في “سوق الجمعة”.. الناس أرخص السلع
من إحدى مقولات الكاتب جلال عامر ( 1952– 2012) يستلهم فيلم “سوق الجمعة” رؤيته حول معاناة البسطاء الذين طحنتهم رحى الشقاء وهم يبحثون عن لقمة العيش في زمن غابت فيه العدالة واختلت فيه معايير كل شيء .
يقول عامر “البلد دي فيها ناس عايشه كويس وناس كويس إنها عايشه”. بهذه العبارة الصغيرة يلخص عامر ما وصلت له التركيبة الاجتماعية في مصر بعد تأكل الطبقة الوسطى التي كانت هي قلب وجوهر التكوين الاجتماعي وتراجع منظومة القيم وانتشار الجريمة والأوبئة الاجتماعية.
وحدة المكان وتعدد الشخصيات
تدور أحداث فيلم “سوق الجمعة” للمخرج سامح عبد العزيز، داخل سوق مصري شهير في حي السيدة عائشة يباع فيه كل شيء: الملابس، الخردة، قطع الغيار، الطيور وأسماك الزينة، الحيوانات بأنواعها الأليفة والمفترسة، العاديات (الانتيكات) وحتى الممنوعات. إنه كرنفال شعبي للبيع والشراء، والزبائن من شتى بقاع المحروسة، ولابد لهذا السوق من “بلطجي” أو كما يسمونه حكمدار ينظم حركة البيع ويفرض إتاوات على الباعة نظير حماية بضاعتهم أو تأجيرهم أرضية يعرضون عليها تلك البضائع. ويلعب دور هذا الحكمدار عمرو عبد الجليل الذي استطاع خلال الأعوام السابقة أن يخلق لنفسه أسلوباً يحمل بعض الخصوصية وأن ينفذ بموهبته للناس من خلال إطار كوميدي.
البلطجي سيد خرطوش يحكم السوق ويوزع الأرزاق بقوته وسمعته الاجرامية رغم أننا لم نر إلا رجلا يطلق العبارات اللاذعة الساخرة على كل من حوله وإن كان هذا لا يتماشى وطبيعة الشخصية التي تتحكم في هذا الكم من البشر إلا أننا نتلقاه على سبيل الكوميديا اللفظية و”الايفهات” التي اختارها عمرو عبد الجليل لتصاحبه في معظم أدواره.
سيد خرطوش يبيع الممنوعات على مقربة من قسم الشرطة محتمياً بسلطة شريكه سليم بوكس أمين الشرطة الذي يشاركه أرباح أعماله المشبوهة ويوفر له غطاء يسمح له بممارسة تلك الأعمال دون ملاحقة.
ينسج السيناريو خيوطة الدرامية من خلال ثنائيات تتشابك مع بعضها لخلق صراع لم ينجح في تطوير الأحداث فمثلا “سيد خرطوش” يحب بائعة الشاي رغم اعتراض أمها بينما يغازل بائعة الكبدة “نجاة” المرأة اللعوب الجميلة التي تحتال على الأثرياء بمساعدة رفيقها “فرش” الذي وعدها بالزواج وغدر بها.
وقد أدت ريهام عبد الغفور دور نجاة بشكل مقنع إلى حد كبير رغم أنه دور جديد عليها تماما وهي التي تقولبت في أدوار الفتاة الرقيقة البريئة.
ثنائية الحب الأخرى هي بين إنجي أبنه المأمور الفتاة الجامعية الثرية التي أحبت زميلها محمود وهو شاب فقير من أهالي سوق الجمعة وهو نفسه شقيق سيد خرطوش ويتولد من هذه الثنائية الصراع على إنجي بين محمود وشاب مدمن يحتمى بسلطه أبيه صاحب الرتبة الكبيرة. والمبرر الدرامي في قدوم هذا الشاب للسوق ليشتري المخدرات من سيد خرطوش فيري انجي مصادفة وهي تقل محمود بسيارتها إلى داخل السوق، يدخل الشابان في عراك ينتهي أمام المأمور الذي يمعن في إهانة محمود ويأمر بحبسه كي يبعده عن ابنته.
وداخل غرفة الحجز ينجح سامح عبد العزيز في رسم أحد أهم مشاهد الفيلم الذي سوف نلقي الضوء عليه بعد قليل.
شخصية أمين الشرطة التي لعبها الممثل المكافح محمد لطفي هي الشخصية الوحيدة الثى رسمها السيناريو بصدق وعمق لأمين شرطة فاسد يستغل سلطته في التربح.
أما صبري فواز الذي أثبت أنه ممثل يحمل موهبة حقيقية ظهرت في أعمال عديدة فقد جسد شخصية “مالك” تاجر الانتيكات الذي يخترق السوق ويغرى سيد خرطوش بالمال لنكتشف في النهاية أنه إرهابي دولي جاء ليفجر السوق ومثلما كانت شخصية “سليم بوكس” هي أعمق شخصيات السيناريو كانت شخصية “مالك” أضعف هذه الشخصيات رغم اجتهاد صبري فواز فكانت هذه الشخصية ثغرة واضحة نفذ الخلل منها للسيناريو. فما الذي يجنيه عمل إرهابي مخطط له وليس فرديا من قتل عدد كبير من البسطاء وهم يقتلون كل يوم تلقائيا جراء حوادث الإهمال. فسوق الجمعة ليس سوقا سياحيا أو مكانا يحمل طبيعة طائفية فما الداعي لتفجيره إلا الفبركة التي تسوق الأحداث لنهاية تكررت في فيلم سابق لنفس المخرج.
