فيلم “ميلوديا المورفين” للمخرج هشام أمال موسيقى الألم
لا يمكن تجاوز عتبة العنوان كمدخل فلسفي ودرامي لفهم بنية الفيلم وحمولة خطابه التي يستمدها من مرجعيات مختلفة يشكل الطب والموسيقى أسها الفني؛ إذ تفيد الميلوديا في سياق النظام الموسيقي ذلك البعد الذي يضع في حسبانه الارتفاعات الصادرة عن مصدر فردي أو جماعي، عبر الصوت أو الآلة الموسيقية، ضمن منجز موسيقي معين، فهي الجزء الذي يبرز في الواجهة، ويحدد علاقة العازف أو المغني بالعازفين أو المُرَدِّدِين المصاحبين له، وهي تتكون من عدة جمل أو موتيفات موسيقية.
المورفين هو المكون الجزيئي الأساسي للأفيون، ويشكل إفرازه (حليبه) العنصر المخدر فيه، لذلك تم استعماله منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد في مجال الأدوية نظرا لنجاعته الكبيرة في تسكين للآلام، ويتحول الإفراط في استعماله إلى إدمان. الأفيون لفظ مشتق من إلاه النوم “مورفي” في الميتولوجيا الإغريقية، لذلك ظل يحتفظ الدواء بهذا البعد الخفي في التأثير الذي يسري ببطء عبر الجسم، فيرديه هادئا.
إذا ما حاولنا تأمل تلك المزاوجة بين الميلوديا والمورفين، فسوف ندرك بأن الفيلم عبارة عن بحث فني في الموسيقى كخلفية لتقديم فيلم درامي حول العلاقة الممكنة بين المرض والألم والفن، فلا إبداع بدون ألم أو معاناة، بل إنه رديف الأزمة والمخاض، فقد يصاب المبدع في بعض اللحظات التي قد تمتد لمدة غير يسيرة، بنوع من الاحتباس والنضوب على مستوى القوة الاقتراحية والتخييلية نتيجة ظروف معينة، ولكنه سرعان ما يجد لنفسه انفراجات تأتي كالوميض فيحقق منجزات مبهرة.
يتمحور سيناريو الفيلم حول قصة المُوسِيقِي وعازف الكمان الشهير “سعيد الطاير” (هشام بهلول) الذي فقد ذاكرته إثر حادثة سير مفجعة، لكنه سرعان ما استعاد ذاكرته بفضل إبداعاته الموسيقية. تتردد على طول الفيلم أسماء عدة أدوية تتجاوز الواحد والأربعين نوعا، وهي ملتصقة بما عاناه هذا الفنان العائد إلى الحياة بعد عدة محاولات فاشلة للانتحار، وكذا بالمرض العضال الذي يعانيه الأب (حسن بديدة)، وهو ما كان يثير آلاما مبرحة لدى المصاب به، ويجعله يعيش حالات من الهلوسات والأوهام والتخييلات الغريبة.
حمل المقطع الثالث عنوان الفيلم عينه لتكون “ميلوديا المورفين” بمثابة الناظم الموسيقي الذي سيضبط إيقاع الفيلم، ويعزف على الأوتار الحساسة للمعاناة المضاعفة لشخصيته الرئيسية، فللموسيقى قدرة قوية على فك إبهامات العَالَم، وآلية إنسانية رفيعة لكشف التباسات الذات والعَالَم، ودفع الإنسان نحو الخراج من متاهات النسيان الفظيعة والانعطاف صوب مسارات الذاكرة الرحبة والحية.
قَسَّمَ المخرج فيلمه الذي ألف سيناريوهه وأنتجه بنفسه إلى أحد عشر جزءً وخاتمة كانت بمثابة المحطات التي انتظمت حولها حياة الفنان التي سَيُفْرِدُ الفيلم مقطعا هاما ومؤثرا لشخصية “الأب” فيها، والذي ارتبط ألمه بإبداع ابنه حينما لجأ، وبشكل مازوشي، إلى قطع المورفين عنه إثر وضعه المادي المزري، وهو الأمر الذي سينقلب إلى تجربة فريدة من نوعها سرعان ما ستعيد الإبن إلى العطاء، وهنا نتذكر حياة العبقري “فولفغانغ أماديوس موزارت” التي كانت مطبوعة بالفقر والتعاسة بالرغم مما حققه على المستوى الإبداعي، وهو يشكل مرجعية الفيلم التي دشنها المخرج بمقولة افتتاحية لفيلم مفادها: “لو أن الناس ترى ما بداخل قلبي، لأحسست بالخجل.. كل ما فيه بارد، بارد كالثلج” (فولفغانغ أماديوس موزار – مراسلات – سبتمبر 1790).
