فيلم “نور في الظلام”: تقاطع الإذاعي والسينمائي
اختارت المخرجة الشابة خولة أسباب بن عمر أن تدشن مسيرتها السينمائية بتصوير فيلمها الأول بالأبيض والأسود كما يعكس ذلك عنوانه (نور في الظلام)، وتلخصه القصة التي تنبني على استعادة حكاية شاب ضرير يعاند واقعه من أجل تحقيق أحلامه اليَقِظَة، وهي الحكايةٌ التي وضع سيناريوها بالاشتراك مع المخرجة، المخرج رؤوف الصباحي، ابن الإذاعيين المعروفين رشيد الصباحي والراحلة حياة بلعولة؛ إذ من المعروف أن للأب مشوار مشهود له بالعطاء الكبير رغم فقدانه المبكر لبصره. وبذلك فالفيلم يخلط بين السيرة الذاتية والغيرية ضمن مقاربة مرآوية حاملة لوعيها ولاوعيها عبر تلك اللعبة الفنية التي أدخلنا الإبن فيها من خلال حوار مباشر وغير مباشر مع أبيه. ويتماشى استبعاد الألوان مع موضوع الفيلم للتعبير عن الحالة التي تعانيها الشخصية الرئيسية، وكذا الإشارة إلى الظلمة التي تتحرك فيها دونما فقدان نور العقل والبصيرة والأمل.
ينطلق جينيريك البداية على إيقاع حوار، شبه إذاعي (مسموع)، حقيقي بين كاتب السيناريو والأب حول ذكرياته مع السينما التي كان يستمتع بها سمعا، فيسرح عبر خياله لاستكمال اللذة. يضعنا هذا المدخل في صميم اللعبة الفيلمية القائمة على إذكاء الحس النوستالجي في النفس، وجعل اللحظة السينمائية في عمق حالتنا الوجودية. وتنقلنا المخرجة عبر لقطة أخرى لا تقل حنينا وشاعرية عما سبقها حيث تزيح فيه فتاة – لا نكتشف وجهها في البداية – صورة مستطيلة للنجمة البريطانية “أودري هِيبْبُورَنْ” (1929-1993)، تخفي وراءها صورة الشاب الذي تدور حوله أحداث الفيلم، وهو في النهاية عشيقها. ويمكن أن نستشف من ترادف هاتين اللقطتين مدى تداخل الأزمنة، وكذا الانتقالات التي ستتم عبرها: انتقال داخل السينما، وداخل حياة الشخصية معا.
كتابة دائرية
استند الفيلم على تقنية الكتابة الدائرية التي تبدأ بشيء معين وتعود إليه، أو تبدأ بصورة ثم ترجع إليها، وقد اعتمد الفيلم عليهما بشكل مختلف: بدأ بالحوار وانتهى باستكماله عبر بَوْحٍ حميمي بين الإبن والأب، وبالصورة (البورتريه) ذاتها التي عادت صاحبتها لتخفي ملامح الوجه بوضع ورقة بيضاء عليها، تتضمن رسما لوجه طفولي. ويعني تغيير هاته بتلك أن الشاب الطموح، المتفوق بين زملائه في معهد الصحافة، والذي لم تسعفه ظروف أبيه، غير المبالي به، في ارتياد آفاق الاحتراف خارج المغرب، هو طفل في جسد شاب أو أن الشابة تعود من خلاله إلى طفولتها، فتعيش معه أحلامها/أحلامه (أحلامهما). وهكذا، سيجد عوضا لهزائمه وإحباطاته في رفيقته وصاحبته التي كلما أراد شيئا ممكنا حققته له بكل شغف.
تسعى الشابة إلى دخول عالَم الشاب الضرير بكل إصرار، وتلك نقطة قوة الفيلم لأن اقتحام حالة الظلام، وإخراجها من ذهن صاحبها إلى الوجود الفعلي، لَيُشَكِّلُ حالة نفسية ووجدانية لا تتأتى عبر المماثلة التي قد نقيس بها الأنا والآخر، فنقوم بإسقاط أحاسيسنا عليه لأن الألم والحب والإحباط، وما شابه ذلك، تجارب حميمة يصعب التماهي معها خصوصا وأن الغير قد يضع بيننا وبينه جدارا سميكا يصدنا ويحول دون وصولنا إلى ما قد نعتقده الفهم المطلق لحالته الداخلية. من الجلي أن التصور الإخراجي والبناء البصري للفيلم قد راهنا بشكل كبير على ذلك مما دفع صديقة الشاب إلى تجريب حالة العمى، وتعلم القراءة بطريقة “برايل” للعميان. ولكن، هل العمى مجرد حالة اصطدام مع أشياء العَالَم، وحجاب بسيط بين الذات والنور أم هو حالة وجودية تتجاوز العَالَم المحسوس، وبالتالي فهو حالة حدسية للذات والآخر والعَالَم؟
ينبني الفيلم على مقاربة هذا السؤال الإشكالي، لذلك كانت البساطة خادمةً له، ومُدَلِّلَةً لبعض صِعَابِه خصوصا وأن المتحدث عن التجربة يعايشها من الخارج، ولا يحسها من الداخل. ولهذا، حاولت الكاميرا أن تكون عين الضرير، وعيننا الراصدة له، بالرغم من أن “كُتَل وحُزَم” الظلام التي كانت تفصل بين بعض المَشَاهِد واللقطات كتقنيةِ مونطاجٍ وظيفية، تذكرنا بذلك الحاجز الطبيعي الذي يشكله العمى، ويكشف عن النفسية الهشة لصاحبه، والتي من الممكن أن تفاقم إحساسه بالدونية، فتذكي لديه أساليب العدوان، إذا ما لم يكن محيطه واعيا بحالته ومتفهما لها.
