“فِيْل”.. المتعةُ السينمائيَّة في شريط وثائقيّ
الفيلم الوثائقيّ “Elephant” (فِيل) يضيف الكثير إلى خِبرة المُشاهدة لدى أيّ مُتلقٍ. فهذا الفيلم الذي صدر عام 2020 قادر على جذب كلِّ مَجسَّات المُشاهدة، ومحورتها حول ما يُقدِّمه؛ لا من مُتعة خالصة طوال دقائق الشريط السينمائيّ وحسب، بل يمتدُّ إلى سبَبَيْ تلك المتعة: صناعة مُتقنة في الفيلم الوثائقيّ وصولاً به إلى تجاوزٍ حقيقيّ لجِنسه وتماهٍ مع جنس الفيلم الدِّراميّ -من حيث صناعة الشعور والتأثير، وما يتعلَّق بفعل التلقِّي-، والسبب الآخر هو المعاني الغزيرة التي تطالعنا مع كلّ مَشهَد وانتقالة.
فيلم “فيل” من إخراج مارك لينفيلد وكتابة ديفيد فولر؛ جاءنا في سلسلة “ديزني للطبيعة” التي تنتجها الشركة العملاقة. ولعلَّ إرادة هذه الشركة في “الاختلاف” والتميُّز دومًا، وبالقطع امتلاكها للأموال اللازمة لصناعة مثل هذه المشاريع بهذه الجودة كانا عاملَيْن حاسمَيْن للنجاح.
فيلم “فيل” يتناول حياة عائلة من الأفيال الحُرَّة؛ أيْ الطليقة التي تعيش في بيئتها الطبيعيَّة، لا في بيئة مُصطنعة كحدائق الحيوان الضخمة التي يصنعها الإنسان، ولا في بيئة انتقلت لها أو فُرضتْ عليها كالمَحميَّات بفعل الإنسان أيضًا. هذه العائلة تقطن الجنوب الإفريقيّ؛ خاصَّةً صحراء “كالاهاري” في شهور من العام تهطل فيها الأمطار وتتوفَّر المياه في دلتا نهر “أوكافانجو”، ثُمَّ عند حلول الجفاف ترحل الأفيال في رحلة ممتدَّة صاعدةً إلى نهر “زمبيزي” عند منطقة “شلالات فيكتوريا” لتكون بجوار مصدر الماء أيضًا. وبعد شهور تعود مرةً أخرى إلى دلتا النهر حين تكون المياه قد عادتْ.
وفي الفيلم نركِّز تفاعُلنا مع ثلاثة من أفراد هذه العائلة: “جايا” وهي الأمُّ الحاكمة في العائلة، وأكبر العائلة عُمرًا، تمتاز بالهيبة والنفوذ في قراراتها على الجميع، وهي مسئولة عن سائر الأفراد من حيث الحماية والمساعدة، وهي التي تمتلك خبرة المَسير وتوجيه التحرُّك وتوقيته. و”شاني” وهي التالية لها في تراتبيَّة الحُكم والمسئوليَّة، وشخصيَّتها تختلف عن “جايا”. ونقابل أخيرًا ابن “شاني” الفيل الصغير “جومو” الذي يملأ الفيلم مرحًا وطفولةً ومُتعةً؛ بحجمه الصغير بالنسبة للبقيَّة، وقلَّة خبرته -أو انعدامها- تجاه محيطه البيئيّ.
وصُنَّاع فيلم “فيل” عملوا منذ البدء على إخراج هذا الشريط المتميِّز عن النظرة الأساسيَّة للفيلم الوثائقيّ؛ ففي الوقت الذي ينظر المُشاهد للفيلم الوثائقيّ -خاصةً عن عالَم الحيوان- على أنَّه مصدر معرفيّ أساس يأتينا الفيلم مُعتمدًا على مبدأ الجماليَّة لا المعرفيَّة، وفي الوقت الذي ينتظر المُشاهد سَيلاً من “الحقائق” التي تتعلَّق بالفيل وبدورة حياته وغيرهما من وليمة الوثائقيّ نجد الفيلم يقدِّم “تفاعُلاً” مع أفراد داخل عائلة، ويُركِّز بشدَّة على تصرُّفاتها الشخصيَّة وانفعالاتها. وفي الوقت الذي يُقدِّم الوثائقي الواقع على ما هو عليه نجد الفيلم وروايته في انحياز كامل مع قطيع الفيلة. وفي الوقت الذي يتنبَّأ المُشاهد الاستماع إلى صوت المُعلِّق وأصوات الحيوانات يجد نفسه على موعد مع دقائق طويلة مُتَّصلة من أبدع وأرقّ الموسيقى المؤلَّفة بمهارة وخبرة.
