في مهرجان كان: “أنا دانييل بليك” العيش في “مملكة الجوع”
هناك مشهد واحد في فيلم “أنا دانييل بليك”، أحدث أفلام المخرج البريطاني كن لوتش المشارك في مسابقة مهرجان كان، يكفي وحده ليكون مفتاحا لفهم الفيلم بل وكل أفلام لوتش السابقة منذ أن أدهشنا بفيلمه الأول “كيث”(1969)، فهو يوجز في بلاغة آثرة وتأثير مدمّر. وربما يودي الجوع، حرفيا وليس مجازيا، بالإنسان الذي لم يفعل شيئا سوى أنه لم يعد يملك القدرة على توفير الغذاء الضروري، بعد أن أصبح منبوذا من المجتمع.
تذهب كيت، تلك الفتاة الشابة التي لا تفتقر للجمال الذي يصطبغ بمسحة من الحزن، والتي تعول بمفردها طفلين، إلى ما يسمّى بـ”بنك الطعام” الذي يعتمد على التبرّعات، لكي تحصل على ما يكفي ليوم أو اثنين من المواد الغذائية لطفليها.
لا تستطيع أن تقاوم عضة الجوع الذي ينهش قلبها، فتنتحي جانبا، وفي ارتجافة مسعورة تفتح علبة من عُلب الحبوب المحفوظة تصب محتوياتها في حلقها، وهي في قمة الارتباك والاضطراب فتسيل سوائل حفظ الحبوب على فمها ووجهها، ثم تنهار في موجة من البكاء والتشنّج بعد أن تدرك كيف أدى بها الجوع إلى أن فقدت للحظة الإحساس المستقر لديها بالكرامة الإنسانية.
كيت تشعر بأنها أهانت نفسها أمام الجميع، رغم تأكيد الموظفة التي هرعت لمساعدتها على أنها لم ترتكب ما يمكن أن يكون مدعاة لأن تشعر بالخجل، وأن الشعور بالجوع أمر طبيعي، ولا حرج في ما فعلت.
بنك الطعام
كانت كيت تتظاهر يوما بعد يوم، أمام طفليها، بأنها لا تشعر بالجوع وتقول إنها سبقتهما إلى تناول الطعام، من أجل أن توفر لهما ما يكفيهما منه، إلى أن استبد بها الجوع، ففقدت قدرتها على ضبط النفس.
هذه الصورة التي يجسدها كن لوتش بكل هذه القسوة الصادمة لنا كمشاهدين، وبكل هذا الحرص على تقديم صورة واقعية صارمة، مادية تماما، لمعنى الجوع الإنساني البدائي، تغفل كل ما يُعرف في الفن بالإيحاء أو الرمزية أو استخدام الإشارات الخافتة أو التواري المجازي.
وهي صورة مقصودة تماما، تتماثل مع رؤية كن لوتش الفكرية الراسخة منذ أن بدأ الإخراج السينمائي، لفضح عورات المجتمع الرأسمالي المتوحش، وكشف الممارسات اللاإنسانية لمؤسسة السلطة البيروقراطية التي تعلي من شأن “البزنس”على الفرد، ومن قيمة الرأسمال والاستهلاك على كل قيمة إنسانية أخرى، وتنظر إلى الفرد باعتباره ترسا في آلة الإنتاج، وترى بالتالي أن الفرد العاجز عن العمل لسبب أو لآخر مسؤول عما آل إليه، وأنه وحده من يجب أن يتحمل المسؤولية، خاصة وقد تعاظمت الشكوى الرسمية من جانب الحكومات المتعاقبة عاما بعد عام من تكاليف فاتورة الضمان الاجتماعي، وهي تسعى إلى خفض تكاليف الدعم الإنساني للعاطلين والمرضى والمعاقين وكبار السن والأمهات تحت شعارات مسعورة توحي للغالبية العظمى من البشر ممن لا يعرفون ولا يشعرون بالحقيقة، بأن هذه هي الوسيلة الوحيدة للتغلب على الخلل في ميزان المدفوعات وترفع شعارا زائفا، هو ضرورة دفع الناس إلى العمل.
من هنا نأتي إلى لب الموضوع، وفي قلب الفيلم لدينا مواطن إنكليزي أبيض أوشك على إكمال عامه الستين هو بطلنا “اللابطل” إدوارد بليك الذي أصيب مؤخرا بنوبة قلبية، نصحه الأطباء على إثرها بالتخلي عن العمل بصفة مؤقتة إلى أن تتحسن حالته الصحية، خاصة أن مهنته الوحيدة التي يجيدها ويمارسها منذ 40 عاما هي النجارة، وهي مهنة تتطلب جهدا يدويا شاقا.
