فيل جالس بلا حراك” والبحث عن خلاص”

الرحيل مبكراً

في أكتوبر 2017، بعد أن أنهى المخرج الصيني الشاب هوْ بو Hu Bo (مواليد 1988) مونتاج فيلمه الطويل الأول والأخير “فيل جالس بلا حراك” An Elephant Sitting Still (الذي عرض في 2018) وبعد أن انتهى من تصويره مباشرة، انتحر شنقاً، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، لأسباب مجهولة لنا.

وبذلك فقدت السينما الصينية، مبكراً، صوتاً جديداً، وموهبةً ملفتة، كان يمكن لها أن تعطي الكثير في مجال الإبداع السينمائي والروائي.

العديد من النقاد أشادوا بالفيلم، وبعضهم اعتبره تحفة فنية، كما وجّهوا الثناء إلى عظمة الفيلم ومخرجه، وتأسفوا لوفاة المخرج وانطفاء موهبة كانت تعد بالكثير لو لم تنحاز إلى الغياب/ الموت.

ولد المخرج هوْ بو في 1988، في جنان، شانغدونغ. درس الإخراج في أكاديمية الفيلم في بكين وتخرج منها في 2014. فيلمه القصير الأول “الأب البعيد” (2014)، ومدته 22 دقيقة، فاز بجائزة أفضل إخراج في مهرجان سينمائي صيني. وفي العام نفسه، عرض فيلمه القصير الثاني “عدّاء الليل” أو “الهروب ليلاً”، ومدته 30 دقيقة.

في العام 2016 شارك هوْ بو في مخيّم التدريب الأول تحت إشراف المخرج الهنغاري بيلا تار، الذي ساعده في تطوير فيلمه القصير “رجل في البئر”.. وهذا الفيلم الكئيب تدور أحداثه في أرض قاحلة دمرتها كارثة كونية قضت على كل الكائنات باستثناء شخصين يتنقلان بين الخرائب والأنقاض، بلا أمل في النجاة أو الخلاص، ويعثران على رجل في البئر سيكون غذاءً لهما.

كذلك كتب هوْ بو روايتين: الصدع الهائل، الضفدع.. وكلاهما صدرا في 2017.   

أما فيلمه الأخاذ “فيل جالس بلا حراك” فقد حاز على جائزة أفضل عمل أول في مهرجان برلين. وجائزة الجمهور في مهرجان هونغ كونغ. وجائزة مهرجان الحصان الذهبي كأفضل فيلم وأفضل سيناريو معد وجائزة الجمهور.

المحاط بالعاصفة

الفيلم، الذي كتب هوْ بو نصه وتولى مونتاجه، إنجاز فني هام، وعلامة مضيئة في السينما الصينية الحديثة. لكن تحقيقه للفيلم لم يكن سهلاً ومرناً، فقد واجه المخرج مشاكل وخلافات مع منتجي وممولي فيلمه وصلت إلى مرحلة العداء والضغينة، فقد أرادوا تقليل مدة عرض الفيلم من 230 دقيقة إلى ساعتين لضمان عرضه تجارياً. وقد تحدث المخرج عن المصاعب والمشكلات التي عاناها أثناء تنفيذ الفيلم: صديقته هجرته، تساقط شعره بفعل الضغوطات. والعراقيل التي واحهته في سبيل شراء حقوق الفيلم.

يقول الناقد بريان رافن إهرنبريس، في مقالة له منشورة في 22 ديسمبر 2018:

[في مساء الثامن من أكتوبر 2017، التقى المخرج والروائي هو بو Hu Bo مع صديق له في منطقة ما من بكين، وتحدثا طوال الليل عن كل شيء، من سينما بيلا تار البطيئة إلى انطباعات هو بو عن شخصية الكولونيل أوريليانو في رواية غابرييل ماركيز “مئة عام من العزلة”. الكولونيل فنان عظيم، صائغ من الطراز الرفيع، لكن اجتاحت المآسي حياته وتركته فاقد الحس عاطفياً، فيتعطل ابداعه ويحاول الانتحار. ومما قاله هو بو في هذا اللقاء: “الإبداع يتطلب قواعد للألم هي بغيضة ولا تطاق”. بعد أربعة أيام، عُثر على هوْ بو ميتاً، بعد أن شنق نفسه في المبنى الذي تقع فيه شقته ببكين. وكان قد انتهى من فيلمه الدرامي الطويل، الأول والأخير، فيل جالس بلا حراك.

