدة التي أصبحت مفروضة والكترونية، والحصول عليها يقتضي الاستيقاظ قبل السابعة صباحا، وإلا فلن تجد بطاقات لما تريد مشاهدته. وهي رحلة عذاب يومية لأن من وضعوا هذا النظام العقيم لم يأخذوا في الاعتبار سوء توزيع برنامج العروض على نحو لم أره شخصيا من قبل، فغالبية أفلام المسابقة الرسمية تعرض في المساء وحتى ما بعد منتصف الليل، أي بعد أن يكون المرء قد نفذت طاقته وأصبح في حاجة الى راحة لن يجدها لأنه مضطر للاستيقاظ مبكرا!
كان من ضمن أجمل أوقات كان، أن يستيقظ الصحفيون والنقاد مبكرا، ليمضوا في كونشيرتو منظم تماما لحضور عرض الثامنة والنصف صباحا ومنه مباشرة الى قاعة المؤتمرات الصحفية لحضور المؤتمر الصحفي مع مخرج وفريق الفيلم الذي شوهد والمشارك في المسابقة. لكن المهرجان الي شهد تألقه في عصر المدير الفني السابق جيل جاكوب، أخذ ينحدر تدريجيا منذ أن تسلم المدير الفني الحالي تيير فريمو قيادة المهرجان قبل 18 عاما، بعد أن أخذ فريمو يستجيب لضغوط الشركات الفرنسية بحيث أصبح مهرجان كان خاضعا خضوعا تاما لرغبات الشركات.
تارة تفرض الشركات على مهرجان كان مقاطعة شبكة نتفليكس وغيرها من منصات العرض الرقمي الأخرى بعد أن فشلت في إرغام هذه المنصات على عرض أفلامها أولا في السوق الفرنسية لعدة أشهر قبل عرضها للمشتركين فيها.
وتارة أخرى تعترض الشركات على عرض أفلامها للنقاد والصحفيين في عروض سابقة بيوم على عروضها الرسمية في المهرجان (عروض السجاد الأحمر)، بدعوى ان النقاد يحرقون الأفلام بتقييمها والحكم عليها قبل أن تشاهدها النخبة الحاضرة من رجال الصناعة والتجارة الأمر الذي قالت إنه قد يؤثر سلبا على فرص تسويقها. ويستجيب فريمو فيوقف العروض الصحفية التي تسبق العروض الرسمية ويرغم النقاد على مشاهدة الأفلام في نفس عروضها الرسمية أي في المساء والسهرة!
هذا التصرف لم يكن لائقا بالطبع، وكان يكفي تماما أن يوقع كل صحفي سيحضر المهرجان ويقبل بالشرط الذي ينص على عدم نشر أي شيء عن الفيلم سواء كمقالات أو على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل العروض الرسمية للأفلام. وهذا الشرط قائم ومطبق وفعال وكاف ويحترمه الجميع في مهرجانات سينمائية كبيرة أخرى مثل فينيسيا وبرلين. ومازال ساريا في هذين المهرجانين.
البساط إذن بدأ قبل سنوات، ينسحب تدريجيا من تحت قدمي مهرجان كان. وكان هذا الانسحاب يصب دائما لحساب مهرجان فينيسيا، كما أن الشركات الأمريكية التي أقامت المهرجان ودعمته أصلا بدأت تنسحب من كان، وتفضل عرض أفلامه الجديدة في فينيسيا أي في موسم الخريف الذي يسبق ترشيحات الأوسكار، وبالتالي أصبح فينيسيا هو بوابة العبور على الأوسكار ليس كان. وهذا العام مثلا لم يحصل تييري فريمو سوى على فيلمين أمريكيين جديدين من الأفلام الشعبية الأول هو توب جن” الفيلم السادس من بطوقة توم كروز، والثاني “الفيس” عن حياة الفيس بريسلي من بطولة أوستن باتلر، وأما باقي الأفلام الأمريكية الجديدة من إنتاج الشركات الكبيرة في هوليوود، فغالبا ستذهب الى فينسيا التي ينتظر أن تعرض الأفلام الجديدة لمخرجين مرموقين من أمثال ويورغوس لانتموس وأليخاندرو جونزاليس إيناريتو، وتود هاينز ومايكل مان ولوكا جوادجنينو وويس أندرسون وداميان شازيل وتيرنس ماليك وروي أندرسون.
