في مهرجان لندن السينمائي: “منبوذون في الصحراء”

يحمل هذا الفيلم الثاني للمخرج المكسيكي جوناس كوارون (وهو إبن المخرج ألفونسو كوارون)، عنوانا مقصودا منه أن يوحي بأكثر من معنى، فكلمة “ديزيرتو” Desierto الإسبانية تعني من ناحية، “الصحراء”، وللصحراء في الفيلم دور بارز بل هو الدور الأساسي، ففيها تدور كل أحداث الفيلم، وهي بمثابة المتاهة التي تضل فيها الشخصيات، ويبرز من جوفها شيطان أمرد، لا يعرف وازعا ولا رادعا. ومن ناحية أخرى تعني الكلمة “المنبوذون” أو الذين تم التخلي عنهم، وهو معنى أصيل أيضا في صلب موضوع الفيلم. لذلك نفضل أن نطلق على الفيلم ما نرى أنه العنوان الأكثر ملائمة لمحتواه وللقاريء العربي أيضا وهو “منبوذون في الصحراء”، فالفيلم يدور حول مجموعة من المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين الذين يتسللون عبر الحدود الأمريكية سيرا على الأقدام بعد تعطل الشاحنة التي كانت تقلهمثم تخلي صاحبها عنهم، وتركهم لمصائرهم في صحراء جافة بزعم أنهم على مقربة من كاليفورنيا. وقد عرض الفيلم في مهرجان لندن السينمائي الـ 59.


ما يحدث أن المجموعة المكونة من 14 مكسيكيا، تنقسم الى مجموعتين، الأولى هي الأكبر وتضم عشرة أفراد، والثانية تضم أربعة أفراد فقط. يشق الجميع طريقهم عبر الصحراء المترامية الأطراف، بصحبة شاب يفترض أنه يعرف الطريق. يظهر رجل أمريكي يقود سيارة دفع رباعي، بصحبته كلب مدرب وبندقية آلية بمنظار مكبر، يطاردهم ليقتلهم واحدا وراء الآخر، دون رحمة أو شفقة بل ويطلق الرصاص على الجرحى منهم والفتيات والأطفال، فقد أخذ على عاتقه تطهير الأراضي الأمريكية من أولئك المكسيكيين الذين يعتبرهم غزاة يلوثون لبلاده. وقد عرضالفيلم بمهرجان لندن السينمائي في دورته الـ 59.


الأمريكي الذي يدعى “سام” والذي يطلق عليه المكسيكيون “الغرينغو” وهي الكلمة التي تطلق على الأمريكيين البيض الشماليين، تمتليء نفسه بالعداء العنصري، ربما يتصور أنه يقوم بمهمة “مقدسة” خاصة وأنه يعتقد أن حراس الحدود الأمريكيين لا يقومون بواجبهم.


الفيلم مليء بالمطاردات وعمليات القنص واصطياد للمهاجرين المكسيكيين على يدي هذا الرجل المتوحش الذي يشبه “الكاوبوي”، على نحو يذكرنا باصطياد الجندي الأمريكي للفيتناميين في فيلم “صائد الغزلان” لمايكل شيمينو، وهو يستخدم أيضا كلبه المتوحش المدرب ويطلقه عليهم لينهش لحمهم، في مشاهد شديدة القسوة.

لا يبقى من المهاجرين المكسيكيين سوى شاب وفتاة. وبينما لا يمنح الفيلم أية أبعاد لشخصية الأمريكي “سام” ولا يسلط الأضواء على دوافعه وتكوينه النفسي والخلفية التي جاء منها، يخبرنا من خلال الحوار بين الشاب والفتاة أن الشاب ذاهب للالتحاق بابنه الموجود في كاليفورنيا مع زوجته، وأنه يحمل الدمية التي أعطاها له ابنه عند زيارته له قبل ذلك، لكي تحرسه أثناء عبوره الصحراء، ونعرف بالتالي أنها ليست المرة الأولى التي يتسلل فيها داخل الأراضي الأمريكية. هذه الدمية ستلعب دورا في مساعدة الشاب والفتاة على تضليل الأمريكي بما تصدره من أصوات موسيقية، لكي يسرقا سيارته ثم يحاولان الفرار بها قبل أن تنقلب بهما. أما الفتاة فقد أرغمها أهلها على الفرار الى الولايات المتحدة بدعوى أن قريتهم عرضة لتهديد العصابات، واستأجروا لها خصيصا رجلا يساعدها في اجتياز الأراضي الأمريكية (حاول الرجل العبث معها في بداية الفيلم ثم قُتل بطريقة بشعة بعد أن نهشه الكلب).