قبل ذلك بشهور قليلة، في 26 يوليو، كتب في حسابه: “كل هذه السنوات، لم أفكر أبداً في ما تعنيه السينما حقاً. هي تعني الإذلال، اليأس، العجز.. السينما محض مزحة”].

في رثائه للمخرج هوْ بو، قال المخرج الأميركي جاس فان سانت: “كان رجلاً يعاني من ألم عميق، مناضلاً من أجل أن ينسجم، وينزعج لأن الآخرين لا يفهمون مشاعره. فيلمه يتحدث عن أشخاص يعيشون في مجتمع يفرض عليهم مكافحة الألم والخوف والاتصال”.

المخرج الكبير بيلا تار قدّم فيلم “فيل جالس بلا حراك” في مهرجان تورنتو السينمائي، وقبل العرض ألقى كلمة عن هوْ بو جاء فيها: “أشعر بالذنب لأنني لم أستطع أن أحميه كما ينبغي. أشعر بالخجل والخزي. لكن كيف يمكن للمرء أن يحمي شخصاً محاطاً دائماً بالعاصفة؟”.

بعد رحيله، وافق المنتجون على بيع حقوق الفيلم إلى والديّ هوْ بو اللذين عرضا الفيلم بالمدّة الزمنية التي حدّدها ابنهما.

حيث لا منفذ

المخرج هنا يقدّم بياناً شخصياً يعج بالاحتجاج. كما يقدّم صورة قاتمة لمجتمع يعاني من أزمات لا تحصى.. مجتمع يغصّ بأفراد يائسين، يتحركون في محيط منخور بالفقر والفساد وانعدام الأمان، حيث العلاقات مسمومة، والوحدة العائلية تبدو في ذروة التفكك.

وفيما تسعى كل شخصية إلى فهم العالم من حولها، تجد في كل منعطف ما يكبح ويقمع ويخذل ويقهر. ثمة شعور طاغ بالحزن، بالخوف، وبالخواء القادم من كل الاتجاهات، شاهداً على البيئة التي ينعدم فيها الحب، والتي تبتلع الشخصيات التعيسة الباحثة في يأس عن منفذ وعن خلاص.

ضمن أجواء رمادية شاحبة، وتحت سماء كئيبة، تختبر الشخصيات مشاعر العجز والإخفاق والألم والمعاناة. والفيلم زاخر باللحظات الأليمة:

أحدهم يأمل بحدوث تغيير في حياته، في حالة الانتقال إلى منطقة أخرى أفضل، ليأتي الرد المتشائم من شخصية أخرى تقول: “الحياة سوف لن تتغيّر. كل شيء يدور حول الألم، هذا الألم الموجود قبل وجودك. تظن أن المكان الجديد سوف يعالج ذلك؟ كل هذا هراء. مكان جديد يعني عذابات جديدة”.

ويقول صديق الدراسة: العالم أرض قاحلة.

ويقول رجل العصابات: حياتي أشبه بصندوق النفايات، تتراكم فيه النفايات.

ويقول آخر، مباشرةً قبل أن يسدد فوهة مسدسه تحت ذقنه ويطلق النار: العالم مثير للاشمئزاز.

شخصيات تتصارع مع السؤال الوجودي عن جدوى الحياة وهل هي جديرة بالعيش. إنها في الواقع نظرة غير تشاؤمية، بالأحرى هي نظرة وجودية إلى الزمن، إلى جمود وثبات الكائنات أمام وقت يعبر بلا اكتراث.

تعميم الخواء

الفيلم، الذي هو عن أفراد يخفقون إخفاقاً تاماً، وينهارون تحت الضغط الاقتصادي، عبارة عن بورتريه بارع وأخاذ للمعاناة الإنسانية.