دانييل يحصل في البداية على معونة مالية محدودة من الدولة، ولكن فجأة يقرر “صاحب القرار”(وهو تعبير غامض يتكرر كثيرا في الفيلم) قطع هذه المعونة التي لا تكفي سوى لمجرد إبقائه على قيد الحياة.
ويصبح مطلوبا منه التردد على مكتب العمل والضمان الاجتماعي لبحث كيفية الاستئناف ضد هذا القرار، ولكنّ الموظفين المدربين على التعامل مع دانييل وغيره، يرفضون طلبه مرة بعد أخرى، سواء عن طريق الرسائل التي يتركونها له على الهاتف المنزلي أو وجها لوجه، فهم ينظرون إليه باعتباره أحد المتطفلين على أموال الضمان الاجتماعي، في ظل هوس حكومات المحافظين بفكرة خفض الإنفاق العام على حساب الفقراء، مع توجه إلى تقليص الدعم تدريجيا ووضع شروط شبه مستحيلة على صرفه لمن يستحق.
دانييل أرمل يعيش بمفرده بعد وفاة زوجته التي لم ينجب منها، وهو يلمح معاناة المرأة الشابة كيت مع موظفي مكتب الضمان الاجتماعي الذين يصرون على طردها من المكتب بعد احتجاجها على رفضهم الاستماع لشكواها، بدعوى أنها وصلت متأخرة عن موعدها بثلاث دقائق.
وكيت جاءت حديثا من لندن إلى بلاكبول مع طفليها وحصلت على شقة من شقق البلدية، ولكنها في حالة مدمّرة وليس لديها عمل، وما تبقى معها من مال كانت تحصل عليه قبل انتقالها من لندن، لا يكاد يكفي ثمن وجبة، وهي تلجأ حينا إلى “بنك الطعام”، وأحيانا أخرى إلى اختلاس بعض المواد الغذائية من مراكز التسوق مما يوقعها في أكثر من مأزق.
يرتبط دانييل بكيت فيساعدها على تحسين أحوال الشقة باستخدام مهارته في النجارة، كما يصنع بعض الأشياء المسلية للطفلين، ويعتبر نفسه بشكل ما، مسؤولا عن تلك الأسرة، ويلعب في حياتها دور الأب الغائب دون أن يكون له أي غرض للنيل من كيت الجميلة الحزينة التي تتعرض بعد أن تشتد أزمتها لإغواء الانحراف نحو العمل في الدعارة.
.
تستمر محنة دانييل ورحلته العبثية في البحث عن عمل، رغم إدراكه المسبق بأنه لا يمكنه القيام به، ولكن فقط لمجرد أن يثبت للمسؤولين في مكتب العمل أنه باحث جاد عن عمل، حتى يصبح بالتالي مؤهلا للحصول على منحة البطالة التي أصبحت تسمى منحة الباحث عن العمل، أي لا بد أن يثبت المرء أنه باحث بجدية عن عمل.
وهم يفرضون عليه الالتحاق بدورة لتعلم كيفية كتابة السيرة الذاتية على الكمبيوتر، وكيف يمكنه إقناع أصحاب العمل بمهاراته، وهناك يعرف كيف أن ثماني وظائف صغيرة في مقهى “كوستا”تقدّم للحصول عليها أكثر من 1300 شخص، وعندما يوجه المحاضر سؤالا للحاضرين عن كيفية مواجهة مشكلة كهذه، تأتي إجابة دانييل بسخرية واضحة “إذن يجب أن نشرب المزيد من القهوة”.