أمَّا عن بعض عوامل صناعة هذا النجاح؛ فلعلَّ أبرزها عاملانِ: الأوَّل هو الابتعاد عن الخوض في معركة “التطوُّر أمْ الخلق؟” (هل تطورت الكائنات بعشوائيَّة دون خالق -وليس كلُّ تطور يتبع فكرة العشوائيَّة-، أم أنَّها نتاج خلق مقصود واضح) في استعراض حياة الأفيال. وهذه المعركة الفكريَّة والعلميَّة قد لا يكتشف المُشاهد لأفلام العالَم الطبيعيّ أنَّ بناء الفيلم معتمد عليها، وأنَّه في الحقيقة يُلقَّن اتجاهًا منهما. أمَّا في “فيل” فقد ابتعد الصناع عن هذه النقطة وركَّزوا جهودهم على حياة العائلة ومُجرياتها -إلا من إشارات بعيدة-. والعامل الآخر هو وضوح الهدف في صناعة مُغايرة منذ مرحلة ما قبل التصوير. وهذا ما يحتاج لإيضاح.
فتصوير أفلام العالَم الطبيعيّ به إشكالات منها عدم القدرة على توجيه المُصوَّر؛ فعادةً يتلقَّى المُمثِّل -أو مجموع مَن سيظهر في المشهد- ما يتعلَّق بالتصوير من المُخرج، في انفعالاته وتحرُّكه في أثنائه، وكيفيَّة إنهاء المشهد و…. مِمَّا يُعطي الفرصة كاملةً للمُخرج لإخراج ما يريد إخراجه لنا بدقَّة. أمَّا مع الحيوانات فالأمر مُختلف تمامًا فالصانع لا يُوجِّهها -إلا إنْ كانت مُستأنسةً ومُدرَّبةً كبعض الحيوانات التي تظهر في الأفلام الدراميَّة-؛ خاصةً وهذه الحيوانات بَرِّيَّة -أيْ وحشيَّة- غير مُستأنسة وغير مُعتادة على وجود الإنسان وآلات التصوير، فهو مَن أتى إلى بيئتها. وكثيرًا ما تُهاجم هذه الحيوانات المُصوِّرين وتهشِّم آلات التصوير.
اعتمادًا على هذا المبدأ، وبمُطالعة الشريط نعرف أنَّ المُصوِّر لهذا الفيلم كان ماهرًا جدًّا، وكان يدرك ما هي اللقطات الأشدّ مُناسبةً لغرضه -الذي هو صناعة فيلم انفعاليّ لا موضوعيّ عن الفيل-، فما يُريده -فوقَ اللقطات الاعتياديَّة التي تستعرض- هو اللقطات الانفعاليَّة التي تستميل. فها هو يركِّز على تصوير انحناءات رأس الفيل، وتحرُّكات رموشه، وإشاحة وجهه، وينجح في التقاط النظرة الخاطفة منه، والنظرة المُتأنِّية، واحمرار مركز عينيه، ولقطات تُوحي منه بالحُزن، وثانية تُوحي بالقلق والتوجُّس، وثالثة تُوحي باستيلاء المأزق على تفكيره. وها هو يصوِّر هذه الكتلة الضخمة وهي تجري في لقطات شديدة القِصَر، وأخرى طويلة. ويصوِّر الفيل العجوز مع تجاعيد بشرته، وبدء اهتراء جلده، والفيل الوليد مع براءة بشرته.
وما ظهر على الشريط يُطلعنا على أنَّ كمًّا ضخمًا من ساعات التصوير قد امتلكها الصانع، بعد أنْ صوَّرها في دأب ومُثابرة -وشجاعة وجُرأة في بعض الأحيان-. وبالعموم غالب لقطات الفيلم كانت ذات أحجام واسعة، ثُمَّ متوسِّطة، ثُمَّ مُقرَّبة والأخيرة كان لها التأثير الأعظم في التفاعُل مع عائلة الفيل، خاصةً الأبطال الثلاثة. لكنَّ هذا التنويع الضخم في أحجام التصوير تظهر كمَّ الجهد في عمليَّة التصوير، وكذلك مهارة الصانع في استخدامها بعد مرحلة التصوير.