الوضع الاقتصادي السئ، غير المستقر، يفضي إلى تحطيم العائلة والبيوت والأجساد. كل الشخصيات يبدو أنها تعيش حيوات لا يمكن أبداً أن تختارها لو كان لها حرية الاختيار.

إننا نرى الشخصيات تعاني من العزل في محيطها العائلي والاجتماعي، متصادمة مع أفراد عائلتها القاطنين معها في شقق ضيقة تكاد تتهاوى من القِدم، أو تتابع الكاميرا هذه الشخصيات فيما تجوب الشوارع العدوانية، حيث المشاحنات والمشاجرات العنيفة التي لا مفر منها، وأكوام القمامة المهمَلة منتشرة في كل زاوية من زوايا المدينة.

صرّح المخرج في لقاء له: “ببساطة ليس ثمة أي حياة مثالية، الأمر يتعلّق فقط باختيار أي نوع من الأسف أو الندم أنت راغب في التعايش معه”.

الفيلم يبرز على نحو تراجيدي الفجوة الهائلة بين الأجيال، حيث العلاقة بين الآباء والأبناء تتسم بالتوتر أو الفتور، وانعدام الاتصال فيما بينهم يفضي إلى البغض المتبادل ومحاولة الأبناء الإفلات من قبضة السيطرة الخانقة.

وعلى مدى أوسع، هناك التباعد والانفصال بين الناس بشكل عام. وهناك الكبح العاطفي الذي لا تستطيع الشخصيات معالجته، والعدوانية التي تطل برأسها كلما التقى شخصان. وفوق كل هذا، هناك الكساد الاقتصادي الذي يعمّق الاضطرابات والمحن العاطفية.   

قال المخرج: “أتمنى من الشباب ألا يقوّضوا حيواتهم، لأن الخواء الذي واجهه المتوحشون من آكلي اللحم البشري في الغابات، أو ما يواجهه الجندي المحتضر في أرض المعركة، لا يختلف كثيراً عن الخواء الذي يواجهه الشباب في يومنا”.   

لكن على الرغم من أن الظروف خانقة، إلا أن الفيلم يحاول أن يوازن ذلك مع مشاعر الحب التي تتجلى عند الشخصيات الرئيسية. الحياة تتعامل بقسوة معها، غير أنها قادرة على منح الحب وتحقيق التواصل إن سنحت لها الظروف.  

جيل بلا حصانة

الأحداث تدور في غضون يوم واحد، حيث يبدأ من الضوء الأول للنهار، وينتهي في فترة الغسق، في منطقة تشهد خراباً صناعياً وزوالاً للمصانع.

يوم واحد من حياة أربعة أشخاص يجتمعون بفعل سلسلة من الأحداث المترابطة، التي تدور في بلدة صناعية كالحة، بالية، مقفرة، تقع في شمالي الصين. هذه المنطقة الصناعية الكئيبة تشهد ندرة في الوظائف وعجزاً في الإمكانيات. البنى التحتية إما هي في حالة تصدّع وانهيار أو معطّلة. مبان مهدّمة. منشآت مهجورة. مراكز إيواء غير صالحة للسكن. القمامة ونفايات المصانع متراكمة في الطرقات. تسريبات مياه المجاري. ثمة فساد متفشٍ وسط القوى المتحكمة في الشأن السياسي والتعليمي والمجتمعي. مظاهر الانحلال والتفسخ تعمّ المشهد اليومي. قرارات تعسفية واعتباطية. الأجهزة الحكومية تتخلى عن المدارس وتهدمها وتغيّر مواقعها من دون أن تستشير أحداً، فالمدرسة الثانوية على وشك الإغلاق من دون اشعار، تاركة الطلبة إزاء مستقبل غامض غير مضمون. نقل أعداد كبيرة من المواطنين إلى أماكن لا تتوفر فيها تسهيلات ولا شروط السلامة. لا ازدهار هنا ولا نموّ. ولا أحد يتوقع التحسّن والتقدّم.

