فيلم “ميموزا” الفائز بـ”الهرم الذهبي”: متاهة البحث عن النهاية

كان من أكبر المفاجآت فوز فيلم “ميموزا” Mimosasبجائزة “الهرم الذهبي” لأحسن فيلم، في ختام مسابقة الدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان القاهرة السينمائي التي أقيمت في الفترة من 15 إلى 24 نوفمبر. هذا الفيلم من اخراج المخرج الاسباني أوليفر لاكس المقيم في المغرب ويعرف جيدا دروبه وثقافته وعاداته وتقاليده، وقد أنتج الفيلم بتمويل قطري فرنسي اسباني مغربي. وجاء ناطقا في معظمه باللغة العربية باللهجة المغربية الصحراوية، وهي البيئة التي تدور فيها القصة- ولا نقول الأحداث- فليست هناك “أحداث” في هذا الفيلم، بل حدث واحد ممتد، في فضاء طبيعي يتدرج من الرمال إلى التلال الجرداء إلى جبال تغطيها الثلوج، وهو ما يقتضي الكثير من الصبر من جانب المشاهدين حتى المجربين منهم على مشاهدة الأفلام البطيئة الإيقاع التي لا تعتمد على “دراما” ذات معالم واضحة محددة بقدر ما تعتمد على “وصف حالة” رغبة في توصيل إحساس ما.

هل نحن أمام فيلم “ويسترن” عربي آخر مثل “ذيب” الأردني؟ هل هو فيلم صوفي يتناول البحث عن الله، عن النهاية، عن معنى الموت، عن مغزى العودة إلى الأرض التي جئنا منها، إلى الجذور، عن أسباب سعي الإنسان وهو يودع آخر لحظات الحياة، إلى أن يدفن في موطنه الأصلي طبقا للتقاليد الموروثة؟ هل هي مغامرة لمجموعة من الموهومين الذين لا يعرفون سوى الاستمرار في السير رغم أنهم ليسوا واثقين من أن الطريق الذي يقطعونه سيوصلهم إلى الهدف الذي يرجونه؟

ربما يمكن القول إن الفيلم يدور حول كل هذه الأشياء والتساؤلات. لكن المشكلة أن سيناريو الفيلم يخفي أكثر مما يكشف ولكن ليس من خلال لغة الشعر الجميل التي تقودك إلى استدعاء كل الأفكار والمشاعر التي تتعلق مثلا بفكرة النهاية السرمدية الممتدة في المكان والزمان، فالشعر السينمائي الذي كان يمكن أن يتولد من الصور واللقطات ودلالاتها الكامنة، يفسده التكرار، والاستطرادات، والوقوع في غرام اللقطات الطويلة التي تمتد لدقائق دون أن تضيف جديدا، والعشوائية في ترتيب المشاهد، أي عدم وجود منهج في كيفية بناء الفيلم، والانتقال الخشن فيما بين المشاهد مما يشعر معه المشاهد بوجود خلل ما أو بعض التداخل والاضطراب في الأزمنة.

عناوين الفيلم

يبدأ الفيلم بداية جيدة توحي بالكثير، لكنه ينتهي دون أن يربط الخيوط التي نسجها في البداية، وبالتالي يخرج المتفرج محبطا لأنه لا يعثر على ما أوحى له الفيلم به في بدايته. ينقسم الفيلم إلى مدخل وثلاثة فصول، تحمل عناوين ترتبط بالصلاة الإسلامية: الركوع، القيام، والسجود. هناك شيخ طاعن في السن، مريض يشرف على النهاية، يريد أن يعود إلى بلدته الأصلية “سيلجماسا”، لكي يُدفن مع أسلافه. وهو يستأجر سيارة بسائقها من بلدة ما صحراوية لكي تنقله إلى هناك. وسرعان تتسع الفكرة لتشمل قافلة من السيارات تضم زوجة الرجل وبعض أقاربه وأصدقائه، ثم يظهر رجل يقال إنه يجلب “البركة يدعى “شكيب”، يتمتم بكلمات عن الله والشيطان، يتطوع بمصاحبة القافلة لكي يرشد السائقين إلى الطرق الصحيحة. لكن هناك أيضا اثنان من اللصوص الخارجين عن القانون هما أحمد وسعيد، يريدان استغلال الفرصة والاندساس وسط المجموعة وتضليلها، ثم سرقة ما مع الرجل من أموال ومنقولات.

لعنة أم نعمة؟

ما يحدث أن هذه القافلة الغريبة التي تعبر الصحراء، تثير خلفها عاصفة من الأتربة والغبار، حتى ليبدو البقاء في هذا المناخ الحار المغبر مستحيلا بالنسبة لشيخ مريض طاعن في السن، وتكون النتيجة أنه يلقى مصيره قبل أن يصل إلى مبتغاه. يشير أحمد وسعيد على الرجال أن يتخذوا طريقا مختصرا يمر عبر سلسلة جبال أطلس، للوصول إلى الهدف، فلابد من دفن الجثة. لكن هل يرغب الجميع في البقاء مع جثة الرجل. بعضهم يقترح مثلا دفنها في الصحراء فتركها لفترة طويلة من المحرمات طبقا لتعاليم الدين، والبعض الآخر يتخلى عن الركب مبتعدا عن فكرة مصاحبة جثة هامدة، أما ما يحفظ للمسيرة زخمها فهو شكيب، لكن شخصيته غير واضحة تماما، فهل هو نذير بالخلاص، أي “مخلص” أو رجل من عباد الله الصالحين من أصحاب الفكر الصوفي، أم أنه مجرد متطوع مهجووس بفكرة ما غير واضحة، يغلفها بدافع التضامن الإنساني؟

اللصان لا يتورطان فيما كانا قد اعتزماه في البداية، ربما أمام هيبة الموت، والمرأة تختفي من الصورة، ويمضي الفيلم بعد التخلي عن السيارات ليركب الرجال البغال، ويحاولون الصعود إلى قمة الجبل ثم الهبوط من الجهة الأخرى على نحو يذكرنا بفيلم “فيتزكارالدو” للمخرج الألماني فيرنر هيرتزوغ.

متاهة الصحراء تبدو معادلا للكون الأبدي الممتد، والطبيعة المتغيرة التي تتحول إلى طغيان وحشي قاس، تختبر قوة الإنسان على الصمود، وكأنها “غضب الرب”، والحالة المستمرة العبثية التي تشير إليها وجود جثة يعجز الرجال عن توصيلها إلى مستقرها الأخير بما في ذلك من “معصية”، تبدو أيضا كالقدر الممتد أو اللعنة الأبدية.

لاشك في جمال التصوير السينمائي الذي أنجزه المصور ماورو هيرشي وقطعات المونتاج المنفذة بمهارة حرفية لاستدعاء أقصى من يمكن من داخل مشاهد الجبال والصحراء والثلوج والغبار وإبراز التناقض بين الحجم الضئيل للإنسان وهيمنة الطبيعة وجبروتها وقوتها، لكن المشكلة الأساسية أن هدف الفيلم يظل غامضا، عصيا على التفسير تماما مثل هدف الرحلة التي لا تصل الى منتهاها ولا يحدث شئ كبير خلالها، بل تضيع في “التفاصيل”!

Visited 44 times, 1 visit(s) today