فماذا بعد امتلاكنا لساعات من تصوير ما خطَّطنا له؟ وهنا يأتي الدور الأبرز في الفيلم وهو “المونتاج”. وبمهارة وتفوق بارزَيْن استطاع الصانع إخراج شريط يمتاز بالسلاسة والانسيابيَّة من أوَّل دقيقة إلى آخرها؛ اعتمد على ترتيب دقيق جدًّا لمُجريات الأحداث، ومُصاحبة للتعليق الصوتيّ وتزامُن صنع تناغُمًا ساحرًا يشدُّ انتباه المُشاهد ويُمتع حواسَّه جميعًا في آنٍ معًا.
ولنطالع مثالاً مشهدًا طويلاً تصل فيه الأفيال بعد أربعة أيام من بدء رحلتها إلى غابة أشجار ظليلة. فنجد الفيلة وكأنَّها تطالع الغابة من بعيد، ثُمَّ لقطة واسعة لمشي الفيلة بهدوء وكأنَّها تكتشف الأرض من تحتها، ثمَّ نجد قردًا -وهو هنا ساكن الغابة- ينظر إلى القادمين الجُدد، ثُمَّ نجد عائلتنا تقابل فرعًا آخر لعائلتها في لقطة أماميَّة وكأنَّ الفيلة قادمة حقًّا تقصد العائلة الأصيلة، ولقطات لتبادُل المُصافحات بين العائلتَيْنِ باستخدام خرطوم الفيل، ثمَّ لقطة للصغير “جومو” وهو يلتقي بصغير مثله من الفرع الآخر، مع استمرار في لقطات التعاطُف بين الفرعَيْن متنوعة. ثُمَّ نأتي إلى محاولة هزّ الأشجار للحصول على قرون الفول المُحبَّبة للفيلة.
ثُمَّ لقطة لقرن فول واحد يقع على الأرض لحظة وقوعه، ولقطة لشاني -التالية في قيادة العائلة- وهي تهزُّ الشجر دون إنزال للقرون ويأس الفيلة من الحصول على المزيد. ومع إدخال المُشاهد في إشكال عدم القدرة على إنزال القرون الباقية من الشجر نجد تقديمًا دراميًّا للبطل الفتى الذي سيحلّ المُشكلة من خلال لقطة جانبيَّة استكشافيَّة وكأنَّه قادم حقًّا ليفعل هذا، ثمَّ لقطة مُقرَّبة لأقدامه، ثُمَّ لقطة أماميَّة تُتوِّجه بتاج المُنقذ. ثمَّ لقطة واسعة لتُظهره وحده مع فروع الشجر فوقه، وكأنَّه يفكِّر ويقيس المسافات. ثمَّ لقطة وهو يصعد على قائمتَيْهِ الخلفيَّتَيْنِ وينتزع ثمار الفول بخرطومه. ثُمَّ لقطة لقرون الفول تتساقط على الأرض، ثمَّ لقطة لأحد الفيلة وهو يسير وكأنَّه يذهب إلى القرون قاصدًا، ثمَّ لقطة مُقرَّبة لطرف خرطوم يلتقط قرن الفول، ثم….
وهكذا استطاع المونتاج وتحرير الفيلم لعب دور البطولة في “الصناعة الفيلميَّة” هنا. فهذه اللقطات لا ترتبط ببعضها، بل هي تجميع وتوظيف لكثير من اللقطات المُصوَّرة في حصيلة التصوير، وبعضها مَصنوعٌ بالقطع من قِبَل الصانع -مثل مشهدَيْ إلقاء القرون على الأرض، وهُما مشهدان مُقرَّبان-. وهكذا -كما سبق- كان الهدف واضحًا منذ البدء، وكان له التأثير في اختيار ما نريد تصويره، ثمَّ كان له التأثير في تحرير الشريط السينمائيّ؛ ليخرج في النهاية وكأنَّه تصوير حقيقيّ مُعايش لكُلَّ ما تسمعه من دقائق قصَّة رحلة الأفيال. كما أنوِّه على أنَّ الغالبيَّة الكاسحة من اللقطات المُصوَّرة -والمُدرجة في الشريط- كانت لقطات حركة -يتحرَّك فيها محلّ التصوير وهو هنا الفيل- لا ثبات؛ مِمَّا أضفى كثيرًا من الحيويَّة للصورة السينمائيَّة النهائيَّة.