العدوانية تحكم العلاقات الإنسانية. ثمة مظاهر عنف وقسوة. العنف البدني يندلع عشوائياً في الشوارع. ولا يخلو بيت من عنف لفظي. لم يعد الحلم بمستقبل أفضل شائعاً بين الأطفال والمراهقين، لهذا نراهم مرغمين على الاستسلام، التسوية، السلوك العدواني، الجريمة، الانتحار. الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة تستخرج من الأفراد أسوأ ما لديهم: الحقارة، ضيق الأفق، الأنانية، الارتياب، الوضاعة، النصب والاحتيال، ممارسة القسوة والإذلال تجاه الأضعف والأقل حصانة.

الفيلم يركز بؤرته على شخصيات عادية، لا أهمية استثنائية لها، ولأنها تشعر بالخذلان والخيانة والإساءة والخداع، فإنها تفتقر إلى العاطفة، الحنو.. اللحظات العاطفية، الحساسة، ذات حضور هش وسريع الزوال.

وهي لا تجد لها مخرجاً أو مهرباً من واقعها الخانق، الكابح والمحبط.

على أرض رخوة

في غضون يوم واحد، تحت سماء رمادية باهتة، تبعث على الكآبة، أربعة أشخاص وحيدين، جميعهم ضحايا بشكل أو بآخر، مغتربين ومعزولين بفعل عائلاتهم وأصدقائهم. أربع أرواح متمردة، مشاكسة، صعبة المراس، عنيدة، يجتمعون في مدار واحد عبر مصادفات مقنعة، وعبر الإحساس بأن المصائر مرتبطة ببعضها..  دروبهم البطيئة، المتعرجة، تلتقي وتفترق، وأحياناً تتقاطع عند نقطة ما ثم تنفصل لتلتقي من جديد وتتداخل. هم دائماً في حركة. يشهدون ما يجري ويشاركون في حلقات من الأحداث والمصادفات، القضايا العاطفية، حالات الانتحار، الموت المفاجئ، الغضب العدمي.

المخرج يحبك معاً، على مهل وبتعمد، أربعة خيوط سردية، كل منها تتعلق بحياة وصلت إلى طريق مسدود، غير نافذ، في هذا اليوم، الذي هو ربما اليوم الأسوأ في حياتهم. إننا نتابع كل شخصية على حده منذ استيقاظهم في الصباح الباكر، في بيوتهم ومع عائلاتهم أو معارفهم. ويواصلون روتينهم اليومي إلى أن يواجهوا الأزمات الخاصة.

يفتتح الفيلم بلقطة مصاحبة طويلة للثلج على طريق عام، فيما نسمع خارج الشاشة صوت رجل يحكي قصة عن فيل يوجد في مدينة مانزولي المنغولية. الفيل هناك، في السيرك، جالس فحسب بلا حراك. ولا يكترث على الإطلاق.

ثم نجد أنفسنا مع التلميذ وي بو (16 سنة) الذي يدرس في أسوأ مدرسة في البلدة، والتي هي على وشك الإغلاق. إنه يتعرض للتنمر في البيت (من والديه اللذين يسيئان معاملته. أمه تتهمه بالسرقة وأبوه المفصول عن عمله يوبخه ويلعنه) وفي المدرسة على حد سواء، وبالدرجة نفسها من سوء المعاملة والاضطهاد. وهو يمثّل الجيل المراهق المحروم من المستقبل، الجيل الذي تنظر إليه إدارة المدرسة الثانوية باحتقار وضغينة: “بعد هدم هذا المكان، سوف تنتقلون إلى أسوأ مدرسة في المدينة. وعندما تتخرجون فإن أغلبكم سيتحولون إلى باعة جوالين في الشوارع”. والفتى يصدّق ذلك لأنه يعرف أن كل الطرق مسدودة.