سقط مهرجان كان أيضا في شبكة الدعاية السياسية الفجة عندما استقبل في حفل الافتتاح على الهواء مباشرة، كلمة طويلة تستجدي المشاعر من رئيس أوكرانيا الذي يتاجر بدماء أبناء بلده من أجل الحصول على الدعم الغربي وربما ينال عضوية الاتحاد الأوروبي. وللمرة الأولى يرفع أحد الصحفيين علم أوكرانيا داخل قاعة العروض الصحفية وترتفع هتافات بعض الغوغاء الحاضرين من الصحفيين المتعصبين. وبدلا من أن يلعب المهرجان كحدث ثقافي، دورا في بناء جسور للثقة والمحبة بين الشعوب، يصب الزيت على النار ويساهم في إذكاء نيران الحقد والكراهية، كما حدث من خلال تلك الهجمة العدائية ضد الفن الروسي والثقافة الروسية بعد أن أعلن المهرجان، رفض قبول أفلام روسية ما لم يكن مخرجوها معارضين لسياسات الرئيس بوتين، ورفض قبول الصحفيين من روسيا بشكل عام أيا كان موقفهم من الحرب ومن بوتين، في حين أن مهرجان فينيسيا أعلن أنه يتبع تلك السياسة الحمقاء.
أما من حيث مستوى الأفلام فما يهمنا أساسا هو المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة التي تتسابق على “السعفة الذهبية”، أما باقي المسابقات والجوائز فقد ابتدعها السيد تييري فريمو وهي في رأيي الشخصي، قللت كثيرا من قيمة المهرجان ومن قيمة السعفة الذهبية نفسها، بعد أن تكاثرت الجوائز وأصبح قسم “نظرة ما” مثلا لا يكتفي بمنح جائزة لأفضل فيلم عرض في هذا القسم، بل ويمنح من خلال لجنة تحكيم أخرى، جوائز عدة في فروع مختلفة مثل السيناريو والإخراج والتمثيل!!
وإذا توقفنا أمام أفلام المسابقة (بل وأفلام نظرة ما وسائر أقسام المهرجان) فسوف نلاحظ طغيان الأفلام الفرنسية والأفلام من التمويل الفرنسي والانتاج المشترك مع فرنسا. وهو ما يعكس الطغيان الفرنسي على المهرجان وبالتالي لم يعد في رأيي، مهرجانا دوليا بل مهرجان يحتفي أولا وأخيرا بالسينما الفرنسية والمدعومة فرنسيا. فيلم الافتتاح فرنسي. وفيلم الختام فرنسي.. ورئيس لجنة التحكيم ممثل فرنسي!
لن أتطرق إلى فيلم الافتتاح المقزز “قطع نهائي” للمخرج هازانافثيوس صاحب فيلم “المهيب” الذي كان يسخر سخرية مريرة من جودار وقيل وقتها إنه الفيلم اعتداء سافر من قبل مخرج محدود القمية، على المخرج العبقري (جودار). لكنه نجح كثيرا في فيلمه ذائع الصيت “الفنان” حاصد السعفة الذهبية والأوسكار. وهو نجاح لم يكرره بعد ذلك.
يحرص المهرجان على ضم أفلام المخرجين ذوي الأسماء الكبيرة المشهورة بغض النظر عن مستواها، وأحيانا، يتم قبول الفيلم بناء على اسم مخرجه قبل أن ينتهي العمل فيه. ولكن هذه المرة خابت أفلام الأسماء الكبيرة وأصبحت الأقل شأنا بين أفلام المسابقة وهو ما ينطبق كثيرا على فيلم المخرج الكندي ديفيد كروننبرج “جرائم المستقبل” وفيلم المخرج الياباني هيروكازو كوريدا “وسيط”، وفيلم المخرجة الفرنسية كلير دونيز “نجوم الظهر”، وفيلم المخرج الفرنسي أرنو ديسبلاشين “أخ وأخت”، وفيلم المخرج البولندي سكوليموفسكي “إيو”، وفيلم الشقيقين داردين “توري ولوكيتا”، وفيلم المخرج الإيطالي ماريو مارتوني “نوستالجيا”. وكلها أفلام أراها متوسطة المستوى أو حتى دون المستوى.
