فيلم “منتصف صيف”: دراسة الحزن في أفلام الرعب الفلكلورية
في السنوات الأخيرة طرأ تطور كبير على أفلام الرعب؛ بحيث غدت لوناً لا يقتصر على المشاهد المفزعة أو المنازل المسكونة التي تجعلنا نقفز رعباً. بل اتجهت أيضاً إلى استكشاف مشاعر الخوف وعدم الأمان والصدمات النفسية والحزن، حتى أن المخرج الموهوب جوردان بيل وظّف الرعب لتناول موضوعات مثل العنصرية وصراع الطبقات في فيلمه .(Us)
في العام الماضي قدم لنا المخرج السويدي (آري آستر) فيلمه السينمائي الأول (وراثي) والذي تعمق في الحزن عبر صور كابوسية مرعبة. وأظهر الفيلم مدى تأثير قوة غامضة لمأساة ماضية على أفراد عائلة وتمزيق شملهم. ثم عاد (آستر) وفي جعبته فيلمه الثاني “منتصف صيف” Midsommar وبرغم أنه فيلم رعب مربك ومزعج من الفلكلور النوردي، إلا أنه مُخدِّر للإحساس بشكل ممتع وغريب.
داني بطلة الفيلم، هي فتاة مضطربة نفسياً تتعاطى الأدوية المهدئة مثل الأتيفان، مثقلة بمشاعر الحزن، تجد نفسها عالقة في علاقة مؤذية مصيرها الفشل مع رجل أناني. بعد تلقيها بريداً الكترونياً غامضاً ومخيفاً من شقيقتها يلمح إلى أنها ألحقت الأذى بنفسها تنتاب داني المخاوف من اقتراف شقيقتها التي تعاني من اضطراب ثنائي القطب (بايبولار)، شيئاً سيئاً. تحاول داني والتي لعبت دورها بمهارة الممثلة فلورينس بيو، الاتصال بوالديها دون جدوى؛ فتساورها مشاعر الخوف والقلق. وفي الوقت نفسه تخاف من إثقال حبيبها كريستيان والذي يحاول الانفصال عنها منذ عام، بمشاكلها الشخصية وظهورها بأنها تضخم الأمور؛ وتتردد في إخباره بمخاوفها. <<ماذا لو أنني أخيفه وأبعده عني؟ تسأل صديقتها والتي تحاول طمأنتها وأخبارها أن وجود شخص في حياتك يمكنك الاعتماد عليه هو أساس العلاقات.
هذا الشعور بالذنب وعدم الأمان يحدد على الفور طبيعة علاقتها بكريستيان؛ صورة مدمرة من الوحدة أبعد ما تكون عن الأساس المثالي لأي علاقة إنسانية. لا عجب أننا لا نندهش عندما نرى كريستيان بعدها بدقائق يجلس في مطعم ويستمع لرفاقه (جوش ومارك وبيل) يحثونه على ترك داني ومواعدة فتاة أخرى.
في منزلها نرى داني تتلقى أخيراً الأنباء المفجعة عن عائلتها. ونسمع بوضوح عبر مكالمة هاتفية مع كريستيان، صرخة حزنها وعدم تصديقها عندما تعرف أنها غدت الآن وحيدة تماماً. وكما هو متوقع بعد المأساة المروعة، لم يستطع كريستيان الانفصال عنها. فيسمح لها بأن تصحبه في رحلته إلى المجتمع الريفي (هارجا) في (هالسينغلاند) بالسويد للبحث عن موضوع لأطروحته مع رفاقه.
(هارجا) هو المكان الذي نشأ فيه بيل، حيث يقام كل تسعين عام احتفال بعيد منتصف الصيف والذي يستمر لمدة تسعة أيام. وعندما يصل الجميع إلى هناك تبهرهم الطبيعة الخلابة الخضراء الهادئة حيث يقضي السكان أيامهم في الغناء والرقص بملابس بيضاء جميلة. غير أن هذه الواجهة سرعان ما تتلاشى وتضح النية الحقيقية لهذه الطائفة الوثنية بعد عدداً من طقوس التضحية البشعة التي روعت داني والآخرين.