في هذا اليوم، بينما يحاول حماية صديقه من بطش تلميذ متنمر، يقوم (وي بو) بدفع المعتدي على درجات سلّم المدرسة، من دون أن يقصد إيذاءه، مما يؤدي إلى سقوطه ونقله إلى المستشفى في حالة حرجة. وي يهرب. ويجد نفسه مطلوباً من جهات مختلفة: شقيق الطالب (وهو رجل عصابات)، والداه الغاضبان، إدارة المدرسة.

إنه يهرب من المدرسة ومن البيت ليشرد في أرجاء المدينة باحثاً عن طريقة للسفر إلى مانزولي (حيث يوجد الفيل الساكن). وهو يحاول إقناع زميلته الطالبة هوانغ، المولع بها سراً، بأن ترافقه، لكن هي أيضا لديها مشاكلها المعقدة مع أم عزباء مدمنة على الكحول، وتورطها في علاقة عاطفية مضطربة مع نائب مدير المدرسة المتزوج.. هذه العلاقة التي تنفضح بعد تسرّب شريط مصور لهما، ينتشر في أرجاء المدرسة وخارجها، مما يجعل علاقتها بأمها المتوترة أصلاً تزداد توتراً.

في غضون ذلك، يلتقي وي بجاره (وانج)، العسكري السابق وهو الآن  كهل متقاعد يمرّ بأزمة مع ابنته وزوجها المدرّس، اللذين يرغبان في بيع البيت والاستحواذ على قيمته، فيحاولان إقناعه الإقامة في مأوى للمتقاعدين. وكان لهذا الكهل رفيق وحيد، هو كلبه الصغير، الذي يعضّه كلب أضخم منه ويقتله. ولكي يعاين بنفسه طبيعة السكن في مأوى المتقاعدين والأوضاع المعيشية، فإنه يزور المكان ليجد نفسه في غرف قذرة، يعاني فيها النزلاء من  أوضاع مزرية ومعاملة قاسية، غير رحيمة.

عندما يخبره وي عن الفيل، يقرر الانضمام إليهما في رحلتهما.  

كذلك ينضم إليهم (يو شينغ) رجل العصابات الذي كان ينوي الانتقام (بدافع الواجب الأسري وليس عن قناعة) من وي بو لما فعله بشقيقه الأصغر غير أنه يعفو عنه، بل ويتعاطف معه. هذا الشخص تسبّب في انتحار صديقه (في بداية الفيلم) بعد أن اكتشف خيانته له مع زوجته.. مع ذلك هو يتنصل من المسؤولية وينكر أي شعور بالذنب.

الفيل المتوحّد مع ذاته

هذه الشخصيات، كما أشرنا، تتقاطع دروبها بين الحين والآخر خلال مسار الفيلم. ولا تتحابك الخيوط إلا في الساعة الأخيرة. طوال الوقت هم يسيرون لكننا نشعر بأنهم لا يصلون إلى أي مكان، كأن لا وجهة معينة لديهم، كأنهم تائهون فقدوا بوصلاتهم.

الشخصيات الرئيسية تتعرض للخيانة أو الخذلان من قِبل أقرب المحيطين بهم: وي يخونه صديقه الذي حاول أن يحميه من التنمر. المتقاعد تخذله ابنته. الفتاة هوانغ تشعر بالغدر وبأنها طُعنت من الخلف من قِبل زملائها في الفصل والذين بدل الدفاع عنها والتستر عليها راحوا يتسابقون في نشرالفيديو الفضيحة المسرّب.  

مخرج الفيلم هوْ بو

إننا نلاحظ أن ما يجمع هذه الشخصيات معاً هو افتتانهم المشترك بالحكاية التي سمعوها عن فيل يوجد في سيرك ببلدة مانزولي، الواقعة في الشمال الصيني، على مقربة من حدود منغوليا وروسيا. هذا الفيل الذي يقضي أيامه في الجلوس ساكناً، بلا حراك، أمام مرآى الجميع، متجاهلاً الناس، غير مبال تماما بكل ما يحدث في العالم من حوله. يبدو أن الفيل المتوحد قد يأس من الناس ومن الحياة. لذلك يظل ساكناً في مكانه، مستغرقاً في ذاته كلياً، مكتفياً بنفسه، غير راغب في شيء. لا يأكل، لا ينام. يوجد فحسب. يقال أن بعض المتفرجين يطعنون الفيل بالشوكة من أجل استثارته وتهييجه، وجعله يستجيب، غير أنه لا يكترث ولا يعبأ بحضورهم. إنه يجلس في صمت، غير منزعج أو متأثر بالعالم العدائي المحيط به.