مع انقضاء الثلث الأول من الفيلم الذي كان يوحي أننا قد نشهد معالجة درامية جديدة مؤثرة ومبتكرة لموضوع المهاجرين المكسيكيين المتسللين، يتركز الحدث بعد ذلك في تلك المطاردة بين الأمريكي من جهة، والشاب والفتاة من جهة أخرى. يتمكن الشاب من قتل الكلب، ثم تصاب الفتاة برصاصة وتجلس عاجزة عن مواصلة السير، يتركها الشاب محاولا النجاة بنفسه، على وعد بالعودة لإنقاذها، لكن الرجل الذي فقد السيارة التي تحطمت وكلبه الذي يقتله المكسيكي في مشهد مروع، يواصل مطاردته في الجبال بلاهوادة إلى أن يتمكن الشاب من الإمساك به ودفعه ليسقط الاثنان في هوة جبلية، حيث تُكسر ساق الأمريكي وينجو المكسيكي ويعود لإنقاذ الفتاة. لكن الفيلم ينتهي بهما وهما يعبران صحراء تبدو بلانهاية، إشارة إلى أنهما أغلب الظن، سيهلكان!


يضع الفيلم شخصية المكسيكي الطيب مقابل الأمريكي- الغرينغو الشرير، فالأول يرفض قتل الامريكي رغم كل ما قام به من مذبحة دموية رهيبة، ويفضل أن يتركه- كما يقول له- للصحراء لكي تقتله. ويستخدم المخرج كوارون الكاميرا المحمولة الحرة في معظم مشاهد المطاردة والهرب عبر الجبال والصحراء، وتيمة موسيقية ثقيلة لاضفاء أجواء التوتر والمطاردة والرعب، ويبالغ كثيرا في تصوير مشاهد العنف خاصة تلك التي يظهر فيها الكلب ليقوم بدور دُرب عليه جيدا وكذلك على التعامل مع الممثل جيفري دين مورغان الذي يقوم بدور الأمريكي.

لاشك أن في الفيلم الكثير من المشاهد المتقنة، يلعب فيها التصوير الممتاز دورا بارزا في منح الإحساس بحرارة الصحراء وقسوتها، وفراغها المخيف، ولاشك كذلك في تمكن المخرج من توليد الإثارة باستخدام تقنية المونتاج المتوازي المعروفة، أي الانتقال بين حدثين يقعان في وقت واحد. ولعل المونتاج المتقن أهم العناصر الفنية في الفيلم، وكذلك براعة الممثلين في الأدوار الرئيسية الثلاثة جيفري دين مورغان في دور سام، وغايل غارسيا برنال في دور الشاب المكسيكي “مويسس”، والممثلة ألوندرا هيدالغو في دور “أديلا”. غير أن الفيلم لا يرقى إلى مستوى أفلام أخرى تدور حول فكرة المطاردة والرغبة الفردية في النجاة كما في فيلم “القتل الضروري” للمخرج البولندي المخضرم يرجي سيكليموفسكي مثلا، ففيلمنا هذا يكتفي بالدوران حول فكرة القاتل الفردي السادي الذي يفتقر للخلفية الواضحة وربما لا يمثل سوى نفسه، والشاب الضعيف الذي يلجأ للحيلة لكي يتمكن من النجاة، عبر مشاهد مليئة بالتكرار والمباشرة والطابع الميلودرامي الذي يفقدها الصدق والاقناع.

Visited 169 times, 1 visit(s) today