أما أفلام الأسماء الأكثر شبابا فمنها فيلم كارثي بكل معنى الكلمة هو الفيلم الفرنسي (الثالث) “شباب إلى الأبد” للمخرجة فاليريا بروني تيديشي وهو الفيلم الذي أثار استغراب غالبية الحاضرين ولماذا أضيف للمسابقة الرسمية في اللحظة الأخيرة (هل السبب مجرد رفع عدد أفلام المخرجات- النساء في المسابقة؟!!).
الإيراني سعيد روستاي يقدم فيلما بعنوان “أخوات ليلى” يصلح للتليفزيون أكثر عن الغش المالي ووقوع الأبرياء في براثن شيء أقرب الى شركات توظيف الأموال أو ما أصبح يعرف في مصر باسم “المستريح” حاليا، ولكن الفيلم يعيبه كثرة الشخصيات التي تتكلم وتقاطع بعضها البعض طوال الوقت دون توقف، أي أنه يمتليء بالثرثرة والحوارات التي تشرح كل شيء وتصل الى ما يتوقعه أي متفرج بعد مرور 50 دقيقة من زمن عرضه الذي يقرب من ثلاث ساعات. لا جديد من ناحية اللغة السينمائية، بل مجرد عمل تقليدي باهت لمخرج يسير على كتاب السرد الواقعي الممل دون أي إضافة من الخيال.
الفيلم السويدي “مثلث الحزن” للمخرج روبين أوستلاند (الحائز على السعفة الذهبية في 2018 عن فيلم “المربع”): طريف ومضحك ومسل، لكن لا شيء يبقى في الذاكرة، بل هو يفسد فيلمه بتضمينه عشرات الشعارات المباشرة التي تصل لدرجة الهتاف الأحمق ضد كبار الأثرياء والجشع الرأسمالي والفروق الطبقية.. إلخ في سياق من الفوضى العبثية المبالغ فيها والتي تفقد القدرة على إثارة الضحك أحيانا.
فيلم المخرج الروماني كريستيان مونجيو (آر إم إن) أو RMN ربما يكون من أفضل ما عرض بالمسابقة لكنه أيضا يعاني من الاستطرادات، والإطالة وفقدان الهدف شأنه شأن فيلم جيمس جراي “زمن الأرماجيدون” الذي يروي ذكريات طفولته في الثمانينيات، في سياق تقليدي تماما وكأننا أمام تمثيلية تليفزيونية أخلاقية المغزى من تلك الفترة.
كتبت من قبل عن الفيلم المصري- السويدي “ولد من الجنة” لطارق صالح، والفيلم الإيراني السويدي “العنكبوت المقدس” لعلي عباسي، وتوقفت أمام ما يجمع بينهما وهما نقد المقدس (الديني) والسياسي، في البلدين المعنيين، وهما فيلمان لا غبار عليهما من الناحية الفنية مع بعض الملاحظات على الفيلم الأول من ناحية بناء السيناريو وضعف التمثيل بشكل عام.
يبقى أفلام “قرار المغادرة” للكوري بارك شان- ووك، و”التحييد” لألبير سيرا الإيطالي (وفيلمه فرنسي)، و”قريب” للبلجيكي لوكاس دونت، و”زوجة تشايكوفسكي” لكيريل سربرينيكوف. والأخير في رأيي الشخصي هو التحفة الوحيدة في المسابقة كلها. وهو يستحق السعفة الذهبية. ولكن المفاجآت دائما موجودة وكامنة وتعلن عن نفسها بكل قسوة أحيانا، مثلما حدث العام الماضي عدما فاز فيلم سخيف هو الفيلم الفرنسي “تيتان” بالسعفة في حين أنه لا يستحق أي تقدير من أي نوع!
ملاحظة: بعض هذه الأفلام تستحق بالطبع مقالات تحليلية خاصة، وبعضها الآخر لم أذكره أصلا (مثل الفيلم الأمريكي “التباهي” Showing Up والفيلم الفرنسي “أم وابن”) لأنني ببساطة لم أشاهدها.