نحن لا نرى الفيل أبداً بل نسمع عنه. هو غير حاضر مادياً لكنه ذو حضور كثيف في أذهان الشخصيات وحواراتهم، ويزداد حضوره قوةً في لحظات القسوة والعنف. إن حضوره طاغ.. ليس في العنوان فقط إنما في الكلام عنه.  

ما يقال عن سكونه وصفائه ولامبالاته يغري الشخصيات لمحاولة رؤية الفيل عن قرب. هم، بطريقة أو بأخرى، يتماهون معه. هم مثله، يتعرضون للمضايقة والاضطهاد عند كل منعطف. إنه يصبح نوعاً من المحرّض الأساسي، من المنار الوجودي، والذي يجعلهم يقررون الرحيل إلى المدينة لرؤيته.

مدينة مانزولي تصبح، بالنسبة لهم، نوعاً من الملاذ الميثولوجي، المحطة التي قد توفّر لهم إنقاذاً مؤقتاً من قسوة الوجود. هذا هو بصيص الأمل الوحيد الذي يتيحه المخرج لشخصياته كي يعيشوا تجربة الحج. الرحلة هي فعل تعاطف ومقاومة.

احتمال الألم

الفيلم ينتهي بقرار الشخصيات القيام بالرحلة، لكننا لا نعرف كيف ستكون الرحلة، وما هي نتيجة الرحلة.

في اللقطة الختامية، الرائعة والأخاذة، نجد الكاميرا تصوّر من بعيد الشخصيات، المنبوذة والمهمَلة، وهي تختبر حالة حميمية من التواصل والقُرْب واللعب والضحك. لقد صار بمقدورهم أخيرا التنفس بعمق وارتياح. فيما نسمع من بعيد، ومن جوف الظلام، صوت الفيل.

يقول الناقد بريان رافن (22 ديسمبر 2018):

“هذه الرحلة غايتها تعلّم كيفية تحمّل ألم الوجود وليس تغيير العالم الذي تسبب في مثل هذا الألم. لقد أجاب الفيل عن السؤال الجوهري بشأن الحياة والذي تسعى شخصيات الفيلم إلى طرحه: كيف نجعل الألم يتوقف؟

سبب افتتان الشخصيات بحكاية الفيل أن هذا المخلوق منيع على نحو غامض، لا يتأثر بالألم من حوله. هو مجاز للعيش في عزلة، من غير اكتراث بقسوة الوجود، وبمنأى عن حماقات البشر. ربما جميع الشخصيات تتوق إلى الوصول إلى الحالة الذهنية (المتحررة من الانفعال وغير المتأثرة بما يحدث من حولها)، ولمواجهة المعضلات المستبدة في حيواتهم”.

ثقل الزمن  

الفيلم هو تأمل في اليأس، في ثقل الزمن، في ثقل العيش، في ما يستنزف الكائن وهو يقاوم، لكن في وهنٍ، في وجه قوة غير مرئية، خارجية غامرة. الكائن الذي يرزح تحت ضغوط هائلة، في عالم عدائي يشنّ عليه عنفاً لفظياً وبدنياً.

الشخصيات في مواجهة السؤال الوجودي عن ما تستحقه الحياة وهل هي جديرة بأن تعاش.. في حين أن كل المعطيات تؤكد أن الحياة هنا مأساة أزلية. صراع أزلي. والمخرج يحاول أن يُظهر الطرق المختلفة للتكيّف مع حالات اللامبالاة، الإهمال، التجاهل، النبذ، العنف.