الدائرة العبثية
هذا عمل كلاسيكي من أعمال سينما الواقعية الاجتماعية التي اشتهر بها كن لوتش، ويعتمد الفيلم على الدراسة الدقيقة التي قام بها كاتب السيناريو بول لافيرتي، رفيق وشريك لوتش في كل أفلامه منذ “أغنية كارلا”(1996)، فقد بحث لافيرتي في كل ما يتعلق بأساليب التعامل والنظم والقواعد المسيرة في مكاتب الضمان الاجتماعي، كما استمع إلى شهادات الكثير من المتعاملين مع هذه المكاتب من الباحثين عن دعم حكومي، وتوقف أمام تلك الحالة العجيبة لدانييل بليك الذي أرغم على البحث عن عمل، فقط لمجرد إرضاء البيروقراطية من أجل الحصول على حق طبيعي له ولغيره في مجتمع بريطانيا العجوز التي كانت تتفاخر بتفوقها على قريناتها الأوروبيات في ما يتعلق بنظام الضمان الاجتماعي. ومع ذلك، يأتي الآن كن لوتش لكي يكشف بضراوة وقسوة بريطانيا الأخرى، أو “مملكة الجوع”، وكيف ينتهي الأمر بأن يبيع دانييل كل أثاث بيته، ويجلس وحده يواجه مصيره في البرد بعد أن أصبح عاجزا حتى عن دفع نفقات التدفئة
إنها صورة قاسية يصورها لوتش بمهارته السينمائية وقدرته على تجسيد الواقع بشكل مقنع، مع تصعيد في المشاعر أحيانا، ولكن من داخل الدراما التي يصورها وليس بشكل مفروض عليها من الخارج، ودون أي رغبة في استغلال مشاعر المشاهدين والضغط عليهم وابتزازهم.
إنه يعتمد على “الميزونسين” (تكوين اللقطات وخلفية اللقطة والإضاءة وحركة الكاميرا)، غير أنه لا يفرط في استخدام حركة الكاميرا، كما يشتغل على التفاصيل الدقيقة للمكان، ويلتقط التفاصيل الصغيرة التي تجسد شخصية بطله في محنته، وتبرز شخصية رجل من الطبقة العاملة يرفض في إباء وشمم أن يهين نفسه، إلاّ أنه يفقد تدريجيا الثقة في عدالة النظام.
كعادته يحرص لوتش على وضع الشخصية في إطار مجتمع بريطاني متعدد الأعراق، فيدخل شخصية شاب بريطاني من أصول أفريقية، يتحايل على الوضع الاجتماعي المتدني، للإفلات من “القمع الاقتصادي”، فيستورد أحذية رياضية من الصين بأسعار قليلة لكي يبيعها ويحقق بعض المكاسب، دون أن يدفع أي ضرائب.
وهذا الشاب هو أقرب صديق لدانييل، وهو يعرض ويكرّر استعداده لعمل أي شيء لمساعدة صديقه الذي يرفض ويصر على رفض قبول أي مساعدة من الآخرين، مؤمنا بقدرته على العمل رغم المرض، ورغم أزمته الشخصية، إلاّ أنه يتمتع بروح التضامن مع كيت وطفليها، وهذا هو التضامن الذي يحرص لوتش على تصويره في كل أفلامه بين أناس ينتمون إلى الطبقة الفقيرة.
ويركز الفيلم في الكثير من مشاهده أيضا على فكرة قمع التكنولوجيا الجديدة لأمثال دانييل بليك الذين لم يتعلموا ولم يقتربوا قط من عالم الكمبيوتر والإنترنت، وكيف أصبحت السلطات تفرض عليهم ملء الطلبات وتقديمها عبر الإنترنت، وكذلك كتابة السيرة الذاتية على الكمبيوتر، إلاّ أن دانييل يصر على كتابتها بالوسيلة الوحيدة التي يعرفها، أي بقلم الرصاص!
يتميز الفيلم، كما هي عادة أفلام لوتش، بالأداء التمثلي الرفيع، أولا من جانب ديف جونز القادم من المسرح والتلفزيون في الدور الرئيسي، حيث يعبر عن مأساة رجل تقدم به العمر وخذلته صحته، ووجد نفسه وحيدا بعد أن فقد من يحبهم وحُرم من الأطفال، وأصبح ملفوظا من الدولة التي يفترض أنه أحد مواطنيها ولم يسبق له أن مد يده إليها، وطالما احترم دائما القوانين وأوفى بالتزاماته ودفع ضرائبه وفواتيره.
تقف أمام ديف جونز بقوة وشموخ الممثلة هايلي سكوايرز في دور “كيت”التي تصل في الأداء إلى درجة تجعلها تضارع أكثر ممثلات جيلها شهرة وموهبة، ولا شك أن دورها في “أنا دانييل بليك”سينقلها إلى دائرة الأدوار الرئيسية.
“أنا دانييل بليك”هو الشعار الذي يكتبه بالخط العريض دانييل على جدران المنطقة القريبة من مكتب العمل في وسط المدينة، شارحا كيف أنه مواطن له حقوق، موجها إدانة قوية لآلة السلطة البيروقراطية المحافظة في صفعة مباشرة لحكومة المحافظين الحالية، تعكس الموقف السياسي للمخرج.
تعليقات القراء