سيفتح المخرج نافذة ضمن المقطع الفيلمي السابع من فيلمه المسمى “تعاون” على جزء من الحياة الباذخة للشاب “بوب K” أو النبي المزيف الذي دفع بالموسيقى نحو الهاوية.. إذ سَيَرِدُ في إحدى مقاطع الحوار الحميم الذي دار بين الشاب والمايسترو “سعيد” بأن الموسيقى “اختطفت وقتلت وتم دفنها في الصحراء عن طريق صناعة الذوق الرديء”.. وهي لحظة اعتراف يشهد فيها هذا المغني على نفسه بأنه لم يبدع في حياته قط، ولم يمسك آلة موسيقية حقيقية كي يؤلف موسيقى صادرة من القلب عوض طاولة المزج (الميكساج).. سيطرح على “سعيد” رغبته في التعاون المشترك بينهما بالرغم من علمه بحالته الصحية القاهرة، وسيذكره بمقطوعة “شروق”، الأولى في ألبومه “ليل وسفر”.. يحدث اللقاء في مبنى “ڤيلا” ضخمة من الطراز التقليدي الباذخ الذي يضم أرقى أنواع الزليج المغربي والخشب المنقوش المزخرف والجبص المزركش والحديقة الغناء والقباب والأقواس، وكأننا بصدد موسيقى أخرى أبدعتها أنامل الصناع التقليديين للدلالة على الموسيقى التي يمكن ألا ننتبه إليها، ولكنها مودعة في الأشكال التي تحيط بنا.. فهل من مكتشف!؟
ستسود بعد ذلك ثلاث دقائق حالةٌ من الصمت المتضمن في مقطع موسيقي خاص للدلالة على الفراغ والعدم والنسيان.. إذ يتعرض الشاب لهالة من الإشاعات التي ترجح موته بسبب تأثير الأفكار السوداوية التي كانت تروج في حياته، ورغبته العارمة في تجريب الموت قصد الكتابة عنه إثر معاناته من ورم يستقر بقرارة دماغه.
يقوم البناء الفيلمي على التذكر، وحفز الذاكرة على التدفق لبعث الحياة في الحاضر وإنقاذه من إرث الماضي المنير والمشرق، وذلك بعد أن فشل المؤلف الموسيقي المحترم بريقه، وطفا على السطح جملة من الكائنات السطحية التي بنت “مجدها” على الاستعراضية والنجومية المنمطة التي تغطي على ضعف العطاء، وتكريس الخفة والتفاهة كتجليات ذوقية مبتذلة.
ساير الإخراج الكتابة السيناريستية المبنية على مقاطع سردية كبرى سرعان ما ستظهر نتائجها على إيقاع الفيلم وتؤثر في عملية المونتاج كذلك، وهو ما جعل هذا التصور الفني قائما على التقسيم البصري منذ المرحلة الأولى للكتابة السينمائية، متخذا من التشذير البصري رهانا فنيا ملائما لحياة متقلبة لا ندركها إلا كمقاطع فجائعية، وهي مراحل بنائية لإنتاج الفعل الدرامي عبر آليات الصورة السينمائية التي دعمها المخرج باستثمار أرشيف مهم من الصور الثابتة (صور فوتوغرافية ولوحات فنية) والمتحركة (لقطات ومشاهد مناسبة لموضوع الفيلم).
حاول الفيلم الاشتغال على الجانب اللاواعي في العملية الإبداعية، ومساءلة المكبوت والممنوع بغرض فتح تلك الكواليس التي تتستر خلفها بعض المقولات المواكبة للإبداع من قبيل الإلهام والعبقرية والموهبة بصفتها مفاهيم تدخل في سياقات اللامرئي والميتافيزيقي، فهي منطقة معتمة غالبا ما يقود الحديث عنها نحو الدخول في مناطق معتمة وأخرى منيرة، لكنها تدفعنا نحو فتح آفاق جديدة للتفكير في علاقة الذات المبدعة باللاوعي. فالفيلم مساءلة عميقة للمخيف والخفي فينا، للأهواء والنزوعات الإنسانية الغريبة، والأهواء الاستعلائية غير الطبيعية، والرغبة في تدمير الذات، والميل للموت والانتحار، وهي مفاهيم ذات صلة بالمفاهيم المرتبطة بالجميل والقبيح والذوق والتذوق والإبداع وغيرها.