حالة إنسانية
قدمت المخرجة فيلما منسجما يضعنا أمام حالة إنسانية عميقة ومثيرة، فالمجتمع المغربي، ومعه العربي وما يشابههما من البلدان المماثلة، في حاجة إلى مضاعفة المجهودات بغية تذليل كل الصعاب الحَادَّة من طموحات تلك الفئة من المجتمع التي تدخر في أعماقها طاقة هائلة يمكنها أن تفيد فيما لا يمكن أن يقدر عليه غيرها. فقد أظهرت التمارين المسرحية والفنية التي كان يخضع لها الشاب، وخاصة ما كان يركز منها على طاقته الداخلية، قوة هائلة في التركيز والتتبع والتفرقة بين مختلف الأصوات الملتقطة من الخارج مما جعل كل الحواس خادمة للحاسة الناقصة، فالشم والسمع يتضافران لتقريب الكائن من الوجود.
جمع الفيلم بين ثلاثة أجيال من الممثلين المغاربة مما أضفى طابعا خاصا على الأداء الذي تراوح بين الاهتمام بما هو نفسي داخلي من خلال حالة الشخصية الرئيسة في الفيلم فضلا عما هو خارجي: كان للممثلين صالح بنصالح (صديق الإبن) وعبد اللطيف الخمولي (أب الإبن)، وللممثلة لطيفة أحرار (أستاذة المسرح)، وكذا للممثلين الآخرين دورا قويا في حَفْزِ الشاب (حسين أغبالو) والشابة (أميمة شباك) على التفاعل الإيجابي مع الموضوع الذي تناوله الفيلم بشكل يستدعي الإذاعي في علاقته بالبصري، ومن تَمَّ السينمائي.
تناولت السينما العالمية في عدة أفلام الإذاعة أو الراديو كموضوع بصرف النظر عن كونه مجرد خلفية أو ذريعة، ومنها بعض الأفلام التي كان البث حاضرا فيها بشكل فعال في بلورة المنتوج الفيلمي أو صياغة نسيجه الدرامي؛ إذ كان الرِّهَان مُنْصَبًّا على تجاوز الكلمة، والاستعاضة عنها بالصورة، فمن المعروف أن السينما صورة والراديو صوت. لكن، حين انضاف الصوت إلى الصورة صار للفرجة جماليات مضافة، ومسارات أخرى من قبيل الاهتمام بما يوجد خارج الإطار، والصوت الخارجي مما أغنى السينما وطور جمالياتها. ومن أهم الأفلام المكرسة كليا أو جزئيا للإذاعة أو الراديو نشير إلى: “تحيا الحياة” (1984) للمخرج الفرنسي “كلود لولوش”، و”سر قطار” (1989) للمخرج الأمريكي “جيم جارموش”، “صباح الخير ڤييتنام” (1987) للمخرج الأمريكي “بيري ليڤنسون”، و”صباح الخير إنجلترا” (2000) للمخرج البريطاني – الأسترالي “ريشارد كورتيس” وغيرها.
أحلام الشباب
نجح الفيلم في أن يدخلنا إلى أحلام الشاب ومعها أحلام الشباب، وأن يرحل بنا إلى نوستالجيا زمن النضال المعرفي داخل المعاهد العليا، فمن يَخْبِرُ معهد الإعلام والاتصال بالرباط، ومجاورته لعدة مؤسسات علمية منها الكليات التابعة لجامعة محمد الخامس (العلوم، الآداب والعلوم الإنسانية…)، وكلية علوم التربية، وكلية الطب والصيدلة، والمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية، ومعهد الإحصاء، والمدرسة العليا للمعلوميات وتحليل النُّظُم، ومعهد الزراعة والبيطرة، وأحيائها الجامعية التي كانت مشتلا للقاء والمعرفة والنضال والحب والقراءة والنقاش والاختلاف داخل الفضاء الجامعي وخارجه، ليجد في هذا الفيلم، ذي الموازنة المالية المتواضعة، شحنة عاطفية متدفقة، وحسا فنيا مرهفا استطاعت المخرجة أن تقبض عليه وأن تمرره بطريقة شاعرية تبتعد عن المباشرية، وهيمنة الحوار التي تلتصق بالإذاعة. وبهذا يكون الفيلم مؤشرا إيجابيا على قدوم مخرجة سينمائية متمكنة من اللغة السينمائية، وعلامة دالة على مقاربة فنية وإنتاجية ستعزز المشهد السينمائي المغربي الجديد.