هذا من حيث دور المونتاج في بناية المشهد؛ أمَّا دوره في صناعة التأثير فقد كان واضحًا من بدء كيفيَّة التعريف بالشخصيَّات الثلاث بما يتلاءم مع كلِّ شخصيَّة، مرورًا بصناعة الكوميديا من فنّ اختيار اللقطة وفنّ ترتيبها، وصولاً إلى تأثير “الحالة المسرحيَّة” على الشاشة في استعراض كبير. وقد يأتي للقارئ الشكُّ في إضفاء تلك الأوصاف على فيلم وثائقيّ، لكنَّ مُطالعة لدقائق الفيلم وتركيزًا في محتواه سيكشف كمْ كان الجهد مُتصلاً وفاعلاً ومُخلصًا.
وقد تميَّزت كتابة الفيلم بالحيويَّة والمعرفة لنوازع التعاطُف الإنسانيّ وكيفيَّة اقتناصه؛ فمن خلال جُمَل مُمتدة على كامل الشريط الفيلميّ تطوَّرتْ الرحلة الخاصَّة لكلِّ مُشاهِدٍ مع تلك العائلة اللطيفة من الأفيال. وقد ضفَّرتْ الكتابةُ الماهرةُ الظهيرَ المَعلوماتيَّ الواجبَ معرفته مع كثير من عناصر الكوميديا والانفعال العاطفيّ المتنوِّع؛ حتى لَينسى المُشاهد أنَّه في حضرة فيلم وثائقيّ. وينساق مُنسجمًا مع متعة الحكي من وجهة العائلة تفكيرًا وشعورًا وقرارًا.
أمَّا التعليق الصوتيّ فحدِّث ولا حرج -كما يقولون-. فقد قامت “راشيل ميجان” (دُوقة ساسكس) بتنفيذ مقولة “عَرَف من أين تُؤكل الكَتِف”؛ ففي لحظات الفيلم الأولى ستلحظ هذا الصوت البارع الذي يقتحم عليك أبواب انفعالك ليضع محبَّة المشهد الذي تراه في قلبك. غير انتقالات مُتناغمة للغاية بين مستوياتِ الأداء الصوتيّ -الذي كان تمثيلاً في الحقيقة- رأسيًّا، وانتقالاتٍ انفعاليَّةٍ أُفقيًّا كثيرةٍ ومُتتاليةٍ.
وقام الموسيقيّ “رامين جوادي” (صاحب موسيقى مسلسل “صراع العروش”) بتأليف مقطوعات صاحبت غالب الشريط. اعتمد فيها على امتزاج موسيقاه الغربيَّة بتنويعات إفريقيَّة من الآلات المحليَّة، أو تأثيرها، أو إدخال بعض الصيحات المُشابهة للأغاني الإفريقيَّة. وبالعموم قد راعى إدخالَ “رُوح المكان” في الموسيقى المُقدَّمة. وبعدها تمَّ تضفير هذه المقطوعات مع أصوات البيئة -التي هي الأصل في الأفلام الوثائقيَّة الاعتياديَّة للحيوان- لكنَّ الغالب في فيلمنا هنا الموسيقى. وهذا التضفير في مرحلة الهندسة الصوتيَّة صنع شريطًا صوتيًّا يُدخل المُشاهد في الطور التفاعُل لتكتمل المنظومة مع الصورة.
لما سبق، ولغيره يجد المُشاهِد في هذا الفيلم خبرةً مُختلفةً، ويضيف إلى سجلّ مُشاهدته جديدًا. ولعلَّه يكون اختيارًا جيِّدًا للمُشاهد الذي يحصر مشاهدته في الأفلام الدراميَّة -خاصةً المقولبة- ليكتشف عالَمًا مُختلفًا من الأفلام يُقدِّم هذا المستوى المُقارب للصناعة الدراميَّة وأدواتها. ونحن في العالَم العربيّ نحتاج إلى التعرُّف أكثر وأكثر على جنس الفيلم الوثائقيّ والتشجيع على مشاهدته؛ فهذا قد يناسب كثيرًا مِمَّن لا يفضلون وسيلة الكتاب، ولعلَّه يُرغبهم فيها.