شخصيات نمطية
تشابك الشخصيات الثى يجمعها مكان واحد تيمة مكررة اعتاد عليها المخرج سامح عبد العزيز فقدمها قبل ذلك في أفلامه “كباريه” و”الليلة الكبيرة” و”الفرح” و”ساعة ونصف”. ولا أرى مبررا واضحا لهذا التكرار فرغم وجاهة المغامرة في الاقتراب من يوميات البسطاء والمطحونين داخل الاسواق بما فيها من ثراء واشتباك درامي إلا أن ما قدمه صناع الفيلم كان الركض في المكان الذي لا يحرز أي تقدم على مستوى الطرح أو توليد أفكار جديدة فكانت الكاميرا بانوراميه تخلق لكل ركن شخصية دون أن تقدم لغة سينما تنطق بالاختلاف أو التميز عن التجارب السابقة. فجاءت البطولة للحوار الذي انطلق من فلسفة جلال عامر الساخرة في صياغة الجملة التي ترمى لمقاصد أعمق من ألفاظها والتي جاء معظمها على لسان البطل سيد خرطوش.
الشخصيات النمطية آفة الفيلم المصري، ونجاح أي ممثل في دور كفيل بتكراره مرات ومرات في أفلام أخري، ولا يتم نسخ الشخصية بحذافيرها ولا استدعاء نفس الممثل فقط بل ربما يظهر بنفس الملابس والهيئة دون مبالغة.
وما يحسب لهذا الفيلم تقديم ممثلين جدد لأداء نفس الشخصيات النمطية المستهلكة مثل شخصية الشاب الجامعي المعتز بنفسه الذي تحول الظروف الاجتماعية بينه وبين حبيبته، والفتاة الثرية الحالمة التي تبحث عن الحب حتى وأن كان خلف قضبان الفقر، وشخصية بائعة الشاي المكررة التي تحاول جاهدة أن تقوم أفعال البطل، والأم التي تقوم بدور الواعظ الناصح، والمرأة اللعوب والقواد.. وكلها شخصيات مكررة حتى في أعمال المخرج السابقة، أما شخصية الإرهابي الذي يقوم بتفجير المكان فكان الممثل فتحي عبد الوهاب قد أداها في فيلم “كباريه” علاوة على شخصية قائد التنظيم الممثل محمود الجندي الذي أدى نفس الدور في الفلمين وتقريبا بنفس الملابس.
نقاط توهج
رغم هذا الكم الكبير من الشخصيات النمطية المكررة إلا أن شخصية أمين الشرطة الذي يسئ استغلال وظيفته جاءت فارقة في رسمها وتحديد ملامحها فقد أعطتنا اللهجة الريفية التي تنطق بها الشخصية دليلا على المستوى الاخلاقي للقادمين من الريف الذي تغير هو الأخر نحو الأسوأ.
الأداء المتميز لمحمد لطفي في صنع كوميديا تبدأ من عفوية القروي التي تدعو للضحك في بعض الاحيان وجشع الجاهل الذي يملك السلطة و يسعى لتحويلها لمال بأي شكل فلا يتورع أن يقاسم اللصوص ما امتصوه من دماء الناس، فهمه هو التنقيب عن المال حتى وإن كان في لحم البشر فيستخدم السلطة إما في ابتزاز الناس أو لحماية من يدفعون له، ورغم صغر رتبته الشرطية فهو يملك سلطة كبيرة يفرضها داخل السوق، وهذا مؤشر واضح لمدى انسحاق الناس وضعفهم أمام أصغر تروس السلطة. إنها حالة من الفوضى والعشوائية ضربت كل شيء في مقتل.
نجح سامح عبد العزيز في رسم مشهدين يحملان لغة سينمائية بليغة أولهما داخل غرفة الاحتجاز في مشهد مزدحم بالخارجين على القانون بملامحهم الاجرامية ووجوههم الممزقة التي تشي بتاريخ إجرامي كبير. وكان المشهد الذي صور أكثر من خمسين محتجزا داخل غرفة ضيقة يحمل تكوينا صادقا يكاد يضاهي الحقيقة ويعبر عن ما يدور في أقسام الشرطة التي تعج بالمجرمين والسارقين فكان المشهد أشبه بقفص للضباع الجائعة التي تنقض على كل من يدخل عليها دون رحمة.
أما المشهد الثاني هو زيارة أنجي ابنه المأمور لبيت زميلها محمود فعندما طلبت الدخول لدورة المياه اكتشفت انها لن تستطيع استخدامها نظرا لعدم نظافتها فخرجت منقبضة في مشهد قاسٍ أبرز الفرق بين هذه الفتاة المنعمة وبين الناس المحرومين من أبسط حقوقهم.
جاءت نهاية فيلم “سوق الجمعة” بانفجار مروع يحصد جميع الشخصيات على غرار نهاية فيلم “كباريه” وربما كانت هذه النهاية القاسية جرس إنذار ورسالة مفادها أن الانفجار الاجتماعي وشيك وحال حدوثه سيقضى على الاخضر واليابس.