وبينما تشعر داني بالخوف والذعر من الأنشطة الغريبة التي يقوم بها هؤلاء القوم، لا يعر كريستيان ورفاقه هذه الطقوس الاهتمام الكاف إلا من الناحية الأكاديمية، حتى بعدما شاهدوا عجوزين من هارجا ألقيا أنفسهما طوعاً من منحدر تلبية لهذه الطقوس. لم يكن لدى داني خيار آخر غير البقاء، حتى لو كان ذلك يعني كبتها لقلقها وصدمتها التي تطفو على السطح بين الحين والآخر. وعندما يلحظ بيل أن داني تجاهد لكبت حزنها يظهر تعاطفه الذي لم يظهره كريستيان: << إنه صديقي الطيب وأنا أحبه. لكن هل تشعرين بأنه يحتويكِ؟ هل يبدو كالوطن بالنسبة لكِ؟
شيئاً فشيئاً تجد داني نفسها مستدرجة من قِبل سكان هارجا؛ فتساعدهم في المطبخ بل وحتى تشارك في إحدى الطقوس الرئيسية من المهرجان، وهو البحث عن ملكة مايو، بينما يتجول كريستيان وجوش ومارك مدفوعين بأهدافهم الخاصة. ويبين هذا بشكل يدعو للسخرية طبيعة علاقة داني وكريستيان؛ وهي علاقة غير مخلصة ومن طرف واحد. وفي الوقت الذي يفشل فيه كريستيان والآخرون في فهم هذا، تلاحظ داني الارتباط والتمسك الكبير الذي يبديه لها سكان هارجا: مكان يبدو كالوطن، أناس يمنحونها أحساس الانتماء. ما يريد (آري آستر) قوله هنا أن كل شخص، مهما كان القرب منه غير مريح، يستحق تعاطفنا ويستأهل أن يكن لديه عائلة.
يبدو فيلم “منتصف صيف” في ظاهره امتداداً لما فعله (آستر) ببراعة في فيلمه (وراثي)؛ دراسة إنسانية عن الحزن المكبوت. ولكن مع تكشف أحداث الفيلم، يتضح أن الفيلم عبارة عن قصة متعددة الطبقات تحوي بين طياتها تيمات الوطن والعائلة وشعور الانتماء والحاجات العاطفية التي ليس من السهل البوح بها، خاصة من قِبل من يتعايش مع الإحساس المدمر للاضطراب النفسي.
هنا يكمن خطأ كريستيان ورفاقه؛ وهي فكرة أن داني لا تستحق تعاطفهم لأن حالتها تتطلب مساعدة من جانب كريستيان. حتى في أمس فترات احتياجاتها، بعد مأساة عائلتها، يحاول كريستيان جعل داني تشعر بالذنب عندما تطلب منه إظهار تعاطفه.
هذا لا يعني أن داني لا يمكنها أن ترى هذه العلاقة على حقيقتها، ولكن هل هناك خيار أفضل بالنسبة لها؟ الخيار الوحيد أمامها هو أن تبلع إحباطها وتفعل ما يقوله لها حبيبها، حتى لو كان ذلك يعني أن تدفن مشاعرها الحقيقية وتبقى معه، عوضاً عن الهجران والوحدة. عندما يكبت المرء مشاعر الحزن والصدمة، تتسلل هذه المشاعر لتغلف كل دقيقة في حياته؛ فيصبح هش وضعيف، وإحساسه بضرورة تولي كل شيء بنفسه يفضي به في النهاية إلى الانهيار، مثل نوبات الهلع التي كانت تنتاب داني طوال الفيلم.
كان يمكن لـ(آستر) أن يستغل حزن داني ويختاره كحبكة واضحة؛ أن يجعل منه صحوة ليدفعها إلى إدراك أن ثمة شيء خاطئ في سكان هارجا، وأنه يتوجب عليها الفرار لأبعد ما يكون. عوضاً عن ذلك، استخدم (آستر) حزن داني كصورة عميقة للعواطف البشرية. ولذا يعتبر الفيلم بمثابة دراسة متعمقة في الألم، إذا سمحنا لأنفسنا بالشفاء من الألم، سيمنحنا ذلك الفرصة لتغير أنفسنا والألم إلى شيء قوي. طوال الفيلم أراد المخرج أن ندرك أننا في وحدتنا نحتاج إلى شخص يساعدنا على المضي قدماً، شخص يظهر لنا حبه وتعاطفه. وهو ما لم يفعله كريستيان لداني، ولكن مع نهاية الفيلم، عندما نراها ترتدي تاجها وفستانها الوردي وتبتسم بسعادة، نعلم أنها عثرت في نهاية المطاف على شعور الوطن والعائلة.
فيلم “منتصف صيف” المربك والمثير للجدل هو صورة عميقة ومتمعنة في مدى تأثير الحزن والصدمة والأسى والاضطراب النفسي على المرء، ويحمل في طياته رسالة واضحة عن أهمية وجود أشخاص بجوارنا نستند ونعتمد عليهم.
المصدر:
الكاتب: ريزندو نوارا
تاريخ النشر: 16-9-2019
الموقع: جاكرتا بوست
The Jakarta Post