المخرج هو بو يعالج فيلمه من منظور وثائقي وجمالي، معتمداً على مزيج غير متوقع من واقعية حازمة ورمزية وجودية. إنه فيلم يخالف قواعد الدراما التقليدية والمألوفة، وهو لا يوجّه اهتماماً كثيراً إلى الدراما التقليدية القائمة على السبب والنتيجة. كما لا يعتمد على السرد الذي يجعل كل الأشياء مترابطة. أما البناء المتشظي فيستخدم للتوكيد على المسافة بين الشخصيات الرئيسية أكثر من إظهار الروابط التي تربطها معاً. المخرج يتناوب برهافة بين المآزق الفردية لشخصياته الرئيسية. أحياناً نتابع الحبكات الواقعة بعيداً عن المركز والتي تتنامى حول الشخصيات التي تتقاطع دروبها بين الحين والحين.

الكاميرا في حركة مستمرة.. والمخرج هو بو يلاحق شخصياته أو يتابعها عن قرب وبإحكام عبر لقطاته المتواصلة، المديدة، المصورة غالباً بالكاميرا المحمولة باليد، وبإضاءة منخفضة. في أحوال كثيرة، الكاميرا تؤكد على المسافات بين الشخصيات. إن حركاتها ملموسة، إذ نجدها تطوف على مهل. تتجوّل. تطفو. تدنو كثيراً من المرئيات ثم تتراجع. تندفع نحو الشخصيات أو تتحرك خلفها. ترافقها. ترصدها من الأمام. أحيانا تبدو محايدة، وأحياناً تبدو مشاركة في الحدث. وأحياناً تكتفي بالتحديق. إنها تلتقط التوترات العاطفية العميقة، وتوحي بلحظات العنف (التي تحدث غالباً خارج الشاشة). اللقطات المديدة تكون حافلة بصمت موجع.

الكاميرا أحياناً تقترب من الممثل إلى حد الالتصاق به، كأنها تحاصره ولا تسمح له بمساحة من الحركة ومن الحرية. أحياناً تبدو الكاميرا كجهاز مراقبة عدواني ومنتهك، تراقب وترصد الحركات. تتحرى الهويات، والرغبات. 

التكوينات بارعة. والمخرج يستخدم اللقطات القريبة والعمق البؤري لحجب الأشياء التي لا يريد عرضها وتركها خارج البؤرة، ولتأكيد اغتراب الشخصيات وبعدها عما يحيط بها من أشخاص وأحداث. هكذا نرى بعض الأحداث تدور في الخلفية، خارج البؤرة، لذلك هي تكون غامضة وغير واضحة.

صور الفيلم تبدو مفرّغة من الطاقة، ومن اللون. مع أن الفيلم مصوّر بألوان مخفّفة، إلا أنه يظهر كما لو مصوّر بالأسود والأبيض. اللون الغالب، والغامر، هو الرمادي. السماء في الغالب غائمة. والمدينة تبدو شاحبة.    

المواقع الداخلية غالباً ما تكون معتمة بعض الشيء، أما المواقع الخارجية فتبدو فاترة وكئيبة.

رداً على سؤال، طرحته مجلة Filmmaker، عدد أبريل 2019، عما إذا كان استخدام الإضاءة الطبيعية لأسباب تتعلق بالميزانية، وما مدى أهميتها للقصة؟

أجاب مصوّر الفيلم فان شاو: “لم يكن الأمر يتعلق كثيراً بالميزانية. لقد أردنا للصورة في الفيلم أن تمتلك حساسية واقعية. الصور الظلية (السيلويت) التي خلقناها بالتصوير ضد الضوء هي مؤسلبة. لو استخدمنا إضاءة اصطناعية أكثر لأضعفنا الواقعية التي كنا ننشدها. لقد قررنا عدم استخدام أي إضاءة في الفيلم من أجل أن نحافظ على الطابع البصري المتساوق”.

عبر جمالية بصرية متميّزة، وأداء ذي حساسية عالية، قدّم المخرج هوْ بو عملاً ثرياً، قوياً، وعميقاً جداً، يلامس شغاف القلب ويحرّك المشاعر بعمق. إنه فيلم يستعصي على النسيان.   

Visited 77 times, 1 visit(s) today